قالت: إن التفاؤل يرضي الأحلام ويقنع الأوهام بعض الأحيان فلنحلم ولنتوهم!
قلت: إذا شئت فإني سأجعل لك من هذا الحلم حقيقة محسوسة ومن هذا الوهم واقعا ملموسا.
قالت: أسرع إذن فإني واثقة بك.
قلت: فكري يا سيدتي قليلا في باريس، ولنجعل من برن باريس، وليكن هذا الفندق هو دار الأوبرا، ولتكن غرفة الموسيقى هذه هي المسرح، أما هذه الموائد والأرائك فهم النظارة، فانهضي الآن أيتها الفنانة الشابة، ومري بأناملك الفاتنة على هذا البيان، ووقعي اللحن وأرسلي صوتك القوي الحنون بأغاني نورما، ولتفض روحك بأرخم النغم وأرقه وأبدعه! ولتملكي قلب هذا الأثير، وليكن لك فيه ملك الغناء الخالد ... وفتح الباب ودلفت منه الخادمة بإناء القهوة، قلت: قفي يا آنسة وضعي هذا الإناء بعيدا ثم خذي مجلسك على يسار هذه المملكة الموعودة ... فارتبكت الفتاة وفتحت فمها دهشة، وضحكت «كارين» وهي تشير إلى المقعد الصغير على يسارها وكأنها تدعو الفتاة إلى تلبية هذه الدعوة ... وأقبلت الفتاة وقد زايلها ارتباكها وخجلها وانفرجت شفتاها عن ابتسامة جميلة فهتفت «كارين» بها قائلة: اسمعي يا «إرنا» إن هذا الساحر يتكلم الآن بروح أجداده، هؤلاء السحرة يعاقبون الذين لا يطيعونهم ولا يأتمرون بسلطانهم، وهأنذا أقدم فروض طاعتي ... واعتدلت في جلستها وقد اتخذت هيئة الملكة الشادية وبدأت إنشادها بصوت يتماوج مرحا، ويتفجر شبابا، ويترسل صفاء، وعذوبة، وسحرا؛ وانفعلت بغنائها هي فاستحالت طيفا نابضا باهتزازات هذه الأنغام المنطلقة في سكون الليل تودع السلام، والحب، والرحمة في قلب هذا العالم.
وصفقنا لها كثيرا، وصفقت لنفسها ونهضت واقفة، وقد حارت دمعة صافية في عينها وهي تقول: بالله إني متأثرة أكاد لا أملك نفسي، هلم إلى غرفتك الآن يا صديقي فإني سأنام في غرفة خالتي، فعم مساء وإلى الصباح، قلت: تنامين الآن؟ قالت: وهل في ذلك غرابة، قلت: كلا، وصافحتها بحرارة كأنما كنت أودعها.
وفي الصباح راجت الشائعات بأن الأمم الصغيرة معرضة للغزو لأنها منافذ إلى فرنسا ولأن حدودها خالية من الحصون الفولاذية ونصحني من أثق به أن أغادر البلاد فورا وإلا عرضت نفسي لمتاعب هائلة.
وتناولت طعام الغداء عجلا.
ووقفت «كارين» بالحمال العجوز على باب غرفتي وأنا أجمع ثيابي وأطوي معطفي على يدي، وهبطنا الدرج حتى الباب الخارجي، وكان المطر شديدا، والبرق يلمع في جوانب السماء، كأنه حراب القدر تصرع الزمن العاتي، وقبلت يدها وهي تضغط بها على فمي كأنها تقبلني هي الأخرى وأخذت طريقي إلى المحطة وأنا أقرع بقدمي أحجار الطريق والمطر ينهمر مدرارا فوقي ويكاد ينفذ من ثوبي والمعطف لا يزال مطويا على يدي وأنا مستغرق في شرودي مستعيدا حلم الأمس الجميل!
الفصل الثالث عشر
باريس
Página desconocida