أصداء السيرة الذاتية
أصداء السيرة الذاتية
أصداء السيرة الذاتية
أصداء السيرة الذاتية
تأليف
نجيب محفوظ
أصداء السيرة الذاتية
دعاء
دعوت للثورة وأنا دون السابعة.
ذهبت ذات صباح إلى مدرستي الأولية محروسا بالخادمة. سرت كمن يساق إلى سجن، بيدي كراسة وفي عيني كآبة، وفي قلبي حنين للفوضى، والهواء البارد يلسع ساقي شبه العاريتين تحت بنطلوني القصير. وجدنا المدرسة مغلقة، والفراش يقول بصوت جهير: بسبب المظاهرات لا دراسة اليوم أيضا.
Página desconocida
غمرتني موجة من الفرح طارت بي إلى شاطئ السعادة.
ومن صميم قلبي دعوت الله أن تدوم الثورة إلى الأبد!
رثاء
كانت أول زيارة للموت عندنا لدى وفاة جدتي. كان الموت ما زال جديدا، لا عهد لي به عابرا في الطريق. وكنت أعلم بالمأثور من الكلام أنه حتم لا مفر منه، أما عن شعوري الحقيقي فكان يراه بعيدا بعد السماء عن الأرض. هكذا انتزعني النحيب من طمأنينتي، فأدركت أنه تسلل في غفلة منا إلى تلك الحجرة التي حكت لي أجمل الحكايات.
ورأيتني صغيرا كما رأيته عملاقا، وترددت أنفاسه في جميع الحجرات؛ فكل شخص تذكره وكل شخص تحدث عنه بما قسم.
وضقت بالمطاردة، فلذت بحجرتي لأنعم بدقيقة من الوحدة والهدوء. وإذا بالباب يفتح وتدخل الجميلة ذات الضفيرة الطويلة السوداء، وهمست بحنان: لا تبق وحدك.
واندلعت في باطني ثورة مباغتة متسمة بالعنف متعطشة للجنون. وقبضت على يدها وجذبتها إلى صدري بكل ما يموج فيه من حزن وخوف.
دين قديم
في صباي مرضت مرضا لازمني بضعة أشهر. تغير الجو من حولي بصورة مذهلة، وتغيرت المعاملة. ولت دنيا الإرهاب، وتلقتني أحضان الرعاية والحنان. أمي لا تفارقني، وأبي يمر علي في الذهاب والإياب، وإخوتي يقبلون بالهدايا. لا زجر ولا تعيير بالسقوط في الامتحانات.
ولما تماثلت للشفاء خفت أشد الخوف الرجوع إلى الجحيم. عند ذاك خلق بين جوانحي شخص جديد. صممت على الاحتفاظ بجو الحنان والكرامة. إذا كان الاجتهاد مفتاح السعادة؛ فلأجتهد مهما كلفني ذلك من عناء. وجعلت أثب من نجاح إلى نجاح، وأصبح الجميع أصدقائي وأحبائي.
Página desconocida
هيهات أن يفوز مرض بجميل الذكر مثل مرضي!
الحركة القادمة
قال برجاء حار: جئتك لأنك ملاذي الأول والأخير.
فقال العجوز باسما: هذا يعني أنك تحمل رجاء جديدا. - تقرر نقلي من المحافظة في الحركة القادمة. - ألم تقض مدتك القانونية بها؟ هذه هي تقاليد وظيفتك.
فقال بضراعة: النقل الآن ضار بي وبأسرتي. - أخبرتك بطبيعة عملك منذ أول يوم. - الحق أن المحافظة أصبحت وطنا لنا ولا غنى عنه. - هذا قول زملائك السابقين واللاحقين، وأنت تعلم أن ميعاد النقل لا يتقدم ولا يتأخر.
فقال بحسرة: يا لها من تجربة قاسية! - لم لم تهيئ نفسك لها وأنت تعلم أنها مصير لا مفر منه؟
مفترق الطرق
عرفت في بيتنا بأم البيه، حتى اليوم لم أعرف اسمها الحقيقي؛ فهي عمتي أم البيه. تجلس في حجرتها فوق الكنبة متحجبة مسبحة. كلما طمعت في مصروف إضافي تسللت إلى مجلسها. وعلى فترات متباعدة تقف سيارة أمام بيتنا الصغير فيغادرها البيه، قصيرا وقورا مهيبا، يلثم يد أمه ويتلقى دعاءها.
زيارته تنفخ في البيت روحا من السرور والزهو، وقد تحمل إلي علبة من الحلوى. رجل آخر يتردد على أم البيه كل يوم جمعة، صورة طبق الأصل من البيه، غير أنه يرتدي عادة جلبابا ومركوبا وطاقية، وتلوح في وجهه أمارات المسكنة. وتستقبله عمتي بترحاب، وتجلسه إلى جانبها في أعز مكان.
حيرني أمره.
Página desconocida
وحذرتني أمي من اللعب في الحجرة في أثناء وجوده.
ولكنها لم تجد بدا في النهاية من أن تهمس لي: إنه ابن عمتك!
تساءلت في ذهول: أخو البيه؟!
أجابت بوضوح: نعم ... واحترمه كما تحترم البيه نفسه!
وأصبح يثير حب استطلاعي أكثر من البيه نفسه.
الأيام الحلوة
كنا أبناء شارع واحد، تتراوح أعمارنا بين الثامنة والعاشرة. وكان يتميز بقوة بدنية تفوق سنه، ويواظب على تقوية عضلاته برفع الأثقال. وكان فظا غليظا شرسا مستعدا للعراك لأتفه الأسباب. لا يفوت يوم بسلام ودون معركة، ولم يسلم من ضرباته أحد منا، حتى بات شبح الكرب والعناء في حياتنا. فلا تسأل عن فرحتنا الكبري حين علمنا بأن أسرته قررت مغادرة الحي كله. شعرنا حقيقة بأننا نبدأ حياة جديدة من المودة والصفاء والسلام. ولم تغب عنا أخباره تماما؛ فقد احترف الرياضة وتفوق فيها وأحرز بطولات عديدة، حتى اضطر إلى الاعتزال لمرض قلبه، فكدنا ننساه في غمار الشيخوخة والبعد.
وكنت جالسا بمقهى بالحسين عندما فوجئت به مقبلا يحمل عمره الطويل وعجزه البادي.
ورآني فعرفني فابتسم، وجلس دون دعوة. وبدا عليه التأثر، فراح يحسب السنين العديدة التي فرقت بيننا، ومضى يسأل عمن تذكر من الأهل والأصحاب، ثم تنهد وتساءل في حنان: هل تذكر أيامنا الحلوة؟
النسيان
Página desconocida
من هذا العجوز الذي يغادر بيته كل صباح ليمارس رياضة المشي ما استطاع إليها سبيلا؟
إنه الشيخ مدرس اللغة العربية الذي أحيل على المعاش منذ أكثر من عشرين عاما.
كلما أدركه التعب جلس على الطوار أو السور الحجري لحديقة أي بيت، مرتكزا على عصاه، مجففا عرقه بطرف جلبابه الفضفاض.
الحي يعرفه والناس يحبونه، ولكن نادرا ما يحييه أحد لضعف ذاكرته وحواسه. أما هو فقد نسي الأهل والجيران والتلاميذ وقواعد النحو.
المطرب
قلبي مع الشاب الجميل. وقف وسط الحارة وراح يغني بصوت عذب:
الحلوة جاية.
وسرعان ما لاحت أشباح النساء وراء خصاص النوافذ، وقدحت أعين الرجال شررا، ومضى الشاب هانئا تتبعه نداءات الحب والموت.
قبيل الفجر
تتربعان فوق كنبة واحدة. تسمران في مودة وصفاء. الأرملة في السبعين، وحماتها في الخامسة والثمانين. نسيتا عهدا طويلا شحن بالغيرة والحقد والكراهية. والراحل استطاع أن يحكم بين الناس بالعدل، ولكنه عجز عن إقامة العدل بين أمه وزوجه، ولا استطلاع أن يتنحى. وذهب الرجل فاشتركت المرأتان لأول مرة في شيء واحد، وهو الحزن العميق عليه.
Página desconocida
وهدهدت الشيخوخة من الجموح، وفتحت النوافذ لنسمات الحكمة.
الحماة الآن تدعو للأرملة وذريتها من أعماق قلبها بالصحة وطول العمر.
والأرملة تسأل الله أن يطيل عمر الأخرى حتى لا تتركها للوحدة والوحشة.
السعادة
رجعت إلى الشارع القديم بعد انقطاع طويل لتشييع جنازة.
لم يبق من صورته الذهبية أي أثر يذكر.
على جانبيه قامت عمارات شاهقة في موضع الفيلات ، واكتظ بالسيارات والغبار وأمواج البشر المتلاطمة.
تذكرت بكل إكبار طلعته البهية وروائح الياسمين.
وتذكرت الجميلة تلوح في النافذة باعثة بشعاعها على السائرين.
ترى أين يقع قبرها السعيد في مدينة الراحلين؟
Página desconocida
ويوافيني الآن قول الصديق الحكيم: «ما الحب الأول إلا تدريب ينتفع به ذوو الحظ من الواصلين.»
الطرب
اعترض طريقي باسما وهو يمد يده. تصافحنا وأنا أسأل نفسي عمن يكون ذلك العجوز، وانتحي بي جانبا فوق طوار الطريق وقال: نسيتني؟!
فقلت في استحياء: معذرة، إنها ذاكرة عجوز! - كنا جيرانا على عهد الدراسة الابتدائية، وكنت في أوقات الفراغ أغني لكم بصوت جميل، وكنت أنت تحب التواشيح ...
ولما يئس مني تماما مد يده مرة أخرى قائلا: لا يصح أن أعطلك أكثر من ذلك ...
قلت لنفسي: يا له من نسيان كالعدم، بل هو العدم نفسه! ولكنني كنت وما زلت أحب سماع التواشيح.
المرح
نظرت إلي بعينين باهتتين ذابلتين. النظرة تشكو مر الشكوى، وتريد أن تبوح، ولكن اللسان عاجز.
كنت أعودها والحجرة خالية.
الجلد متهرئ، والعظام بارزة، والأركان تفوح منها رائحة الموت.
Página desconocida
يا صاحبة المداعبات التي لا تنسى.
طفولتي عامرة بمداعباتك اللطيفة.
لم يكن يعيبك إلا الإغراق في المرح.
أي نعم ... الإغراق في المرح.
رسالة
وردة جافة مبعثرة الأوراق عثرت عليها وراء صف من الكتب وأنا أعيد ترتيب مكتبتي.
ابتسمت. انحسرت غيابات الماضي السحيق عن نور عابر.
وأفلت من قبضة الزمن حنين عاش دقائق خمسا.
وند عن الأوراق الجافة عبير كالهمس.
وتذكرت قول الصديق الحكيم: «قسوة الذاكرة تنجلي في التذكر كما تنجلي في النسيان.»
Página desconocida
عتاب
همت على وجهي حاملا طعنة الغدر بين أضلعي.
وقال الصديق الحكيم: «لست أول من كابد الهجران.»
فسألته: أليس للشيخوخة مقام؟
فقال: «غر من يعشق قصة معادة قديمة.»
ووقفت تحت شجرة الكافور أرنو من بعيد إلى الملهى.
وهي تجلس وسط الشرفة يشع منها نور الإغراء المبين.
لا يدركها كبر، ولا يمسها انحلال.
وتتخطاني بنظرة لا مبالية فليس لقرارها تبديل، بل وسوف أرجع وحيدا كما بدأت.
التلقين
Página desconocida
جلست فوق السرادق أنتظر تشييع الجنازة.
خيمت فوقنا ذكريات ذلك العهد القديم.
وجاء رجال ذلك العهد يسيرون رجلا وراء رجل. كانت الأرض تزلزل لأي منهم إذا خطا.
اليوم هم شيوخ ضائعون لا يذكرهم أحد.
وجاء خلفاؤهم تنحني الأرض تحت وطأة أقدامهم. تقول نظراتهم الثابتة إنهم ملكوا الأرض والزمن.
أخيرا، هل النعش فوق الأعناق فتخطى الجميع وذهب.
الوظيفة المرموقة
أخيرا مثلت بين يدي مدير مكتبه. وصلت بفضل اجتهاد مضن وشفاعة الوجهاء المكرمين.
ألقى نظرة أخيرة على التوصيات التي قدمتها، ثم قال: لشفعائك تقدير وأي تقدير، ولكن الاختبار هنا يتم بناء على الحق وحده.
فقلت برجاء: إني على أتم استعداد للاختبار. - أرجو لك التوفيق.
Página desconocida
فسألته بلهفة: متي ندعى للامتحان؟
فتجاهل سؤالي وسألني: ولماذا هذه الوظيفة بالذات على ما تتطلبه من جهد خارق؟
فقلت بإخلاص: إنه الحب، ولا شيء سواه.
فابتسم ولم يعلق.
ورجعت وأنا أتذكر قول صديقي الحكيم: «من ملك الحياة والإرادة؛ فقد ملك كل شيء، وأفقر حي يملك الحياة والإرادة.»
الصور المتحركة
هذه الصورة القديمة جامعة لأفراد أسرتي ...
وهذه جامعة لأصدقاء العهد القديم.
نظرت إليهما طويلا حتى غرقت في الذكريات ...
جميع الوجوه مشرقة ومطمئنة وتنطق بالحياة.
Página desconocida
ولا إشارة ولو خفيفة إلى ما يخبئه الغيب.
وها هم قد رحلوا جميعا فلم يبق منهم أحد.
فمن يستطيع أن يثبت أن السعادة كانت واقعا حيا، لا حلما ولا وهما؟
العدل
ذهبت إلى محام معروف بلا تردد. ما أجمل صراحته حين قال لي: أنت صاحب حق، ولكن خصمك أيضا صاحب حق!
فقلت له: عرضت عليه أن نحتكم إلى شخص يكون موضع ثقتنا معا. - هيهات أن يوجد هذا الشخص في زماننا. - لدي خطابات مسجلة ستعرف منها المحكمة حسن نيتي. - قد يطعن فيها بالتزوير. - الحق أني بريء مائة في المائة. - لا يوجد إنسان بريء مائة في المائة. - ليس الأمر بالمستحيل. - ألم تهدده في لحظة غضب بالقتل؟ - هو نفسه لم يأخذ كلامي مأخذ الجد. - بل قام باحتياطات كثيرة، وزار الأضرحة ونذر النذور.
فهتفت ضاحكا: هذا هو الجنون! - عليك أن تثبت أنه مجنون، خاصة أن محاميه سيحاول من ناحيته أن يثبت جنونك.
فأغرقت في الضحك حتى قال المحامي: لا يوجد ما يدعو إلى الضحك. - اتهامي بالجنون مثير للضحك. - بل إنه يدعو للأسى. - لماذا يا سيدي؟ - الجنون يدعو للأسى. - طالما أني عاقل فلا أهمية للاتهام. - ولكن عدم الاهتمام قد يعني الجنون نفسه.
فسألته بذهول: هل يداخلك شك في عقلي؟ - بل إني على يقين. اختلافكما المزمن يدل على جنونكما معا. - لكنك أبديت استعدادا طيبا للدفاع عني؟ - إنه واجبي!
وتنهد المحامي من أعماقه وواصل: ولا تنس أنني مجنون مثلكما ...
Página desconocida
من التاريخ
في ذلك الوقت البعيد قيل إنه هاجر أو هرب، والحقيقة أنه كان يجلس على العشب على شاطئ النيل مشتملا بأشعة القمر، يناجي أحلامه في حضرة الجمال الجليل.
عند منتصف الليل سمع حركة خفيفة في الصمت المحيط، ورأى رأس امرأة ينبثق من الماء أمام الموضع الذي يفترشه. وجد نفسه أمام جمال لم يشهد له مثيلا من قبل. ترى أتكون ناجية من سفينة غارقة؟ لكنها كانت غاية في العذوبة والوقار؛ فداخله الخوف، وهم بالوقوف تأهبا للتراجع، ولكنها قالت له بصوت ناعم: اتبعني.
فسألها وهو يزداد خوفا: إلى أين؟ - إلى الماء لترى أحلامك بعينيك.
وبقوة سحرية زحف نحو الماء وعيناه لا تتحولان عن وجهها.
الأشباح
عقب الفراغ من صلاة الفجر، رحت أتجول في الشوارع الخالية. جميل المشي في الهدوء والنقاء بصحبة نسائم الخريف. ولما بلغت مشارف الصحراء جلست فوق الصخرة المعروفة بأم الغلام.
وسرح بصري في متاهة الصحراء المسربلة بالظلمة الرقيقة. وسرعان ما خيل إلي أن أشباحا تتحرك نحو المدينة. قلت: لعلهم من رجال الأمن. ولكن مر أمامي أولهم، فتبينت فيه هيكلا عظميا يتطاير شرر من محجريه.
واجتاحني الرعب فوق الصخرة، وتسلسلت الأشباح واحدا إثر آخر.
تساءلت وأنا أرتجف عما يخبئه النهار لمدينتي النائمة ...
Página desconocida
قطار المفاجآت
في عيد الربيع يحلو اللهو ويطيب. وقفنا جماعة من التلاميذ في بهو المحطة بالبنطلونات القصيرة، وبيد كل سلة من القش الملون مملوءة بما قسم من طعام. وكان علينا أن نختار بين رحلتين وقطارين ؛ قطار يذهب إلى القناطر الخيرية، وآخر يمضي إلى جهة مجهولة يسمى بقطار المفاجآت.
قال أحدنا: القناطر جميلة ومضمونة.
فقال آخر: المغامرة مع المجهول أمتع.
ولم نتفق على رأي واحد.
ذهبت كثرة إلى قطار القناطر.
وقلة جرت وراء المجهول.
حمام السلطان
حلمت مرة أنني خارج من حمام السلطان، تعرضت لي جارية ودعتني إلى لقاء سيدتها، ومالت بي في الطريق إلى حجرتها لتهيئني للقاء كما يملي عليها واجبها. وألهاني التدريب عن غايتي حتى كدت أنساها. ولما وجب الذهاب، وذهبت إلى السيدة الجميلة وأنا من الخجل في نهاية. ووقفت بين يديها منهزما وقد علاني الصدأ.
هكذا تحول الحلم إلى كابوس.
Página desconocida
وكان لا بد من معجزة لتشرق الشمس من جديد.
العقاب
رآه ماثلا أمامه كالقدر. غاب طويلا، ولكن لم ينحن له ظهر أو يرق بصر. بسرعة انقضاض الزلزال جرى شريط الذكريات الدامية، وسحب وراءه صورة أسرته البريئة التي عرفته مثالا للاجتهاد والرزق الحلال، جاهلة ما وراء ذلك. - اتفقنا على أن نفترق إلى الأبد.
فقال له الزائر بهدوء: للضرورة أحكام وإني مهدد بالإفلاس.
وقال لذاته: إن طوفان الابتزاز يبدأ بقطرة. - كنا شريكين فما يصيبني يصيبك.
فقال الزائر: عند اليأس أقول: علي وعلى أعدائي يا رب!
أسرته هي ما يهمه، حتى إذا كان الانتحار هو الحل.
فرصة العمر
صادفتها تجلس تحت الشمسية، وتراقب حفيدها وهو يبني من الرمال قصورا على شاطئ البحر الأبيض.
سلمنا بحرارة. جلست إلى جانبها. عجوزين هادئين تحت مظلة الشيب.
Página desconocida
وضحكت فجأة وقالت: لا معنى للحياء في مثل عمرنا، فدعني أقص عليك قصة قديمة.
وقصت قصتها وأنا أتابعها بذهول حتى انتهت. وعند ذاك قلت: فرصة العمر أفلتت، يا للخسارة!
هيهات
ما ضنت علي بشيء جميل مما تملك.
فنهلت من ينبوع الحسن حتى ارتويت.
ولكن البطر بالنعمة قد يرتدي قناع الضجر.
ومن أمارات خيبتي أني فرحت بالفراق.
وعلى مدى طريقي الطويل لم يفارقني الندم.
وحتى اليوم يرمقني هيكلها العظمي ساخرا.
رسالة لم تكتب
Página desconocida
في عام واحد علمت بتعيين همام رئيسا لمحكمة استئناف الإسكندرية، كما قرأت خبر تنفيذ حكم الإعدام في سيد الغضبان لقتله راقصة. كنا - أنا وهمام والغضبان - أصدقاء طفولة. وكان الغضبان بؤرة الإثارة لجمال صوته ونوادره البذيئة. وافترقنا قبل أن نبلغ التاسعة، فمضى كل إلى سبيله. عرفت من بعض الأقارب بانخراط همام في سلك الهيئة القضائية، وتابعت أنباء الغضبان في الصحف الفنية كبلطجي من بلطجية الملاهي الليلية.
والحق أن خبر الإعدام هزني، وطار بي على جناح التأمل إلى العهد القديم. وفكرت أن أكتب رسالة إلى همام أضمنها تأثري وتأملاتي. وشرعت في الكتابة، ولكنني توقفت وفتر حماسي أن يكون قد نسي ذلك العهد وأهله، أو أنه لم يعد يبالي بهذه العواطف.
الزيارة الأخيرة
لولا المعلم عبد الدائم لضاع كل وافد على المدينة القديمة. يستقبل الوافدين في مقهى المعز، ثم يفتح لكل مغلق الأبواب. وكان عبد الله أحد أولئك الوافدين.
ما لبث أن ألحقه بوظيفة مساعد بواب، فحمد الرجل ربه على الرزق والمأوى. وحثه على الرشد والتدبير حتى زوجه من بنت الحلال. وجعل عبد الله يزوره في المقهى من حين لآخر اعترافا بفضله وإحسانه، غير أنه لما استغرقه العمل وتربية الأولاد، ندرت زياراته حتى انقطعت. وبلا الرجل الحياة بحلوها ومرها، وتصبر حتى وقف الأولاد على أقدامهم، وانطلق كل في سبيل. ومع تقدم السن شعر عبد الله بأنه آن له أن يستريح وينفض عن رأسه الهموم. وفي فراغه تذكر المعلم عبد الدائم، فشعر بالخجل والندم، وصمم على زيارته، داعيا الله أن يجده متمتعا بالصحة والعافية. وقصد مقهى المعز وهو يعد نفسه للاعتذار وطلب العفو. لاحظ من أول نظرة ما حل بالمقهى من تجديد وفرنجة في الأثاث والخدمة والزبائن، ولم يعثر لصاحبه على أثر. ووضح له أن أحدا لم يسمع به. وظهر عجوز يسرح بالمسابح والبخور، وكان الوحيد الذي تذكره، والوحيد الذي يعرف منزله بالإمام، ولا يعرف عنه أكثر من ذلك. ولم تحل تلك الصعوبات بين الرجل ورغبته، فمضى من فوره إلى الإمام. كان يقوده شعور قوي بالوفاء، وبأنه ذاهب إلى غير رجعة ...
ليلى
في أيام النضال والأفكار والشمس المشرقة، تألقت ليلى في هالة من الجمال والإغراء.
قال أناس: إنها رائدة متحررة.
وقال أناس: ما هي إلا داعرة.
ولما غربت الشمس وتوارى النضال والأفكار في الظل، هاجر من هاجر إلى دنيا الله الواسعة.
Página desconocida
وبعد سنين رجعوا، وكل يتأبط جرة من الذهب وحمولة من سوء السمعة.
وضحكت ليلي طويلا وتساءلت ساخرة: تري ما قولكم اليوم عن الدعارة؟
الرحمة
البيت قديم وكذلك الزوجان.
هو في الستين وهي في السبعين.
جمعهما الحب منذ ثلاثين عاما خلت، ثم هجرهما مع بقية الآمال.
ولولا ضيق ذات اليد لفر العصفور من القفص.
يعاني دائما من شدة نهمه للحياة، وتعاني هي من شدة الخوف.
ويسلي أحلام يقظته بشراء أوراق اليانصيب لعل وعسى.
كلما اشتري ورقة غمغم: رحمتك يا رب.
Página desconocida
فيخفق قلب المرأة رعبا وتغمغم: رحمتك يا رب.
البحث
لدى المساء قصد المدفن الذي يجتمع فيه مع بعض الأقران للسمر والمرح وتبادل أنات الشكوى. وسأله أحدهم: كيف انتهى سعيك هذا اليوم؟
فأجاب بفتور: كالأيام السابقة.
فقال آخر: إنك تضيع وقتك بين أوغاد، وعندنا أقصر طريق للرخاء.
فقال بامتعاض: وهو أقصر طريق إلى السجن أيضا!
فقال الآخر ساخرا: الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
سؤال وجواب
سأل العجوز السيدة: معذرة يا صديقة العمر، لماذا تبذلين نفسك للهوان؟
فأجابت بوجوم: من حقك علي أن أصارحك بالحقيقة؛ كنت أبيع الحب بأرباح وفيرة، فأمسيت أشتريه بخسائر فادحة، ولا حيلة لي مع هذه الدنيا الشريرة الفاتنة.
Página desconocida
التحدي
في غمار جدل سياسي سأل أحد النواب وزيرا: هل تستطيع أن تدلني على شخص طاهر لم يلوث؟
فأجاب الوزير متحديا: إليك - على سبيل المثال لا الحصر - الأطفال والمعتوهين والمجانين؛ فالدنيا ما زالت بخير ...
المليم
وجدت نفسي طفلا حائرا في الطريق. في يدي مليم، ولكني نسيت تماما ما كلفتني أمي بشرائه. حاولت أن أتذكر ففشلت، ولكن من المؤكد أن ما خرجت لشرائه لا يساوي أكثر من مليم ...
دموع الضحك
قلت له: الحمد لله، لقد أديت رسالتك كاملة، وبلغت بأسرتك بر الأمان ، وانتزعت من وحش الأيام أنيابه الضارية، فآن لك أن تخلد إلى الراحة والسكينة في الأيام القليلة الباقية.
حدجني بارتياب وسألني: هل تذكر أيامنا الطاهرة في الزمان الأول؟
قرأت هواجسه فقلت: ذاك زمان قد مضى وانقضى.
فقال بنبرة اعتراف: يا صديقي الوحيد، في عز النصر والرخاء، كثيرا ما بكيت الكرامة الضائعة.
Página desconocida