فترقرقت عيناه بالدموع وقال: اعذريني، اعذريني يا أماه لأني لا أملك حواسي. - ما لك يا حبيبي؟ خفض من اضطرابك ولا تخف عني ما بك.
قال: أحبها يا أماه، نعم أحبها حبا مفرطا. ولم يتمالك عن البكاء، فخافت عليه أمه من شدة الانفعال، فترامت عليه وضمته إلى صدرها وقبلته قائلة: لا تخجل يا ولداه؛ إن المحبة إذا قرنت بالشرف والشهامة لا حياء بها ولا خجل، فسكن روعك، واشرح لي كيفية حبك لها، وهل تحس نحوها بحب قلبي؟ - أحبها يا أماه حبا لا أفهم كيفيته ولا مقداره، ولكني أحس أن له تأثيرا في كل جوارحي؛ كأنه جرى مجرى دمي في مفاصلي، فقالت: كأني بك تميل إلى الاقتران بها.
فأطرق حياء وخجلا وقد مال إليها مجهشا كأنه يريد التكلم ويرى دون طلبه عقبات، حتى قال: أميل يا أماه، ولكن ماذا ينفع الميل وبيني وبينها بون عظيم، وأنا في أصعب الأحوال؟ لا أعلم حقيقة مستقبلي.
فرق قلبها له، وغلب عليها الحنو فقالت: إني أعرف الفتاة يا ولدي، وقد سمعت عن تهذيبها ولطفها وذكائها من فلانة جارتنا، فلا ألومك على حبك لها، لكن لا يخفى عليك صعوبة مركزك، وما يحول بينك وبين الافتكار بهذا الأمر، فضلا عن أن الفتاة من عائلة عريقة في الحسب والنسب، وذات ثروة عظيمة، فاجتهد أن تكون رجلا عظيما فتستحقها، ولا يأخذ منك اليأس مأخذه، فطالما كنت ذكيا مهذبا، صادق اللهجة، صحيح المبادئ، مقداما، لا يمنعك مانع من الارتقاء ودوس كل ما يعترضك من المصاعب. ومما يساعدك على نيل مطلوبك كون حبكما متبادلا؛ فلا تخف ميلها إلى سواك، وأطلعها على حقيقة حالك؛ فإن كانت أهلا لحبك، والحب متبادلا؛ رضخت لسلطان الهوى، وساعدتك في مرادك، إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا، وإلا فهي ليست أهلا لك؛ فالتحجب بك أولى، ونسيانها منك أحرى.
إن كلامك الحي أيتها الوالدة الحنونة قد نبه في أشرف المبادئ، ورقى أفكاري إلى درجة لا أرضى معها التزلف والمذلة، ولكن آه يا أماه!
سهم أصاب وراميه بذي سلم
من في العراق لقد أبعدت مرماك
فأين أنا الآن مما تقولين؟ وكم هو الزمن الذي يؤكد لي حقيقة مستقبل أستحق به فدوى، حتى إذا فرضنا المستحيل وتأكدنا ذلك النجاح الموهوم، فهل تبقى فدوى إلى ذلك الوقت كما هي الآن؟ لقد أبعدت يا أماه مرماك.
فقالت له: الحب يعمي البصيرة يا ولدي. كن حازما ولا تطع هواك، فأين أنت الآن من نيل تلك الفتاة ولا تزال تلميذ مدرسة لا مهنة لك ولا منصب يقوم باحتياجاتك؟ فضلا عن أن أباها لا يزوجها إلا لمن يماثلها ثروة، أو لمن هو مشهور بين رجال الأعمال. ولا أظنك إذا نلتها ترضى أن تعيش من مال أبيها.
فقال: كلا، وأظنها إذا عرفت بأني لست شيئا مذكورا يفتر حبها؛ فلا بد لي من السعي إلى العلاء إرضاء لها، ولو كلفني ذلك شق الأنفس. على أنها لو رضيت هي فأنا لا أرضى.
Página desconocida