فتكلم عزيز عند ذلك وقال: إني مستوجب لأكثر من الموت؛ لأن السماء قد سخطت علي لجنايتي ودناءتي، وكأن الله لم يرد أن تدنس يدك بقتلي، فقتلني بالمرض، فأتقدم إليك أن تشفق على دموعي وضعفي، وتصفح عن شقاوتي؛ فإني لا أستحق أقل من القتل، وعما قليل أفارق هذه الدنيا، فلم أشأ مفارقتها قبل أن أستغفرك أيها الشهم الكريم؛ لأني قد أخطأت إليك، وأذنبت ذنبا لا يغتفر، وكم أردت بك سوءا وأنت لم تجازني إلا بالصفح! فها إن الله قد انتقم لك انتقاما عادلا.
فلم يعد شفيق يتمالك عن البكاء، ولكنه هم إلى عزيز وقبله مرارا وقال له: إن الله يغفر الذنوب يا عزيزي، وكل شيء بقضاء منه سبحانه وتعالى. فها إني صافح عنك، وأطلب إلى الله - تعالى - أن ينقذك من هذا الداء، وينهضك من هذا الفراش.
فصاح عزيز وقد أنهكه العياء: لا، لا، إني لا أستحق الحياة، ولم يعد يحلو لي المقام في هذه الدنيا؛ لأني دنستها بشروري، وارتكبت فيها الخيانة والغدر ... أجل إني خائن غادر. إلي يا موت؛ فقد كرهت حياتي الرديئة المدنسة بالشرور، ثم التفت إلى الباشا قائلا: وأنت أيها الشيخ الجليل، اصفح عن شروري، واسأل ذلك الملاك الأرضي أن تعفو عني لما سببت لها من الشقاء بخيانتي، فكم نغصت عيشها، وحاولت أذيتها، وهي ثابتة على وداد من لا أستحق أن ألثم حذاءه! آه لو أراها فأقبل نعالها وأستغفرها قبل موتي؛ لأني أشعر بثقل آثامي نحوها ونحو حبيبها هذا ... آه! إني أشعر بأثقال أعظم مما أحتمل، وها إني أرى الأبالسة قادمة لاختطاف روحي الشقية لتلقيها إلى السعير.
فقال الباشا: شفاك الله يا ولداه، ولا أراك مكروها، فإذا كنت مشعرا بخطئك، فيرفع الله هذه الشدة عنك؛ لأنه يقبل التائبين. شفاك الله بجاه خاتمة الأنبياء وسيد المرسلين.
الفصل الرابع والتسعون
العفو عند المقدرة من شيم الكرام
فقال عزيز: إن ذنوبي أكثر من أن تغتفر، والموت أحب إلي من الحياة، ولم تعد عيناي تستحق النظر إلى خيال تلك الفتاة الطاهرة، العفيفة، الودودة، الخالية من كل عيب، ولا إلى هذا الشهم الفاضل الشريف الكريم الأخلاق ... لا لا، بل الموت خير لي. قال ذلك وألقى بنفسه إلى السرير، وغاب عن الصواب، فأسرع شفيق إلى الطبيب، فدخل وأمر بالثلج على رأسه، فجاءوا به وجس نبضه فأوعز باشتداد الخطر، فاشتد بلبال شفيق والباشا كثيرا، ولم يعد يمكنهما براح الغرفة، فطلب إليهما الطبيب أن يخرجا قليلا، ففعلا، فإذا بفدوى وسائر العائلة بانتظارهما في حجرتهم، فدخلا باكيين فسألوهما عن عزيز، فأخبراهم بما دار بينهم، فشفقوا عليه كثيرا، ومضى ذلك الليل ولم يناموا إلا يسيرا. وبكر شفيق في الصباح التالي إلى غرفة عزيز، فقيل له إنه راقد وقد كلله العرق، فاستبشر بزوال الحمى، وعاد فأخبر العائلة بما كان. أما فدوى فكانت تعجب لشهامة حبيبها وكرم أخلاقه، وودت شفاء عزيز إكراما لعواطفه؛ لأنها رأته آسفا كثيرا على موته.
ولما كان الضحى جاءهم خادم الفندق أن يسيروا إلى غرفة عزيز، فإذا هو في السرير وقد صفا لون بشرته، فدخل شفيق والباشا، فقال لهما: ألا يأذن لي سيدي بنظرة أزودها قبل الممات من تلك العذراء الطاهرة، ولو من وراء اللثام؛ لعلها إذا رأت حالتي ترثي لي، وتعفو عن زلتي؛ فإن الله يستجيب دعاء الطاهرين.
فبعث الباشا إلى فدوى، فحضرت ملثمة، وحضر معها والدتها وجداها، فلما وقع نظره عليها بكى ونادى بأعلى صوته: إليك أتوسل أيها الملاك الأرضي أن تصفحي عن زلتي، وتعفي عن ذنبي؛ أنا الخائن الغادر الكاذب. وها إني سأفارق هذا العالم المدنس بشروري قريبا، فأطلب إلى الله بهذا اللسان الدنس، وهذا القلب الشقي أن يتم اقترانك بهذا الشهم الذي يليق بك، وأن يحفظكما سعيدين راتعين في الرغد والهناء؛ لكي تنسيا ما كابدتماه بسببي من المتاعب والعذاب. قال ذلك وأخذ يشهق في البكاء حتى كاد يشرق بدموعه. أما فدوى فلم تجب ببنت شفة، ولكنها تأثرت من تلك العبارات كثيرا حتى بكت وصفحت عما تحملته بسببه.
فقال الباشا: إنك يا ولدي لقد فطرت قلوبنا برقيق كلامك، وصرنا نود شفاءك من كل قلوبنا، وأنا واثق أن ولدي شفيقا لا يريد لك إلا الخير، فنطلب إلى الله أن يشفيك، فتكون لنا كما يجب أن يكون التائب.
Página desconocida