وشعر خليل بتموجات روح مريم حول روحه، وعرف بأن الشعلة المقدسة التي أحاطت بقلبه قد لامست قلبها؛ ففرح لأول وهلة فرح طفل ضائع وجد أمه ولكنه عاد فلام نفسه على تسرعها وانشغافها ظنا منه بأن هذا التفاهم الروحي سيضمحل كالضباب عندما تفصله الأيام عن تلك القرية فكان يناجي نفسه قائلا: «ما هذه الأسرار الخفية التي تتلاعب بنا ونحن غافلون؟ وما هذه النواميس التي تسيرنا تارة على سبل وعرة فنسير منقادين، وتوقفنا طورا أمام وجه الشمس فنقف فرحين، وتبلغنا مرة قمة الجبل فنبتسم متهللين وتهبط بنا أخرى إلى أعماق الوادي فنصرخ متوجعين؟ ما هذه الحياة التي تعانقنا يوما كالحبيب ويوما تضعفنا كالعدو؟ ألم أكن بالأمس مكرها مضطهدا بين رهبان الدير؟ أولم أقبل العذاب والسخرية من أجل هذه الحقيقة التي أيقظتها السماء في صدري؟ أولم أقل للرهبان بأن السعادة هي مشيئة الله في الإنسان؟ إذا ما هذا الخوف، ولماذا أغمض عيني وأحول وجهي عن النور المنبعث من عيني هذه الصبية؟ أنا مطرود وهي فقيرة ولكن أبالخبز وحده يحيا الإنسان؟ أوليست الحياة دينا ووفاء؟ أولسنا بين العوز واليسر كالأشجار بين الشتاء والصيف؟ ولكن ماذا تقول راحيل إذا علمت بأن روح الفتى المطرود من الدير وروح ابنتها الوحيدة قد تفاهمتا في السكينة واقتربتا من دائرة النور الأعلى ؟ وماذا تفعل يا ترى إذا مادرت بأن الشاب الذي خلصته من مخالب الموت يريد أن يكون رفيقا لابنتها؟ وماذا يقول سكان هذه القرية البسطاء إذا ما علموا بأن فتى ربي في الدير وخرج منه مطرودا فجاء قريتهم لكي يعيش بقرب صبية جميلة؟ أفلا يغلقون آذانهم إذا ما قلت لهم بأن الذي يغادر الدير ليعيش بينهم يكون كالطائر الذي يخرج من ظلمة القفص إلى النور والحرية؟ وماذا يقول الشيخ عباس العائش بين هؤلاء الفلاحين المساكين كالأمير بين العبيد إذا ما سمع حكايتي؟ وماذا يفعل كاهن القرية إذا ما رددوا على مسامعه تلك الأقوال التي سببت طردي من الدير؟»
كان خليل يناجي نفسه وهو جالس بقرب الموقد يتأمل بألسنة النار الشبيهة بعواطفه، أما مريم فكانت تختلس النظرات إليه وتقرأ أحلامه في ملامح وجهه وتسمع صدى أفكاره خارجا من صدرها وتشعر بخيالات هواجسه متمايلة حول قلبها.
ففي عشية يوم وقد وقف خليل بقرب الكوة المطلة نحو الوادي، حيث الأشجار والصخور الملتحفة بالثلوج التحاف الأموات بالأكفان، جاءت مريم ووقفت بجانبه ونظرت من الكوة إلى الفضاء، فالتفت نحوها وإذ التقت عيناه بعينيها تنهد تنهيدة محرقة ثم حول وجهه وأغمض أجفانه كأن نفسه قد تركته وسبحت ساعية في أعماق اللانهاية باحثة عن كلمة تقولها.
وبعد هنيهة تشجعت مريم وسألته قائلة: «إلى أي مكان تذهب عندما تذوب هذه الثلوج وتنفتح الطرقات؟»
فأجابها وقد فتح عينيه الكبيرتين وأحدق بالأفق البعيد: «سوف أتبع الطريق إلى حيث لا أعلم.»
فارتعشت روح مريم ثم قالت متنهدة: «لماذا لا تسكن في هذه القرية وتبقى قريبا منا، أليست الحياة ههنا أفضل من الغربة البعيدة؟»
فأجابها وقد اضطربت أحشاؤه لرقة كلماتها ونغمة صوتها: «إن سكان هذه القرية لا يقبلون المطرود من الدير جارا لهم، ولا يسمحون له أن يتنفس الهواء الذي يحييهم؛ لأنهم يحسبون عدو الرهبان كافرا بالله وقديسيه.»
فتأوهت مريم ولبثت ساكنة لأن الحقيقة الجارحة قد أخرستها؛ حينئذ أسند خليل رأسه بيده وقال: «إن سكان هذه القرى يا مريم قد تعلموا من الرهبان والكهان بغض كل من يفتكر لذاته، فصاروا يقلدونهم ويبتعدون مثلهم عن جميع الذين يريدون أن يصرفوا حياتهم فاحصين لا تابعين، فإذا بقيت في هذه القرية وقلت لسكانها تعالوا يا إخوتي نعبد ونصلي حسب مشيئة نفوسنا لا مثلما يريد الرهبان والقسس لأن الله لا يريد أن يكون معبودا من الجاهل الذي يقلد غيره؛ يقولون هذا ملحد يعاند السلطة التي وضعها الله في أيدي كهانه. وإن قلت لهم أصغوا يا إخوتي واسمعوا صوت قلوبكم واعملوا إرادة الروح الكائنة في أعماقكم؛ يقولون هذا شرير يريدنا أن نكفر بالوسائط التي أقامها الله بين السماء والأرض.»
ونظر خليل إذ ذاك إلى عيني مريم وبصوت يحاكي رنين الأوتار الفضية قال: «ولكن في هذه القرية يا مريم قوة سحرية تمتلكني وتتشبث بنفسي، قوة علوية قد أنستني اضطهاد الرهبان وحببت إلي قساوتهم، في هذه القرية لقيت الموت وجها لوجه وفيها عانقت روحي روح الله، في هذه القرية زهرة نابتة بين الأشواك يستميل جمالها نفسي ويملأ عطرها كبدي فهل أترك هذه الزهرة وأذهب مبشرا بالمبادئ التي أبعدتني عن الدير أم أبقى بجانبها وأحفر لأفكاري وأحلامي قبرا بين الأشواك المحيطة بها، ماذا أفعل يا مريم؟»
سمعت مريم هذه الكلمات فاهتزت قامتها مثلما ترتعش الزنبقة أمام نسيم السحر، وفاضت أشعة قلبها من مقلتيها فقالت والحياء يغالب لسانها: «كلانا بين يدي قوة خفية عادلة رحومة فلندعها تفعل ما تشاء بنا.»
Página desconocida