قلت: وهل رأيت ذلك «الكاباريه» في مقبرة «نخت»؟ قالت: ورأيت «الأرتست» العاريات. قلت: حسنا؛ فهذه المقبرة صورة من الرغبات المكبوتة التي كانت تضطرب تحت ضغط الكهنة؛ فقد حرموا على الفنانين تمثيل الأجساد العارية! ومما أذكره أن فنانا حرا لم يطق صبرا على هذا الحرمان فصنع تمثالا عاريا صغيرا، ولكنه خشي العاقبة فتخلص منه بإلقائه في مقبرة الأميرة «تسن» التي اكتشفت منذ أعوام في حرم الأهرام؛ وقد رأيت هذه التمثال غير متقن الصنع، نتيجة الاضطراب الذي يطوف بأفكار الثوار ويظهر أثره في أعمالهم، ولكن هناك يا سيدتي أمرا آخر مرجعه النفس، فإن للأجواء آثرها الغالب في تكوين الميول وصقل الأذواق كأثرها في تكوين الأجسام، وفي ذلك الجو المصري السافر الذي يكاد يروع البصر إشراقه، حتى لتعظم فيه دقائق التركيب وتبرز خفايا الصنع، في مثل ذلك الجو تنزع النفس إلى شيء من الحجاب، وتحاول إخفاء بعض النواحي المكشوفة المفضوحة، إنها اللا شعورية الفنية التي تؤثر الغموض والإبهام أحيانا وهذا على العكس من الأجواء الأوروبية المحجبة القائمة التي يختنق فيها البصر، فإنها تقتضي الكشف وتلزم السفور، ومن هذا ترين يا سيدتي أن الفنان المصري نصيبه من الإحساس الفني بالجمال، وقدره الرفيع من التعبير عنه.
وكنت أتكلم بحماسة واندفاع بالغين كأنني أنشد قصيدة من ذات نفسي، وكنت ألمح إعجاب السيدة ورضاء الرجل وانتهى مطافنا إلى المطعم القريب فتناولنا عشاء شهيا وأقبل المساء ... وانتهى الليل بانتهاء حفلة عيد الحرية في حدائق فرساي ... وطلع علينا الفجر والسيارة تجتاز بنا غاية بولونيا بين سقسقة العصافير وتغريد العنادل.
وبعد أيام، وقفت أتأمل أنوار باريس الباهرة وأنا واقف في ممر العربة والقطار ينهب بنا الطريق إلى لوزان فإذا بصوت عذب ووجه ساحر أعرفه، وابتسامة تومض بها شفتان، ويد غضة ترفع سيجارة إلى فم رقيق ... وهي تضحك وكأنها تذكرني بأول ثقاب أشعلته لها ... ورحت أتنسم عطر دخانها وقد همت بالانصراف وهي تقول: أرجو لك سفرا سعيدا ولعلك ذاكري يوما في مغرب شمس على ضفاف النيل، أو في أمسية من أمسياتك المصرية المرحة، ومدت يدها إلى يدي مودعة، فرفعتها إلى فمي وانحنيت أطبع عليها بقية القبلة وقد انزلقت شفتي الجافة على بشرتها الناعمة ... ووقفت أرقبها وأنا أكاد أنوء بالسر العظيم وقد بدأ خيالها يختفي في الممر الطويل وهي في زيها البديع ومشيتها الساحرة.
الفصل الثاني عشر
فتاة برن
كانت غرفة الطعام هادئة النور، لا تنبعث في فضائها أضواء هذه المصابيح الصغيرة ذات الألوان البهجة التي كانت تزدهر بها الموائد البيضاء كل أمسية، حتى لتبدو كأنها حديقة مثالية تضيء مجامر وردها في ليلة شرقية قمراء؛ ولم يكن غير خوان صغير في صدر المكان يجلس إليه ضابط شيخ، وهو يشرب قدحا كبيرا من النبيذ الأحمر على مهل وفي تأمل هادئ عميق، وكنت جالسا إزاءه تحت الشرفة العريضة أرقب الكنيسة القوطية ذات البرج السامق الذي طالما أصغيت إلى رنات نواقيسه في أصباح يوليو المائجة بالنور، الناسمة بالعطر، وكان السكون يفيض على هذا المساء فليس إلا صوت المطر المنهمر في الخارج، وهذه الأصداء التي ترسلها إلينا من الميدان عجلات السيارات المخوضة في المياه الدافقة تحت الأفاريز، وأولئك العابرون بخطاهم القوية المتزنة على أحجار الطريق، واستغرقتني ذكريات الأيام الأولى التي قضيتها في هذه العاصمة الجميلة وأنا آخذ الطريق الصاعد إلى «الجورتن» في الضفة الثانية من النهر، أو أهبط المنحدر الفاتن إلى المتحف التاريخي، أتملى نفائسه وبينها تحف شرقية جميلة معروضة في بعض غرفه، فهذه الأواني الخزفية، المزدانة بالآيات والحكم العربية، وهذا الإيوان الخشبي من القرن العاشر الهجري بطنافسه وزخارفه المموهة بالذهب، وهذا المخطوط من القرآن الكريم بنقوشه الفارسية الدقيقة، وهذه المجموعة من أزياء الحريم في الشرق الإسلامي من الشنتيان إلى الحبرة إلى اليشمك، ثم هذه الروائع الأخرى التي تعجب الفنان، وتجذب الشاعر، وتفتن الأديب، وبينها نسخة من الطبعة الأولى لرواية «تليماك» بورقها الكتاني السميك الكبير الحجم، وطباعتها ذات اللونين الأسود والأحمر، بالحروف الجرمانية الشجراء، وإلى جانبها آلة الطباعة الأولى لجوتنبرج.
واستغرقتني هذه الصور لحظات ولحظات حتى انتبهت على صوت الضابط وهو يغادر المكان في بزته العسكرية الأنيقة ويلقي بتحيته إلي بادي العظمة، موفور المهابة!
وأقبلت الخادمة الشابة وهي تقول: يؤسفني أيها السيد أن تظل وحدك في هذا المكان ولكن ربما حضرت مس «كارين» هذه الليلة فهي قد علمت بحضورك الآن! قلت: شكرا يا آنسة، ومن ترى ذلك السيد! ألا يبيت الليلة هنا؟ قالت: إنه قادم من «سانت جالن» في طريقه إلى الحدود وهو في انتظار فرقته التي تصل إلى «برن» بقطار نصف الليل.
قلت: وهل تقومين وحدك بشئون الفندق هذه الليلة؟
قالت: لقد ذهبت الفتيات ليدبرن أمورهن قبل رحيل الرجال، حتى مسز ڤايل أيضا ... فإن زوجها يغادر المدينة بعد ساعتين لينضم إلى فرقته في «بازل»، وأنت تعلم أن الشبان قد ذهبوا إلى صفوف الجيش بعد أن أعلنت التعبئة العامة هذا المساء.
Página desconocida