ولم تنته السيدة وردة من كلامها حتى فتح الباب، ودخل علينا فتى نحيل القوام جميل الوجه تنسكب من عينيه أشعة سحرية، وتسيل على شفتيه ابتسامة لطيفة، فوقفت السيدة وردة وأمسكت بذراعه بانعطاف كلي وقدمته إلي بعد أن لفظت اسمي مذيلا بكلمة لطيفة واسمه مشفوعا بنظرة معنوية؛ فعرفت بأنه ذلك الشاب الذي أنكرت العالم وخالفت الشرائع والتقاليد من أجله، ثم جلسنا جميعا صامتين لانشغال كل منا بمعرفة رأي الآخر فيه حتى إذا مرت دقيقة مملوءة من السكينة التي تستميل النفوس إلى الملأ الأعلى نظرت إليهما، وقد جلسا أحدهما بجانب الآخر فرأيت ما لم أره قط، وعرفت بلحظة معنى حكاية السيدة وردة وأدركت سر احتجاجها على الهيئة الاجتماعية التي تضطهد الأفراد المتمردين على شرائعها قبل أن تستفحص دواعي تمردهم، رأيت روحا واحدة سماوية متمثلة أمامي بجسدين يجملهما الشباب ويسربلهما الاتحاد، وقد وقف بينهما إله الحب باسطا جناحيه ليحميهما من لوم الناس وتعنيفهم، وجدت التفاهم الكلي منبعثا من وجهين شفافين ينيرهما الإخلاص ويحيط بهما الطهر: وجدت لأول مرة في حياتي طيف السعادة منتصبا بين رجل وامرأة يرذلهما الدين وتنبذهما الشريعة.
وبعد هنيهة وقفت وودعتهما مظهرا بغير الكلام تأثيرات نفسي، وخرجت من ذلك المنزل الحقير الذي جعلته العواطف هيكلا للحب والوفاق، وسرت بين تلك القصور والمنازل التي أظهرت لي خفاياها السيدة وردة مفكرا بحديثها، وبكل ما ينطوي تحته من المبادئ والنتائج، لكنني لم أبلغ أطراف ذلك الحي حتى تذكرت رشيد بك نعمان فتمثلت لبصيرتي لوعة قنوطه وشقائه، فقلت في ذاتي: «هو تعس مظلوم ولكن هل تسمعه السماء إذا وقف أمامها متظلما شاكيا وردة الهاني؟ هل جنت عليه تلك المرأة عندما تركته واتبعت حرية نفسها أم هو الذي جنى عليها عندما أخضع جسدها بالزواج قبل أن يستميل روحها بالمحبة؟ فمن هو الظالم من الاثنين ومن هو المظلوم؟ ومن هو المجرم ومن هو البريء يا ترى؟» ثم عدت قائلا لذاتي مستفتيا أخبار الأيام مستقصيا حوادثها كثيرا ما أباح الغرور للنساء أن يتركن رجالهن الفقراء ويتعلقن بالرجال الأغنياء؛ لأن شغف المرأة ببهرجة الملابس ونعومة العيش يعمي بصيرتها ويقودها إلى العار والانحطاط، فهل كانت وردة الهاني مغرورة وطامعة عندما خرجت من قصر رجل غني مفعم بالحلي والحلل والرياش والخدم، وذهبت إلى كوخ رجل فقير لا يوجد فيه سوى صف من الكتب القديمة؟ وكثيرا ما يميت الجهل شرف المرأة ويحيي شهواتها، فتترك بعلها مللا وتضجرا، وتطلب ملذات جسدها بقرب رجل آخر أكثر منها انحطاطا وأقل شرفا، فهل كانت وردة الهاني جاهلة راغبة بالملذات الجسدية عندما أعلنت استقلالها على رؤوس الأشهاد، وانضمت إلى فتى روحي الأميال، وقد كان بإمكانها أن تشبع حواسها سرا في منزل زوجها من هيام الفتيان الذين يستميتون ليكونوا عبيد جمالها وشهداء غرامها؟ وردة الهاني كانت امرأة تعسة، فطلبت السعادة فوجدتها وعانقتها، وهذه هي الحقيقة التي تحتقرها الجامعة الإنسانية، وتنفيها الشريعة.
همست تلك الكلمات في مسامع الأثير ثم قلت مستدركا: «ولكن أيسوغ للمرأة أن تشتري سعادتها بتعاسة بعلها؟» فأجابتني نفسي قائلة: «وهل يجوز للرجل أن يستعبد عواطف زوجته ليبقى سعيدا؟» •••
وظللت سائرا وصوت السيدة وردة يتموج في مسامعي حتى بلغت أطراف المدينة، والشمس قد مالت إلى الغروب، وابتدأت الحقول والبساتين تتشح بنقاب السكينة والراحة، والطيور تنشد صلاة المساء، فوقفت متأملا ثم تنهدت قائلا أمام عرش الحرية تفرح هذه الأشجار بمداعبة النسيم، وأمام هيبتها تبتهج بشعاع الشمس والقمر، على مسامع الحرية تتناجى هذه العصافير وحول أذيالها ترفرف بقرب السواقي، في فضاء الحرية تسكب هذه الزهور عطر أنفاسها، وأمام عينيها تبتسم لمجيء الصباح كل ما في الأرض يحيا بناموس طبيعته ومن طبيعته ناموسه يستمد مجد الحرية وأفراحها ... أما البشر فمحرومون من هذه النعمة؛ لأنهم وضعوا لأرواحهم الإلهية شريعة عالمية محدودة، وسنوا لأجسادهم ونفوسهم قانونا واحدا قاسيا، وأقاموا لميولهم وعواطفهم سجنا ضيقا مخيفا، وحفروا لقلوبهم وعقولهم قبرا عميقا مظلما، فإذا ما قام واحد من بينهم، وانفرد عن جامعتهم وشرائعهم قالوا: هذا متمرد شرير خليق بالنفي، وساقط دنس يستحق الموت ... ولكن هل يظل الإنسان عبدا لشرائعه الفاسدة إلى انقضاء الدهر أم تحرره الأيام ليحيا بالروح وللروح؟ أيبقى الإنسان محدقا بالتراب أم يحول عينيه نحو الشمس كي لا يرى ظل جسده بين الأشواك والجماجم؟
صراخ القبور
1
تربع الأمير على منصة القضاء، فجلس عقلاء بلاده عن يمينه وشماله وعلى وجوههم المتجعدة تنعكس أوجه الكتب والأسفار، وانتصب الجند حوله ممتشقين السيوف رافعين الرماح، ووقف الناس أمامه بين متفرج أتى به حب الاستطلاع، ومترقب ينتظر الحكم في جريمة قريبه، وجميعهم قد أحنوا رقابهم، وخشعوا ببصائرهم وأمسكوا أنفاسهم كأن في عيني الأمير قوة توعز الخوف، وتوحي الرغبة إلى نفوسهم وقلوبهم. حتى إذا ما اكتمل المجلس، وأزفت ساعة الدينونة رفع الأمير يده وصرخ قائلا: «أحضروا المجرمين أمامي واحدا واحدا، وأخبروني بذنوبهم ومعاصيهم.» ففتح باب السجن وبانت جدرانه المظلمة مثلما تظهر حنجرة الوحش الكاسر عندما يفتح فكيه متثائبا، وتصاعدت من جوانبه قلقلة القيود والسلاسل متآلفة مع أنين الحبساء ونحيبهم، فحول الحاضرون أعينهم، وتطاولت أعناقهم كأنهم يريدون مسابقة الشريعة بنواظرهم؛ ليروا فريسة الموت خارجة من أعماق ذلك القبر.
وبعد هنيهة خرج من السجن جنديان يقودان فتى مكتوف الساعدين يتكلم وجهه العابس، وملامحه المنقبضة عن عزة في النفس وقوة في القلب، وأوقفاه وسط المحكمة وتراجعا قليلا إلى الوراء، فأحدق به الأمير دقيقة ثم سأل قائلا: «ما جريمة هذا الرجل المنتصب أمامنا برأس مرفوع كأنه في موقف الفخر لا في قبضة الدينونة؟»
فأجابه رجل من أعوانه قائلا: «هو قاتل شرير قد اعترض بالأمس قائدا من قواد الأمير، وجندله صريعا إذ كان ذاهبا بمهمة بين القرى، وقد قبض عليه والسيف المغمد بدماء القتيل ما زال مشهورا في يده.»
فتحرك الأمير غضبا فوق عرشه، وتطايرت سهام الحنق من عينيه، وصرخ بأعلى صوته قائلا: «أرجعوه إلى الظلمة، وأثقلوا جسده بالقيود وعندما يجيء فجر الغد اضربوا عنقه بحد سيفه، ثم اطرحوا جثته في البرية؛ لتجردها العقبان والضواري، وتحمل الرياح رائحة نتانتها إلى أنوف أهله ومحبيه.»
Página desconocida