وكانت بلاد غطفان ساحة للعداء الشديد والحرب المستعرة بين قبيلتين من قبائلهما وهما عبس وذبيان، وكانت هذه الحروب وهذا العداء سببًا في ثروة أدبية كبيرة من شعر ملئ بالفخر والهجاء والتحريض على القتال والأخذ بالثأر، ومن قصص تدور وقائعها على ما كان بين الفريقين. فكثير من شعر عنترة العبسي مثلًا يصف الأطوار الأخيرة لحرب داحس والغبراء الطاحنة، وكان كثير من شعر زهير يدور حول السلم بين القبيلتين والدعوة إليه وإظهار نتائجه، والإعجاب برجلين من رؤساء ذبيان، وهما هرم بن سنان والحارث بن عوف، سعيا في الصلح بين عبس وذبيان واحتملا ديات القتلى ونشرا السلام في غطفان، فكان هذا داعيًا لزهير ليصور حبه للسلام واستفظاعه للحرب وأهوالها، وليمدح هذين العظيمين على ما قاما به من جهود لتوطيد دعائم السلم في هذه الجزيرة العربية المتنافرة المتخاصمة.
وقد مدح هرم بن سنان بمدائح كثيرة، وأجزل هرم له العطاء وله نحو العشرين قصيدة، يمدحه هو والحارث بن عوف بها؛ لسعيه في الصلح بين عبس وذبيان. ومات قبل البعثة بقليل.
وكان سنان أبو هرم سيد غطفان وماتت أمه وهي حامل به. وقالت: إذا أنا مت فشقوا بطني. فإن سيد غطفان فيه، فلما ماتت شقوا بطنها فاستخرجوا منه سنانا. وفي بني سنان يقول زهير:
قوم أبوهم سنان حين تنسبهم ... طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قدم بأولهم أو مجدهم قعدوا
جن إذا فزعوا أنس إذا أمنوا ... مرزؤون بهاليل إذا قصدوا
محسدون على ما كان من نعم ... لا ينزع الله منهم ماله حسدوا
وقال زهير في هرم بن سنان:
وأبيض فياض يداه غمامة ... على معتفيه ما تغب فواصله
تراه إذا ما جئته متهللا ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله
أخو ثقة لا تتلف الخمر ماله ... ولكنه قد يتلف المال نائله
وقال زهير أيضًا في هرم بن سنان وأهل بيته:
من أهل بيت يرى ذو العرش فضلهم ... يبني لهم في جنان الخلد مرتفق
المطعمين إذا ما أزمة أزمت ... والطيبين ثيابًا كلما عرقوا
كأن آخرهم في الجود أولهم ... إن الشمائل والأخلاق تتفق
إن قامروا قمروا أو فاخروا فخروا ... أو ناضلوا نضلوا أو سابقوا سبقوا
تنافس الأرض موتاهم إذا دفنوا ... كما تنافس عند الباعة الورق
قال الميداني في مجمع أمثاله عند قولهم أجود من هرم: هو هرم بن سنان بن أبي حارثة المري وقد سار بذكر جوده المثل، وقال زهير بن أبي سلمى فيه:
إن البخيل ملوم حيث كان ... ولكن الجواد على علاته هرم
هو الجواد الذي يعطيك نائله ... عفوًا ويظلم أحيانًا فيظلم
ووفدت ابنة هرم على عمر، فقال لها: ما كان الذي أعطى أبوك زهيرًا حتى قابله من المديح بما قد سار فيه، فقالت: أعطاه خيلًا تنضى، وإبلًا تتوى وثيابا تبلى ومالًا يفنى. فقال عمر: لكن ما أعطاكم زهير لا يبليه الدهر، ولا يفنيه العصر.. ويروى أنها قالت: ما أعطى هرم زهيرًا قد نسي. قال: لكن ما أعطاكم زهير لا ينسى.
- ٢ - وزهير من شعراء الطبقة الأولى من شعراء الجاهلية، وفضله كثير ممن لهم معرفة بنقد الشعر على امرئ القيس والنابغة وأضرابهما، وقال أناس: هو أشعر العرب وعده عمر أشعر الشعراء لأنه لا يعاظل بين الكلام ولا يتتبع حواشيه ولا يمدح أحد بغير ما فيه. وذكره الأصمعي قال: كفاك من الشعراء أربعة: "زهير إذا طرب والنابغة إذا رهب والأعشى إذا غضب وعنترة إذا كلب".
وكان زهير يتأله ويتعفف في شعره، ويدل شعره على إيمانه بالبعث كقوله:
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ... ليوم الحساب أو يعجل فينتقم
وكان عمر بن الخطاب يعجب بقوله:
فإن الحق مقطعه ثلاث ... يمين أو نفار أو جلاء
يعني يمينًا أو مناقرة إلى الحاكم أو برهان. ومما جرى من شعره مجرى المثل قوله:
وهل ينبت الخطى إلا وشيجه ... وتغرس إلا في منابتها النخل
أسباب شاعرية زهير
1 / 43