فتنهد الشاب وأحنى رأسه على صدره وقال بصوت عميق: «خرجت مطرودا من الدير.»
فقالت راحيل بدهشة: «مطرودا؟!»
ورددت مريم هذه الكلمة متأوهة.
فرفع الشاب رأسه وقد ندم على إظهاره الحقيقة للمرأتين وخاف أن تتحول رأفتهما عليه إلى استياء واستهجان، ولكنه نظر فرأى في عينيهما أشعة الشفقة متموجة مع محبة الاستطلاع فقال بصوت مخنوق: «نعم خرجت مطرودا من الدير لأنني لم أستطع أن أحفر قبري بيدي لأن قلبي قد تعب في داخلي من متابعة الكذب والرياء؛ لأن نفسي أبت أن تتنعم بأموال الفقراء والمساكين، لأن روحي قد امتنعت عن التلذذ بخيرات الشعب المستسلم إلى الغباوة. خرجت مطرودا لأن جسدي لم يعد يجد راحة في الغرف الرحبة التي بناها سكان الأكواخ؛ لأن خوفي لم يعد يقبل الخبز المعجون بدموع اليتيم والأرملة، لأن لساني لم يعد يتحرك بالصلاة التي يبيعها الرئيس بأموال المؤمنين والبسطاء. خرجت مطرودا كالأبرص القذر؛ لأنني رددت على مسامع القسس والرهبان آيات الكتاب الذي جعلهم قسسا ورهبانا.»
وسكت الشاب وظلت راحيل ومريم ناظرتين إليه مستغربتين كلامه محدقتين بوجهه الجميل الحزين متلفتتين بين الآونة والأخرى إلى بعضهما كأنهما تتساءلان بالسكينة عن الأسباب الغريبة التي جاءت به إليهما، حتى إذا ما نمت محبة الاستقصاء في قلب الوالدة نظرت إليه بانعطاف وسألته قائلة: «أين أبوك وأمك يا أخي؟ هل هما حيان؟»
فأجاب الشاب والغصات الموجعة تقطع ألفاظه: «ليس لي أب ولا أم ولا أخت ولا مسقط رأس.»
فتنهدت راحيل متأثرة وحولت مريم وجهها نحو الحائط لتخفي دمعة محرقة استقطرتها الشفقة من أجفانها، فنظر إليهما الشاب نظرة المغلوب إلى منجده وقد انتعشت نفسه برقة عواطفهما مثلما تنتعش الزهرة النابتة بين الصخور عندما يسكب الصباح قطرات الندى في قلبها، ثم رفع رأسه وقال: «مات أبي وأمي قبل أن أبلغ السابعة من عمري فأخذني كاهن القرية التي ولدت فيها إلى دير قزحيا، فسر الرهبان بي وجعلوني راعيا للبقر ولما بلغت الخامسة عشرة ألبسوني هذا الثوب الأسود والخشن وأوقفوني أمام المذبح قائلين: أقسم بالله وقديسيه بأنك قد نذرت الفقر والطاعة والعفة. فرددت كلامهم قبل أن أفهم مفاد كلامهم، وقبل أن أدرك معاني الفقر والطاعة والعفاف، وقبل أن أرى السبيل الضيقة التي سيروني عليها. كان اسمي خليلا فصار الرهبان منذ ذلك الحين يدعونني الأخ مبارك ولكنهم لم يعاملونى قط كأخ لهم، كانوا يتنعمون باللحوم والمآكل الشهية ويطعمونني الخبز اليابس والبقول المجففة ويتلذذون بالخمور والمشارب الطيبة ويسقونني الماء ممزوجا بالدموع، ويتضجعون على الأسرة الناعمة وينيمونني على فراش حجري في غرفة مظلمة باردة بجانب زرائب الخنازير فكنت أقول في نفسى: متى أصير راهبا يا ترى فأشارك هؤلاء السعداء بغبطتهم، وأصبح خليقا بملذاتهم ومسراتهم فلا تقطع قلبي رائحة الطعام، ولا تعذب كبدي ألوان الخمور، ولا ترتعش روحي لصوت الرئيس. ولكن باطلا كنت أتمنى وأحلم لأنني بقيت أرعى البقر في البرية وأنقل الحجارة الثقيلة على ظهري وأحفر التراب بساعدي، بقيت أفعل كل ذلك لبقاء الخبز الدنيء والمأوى الضيق لأنني لم أكن أعلم بأنه يوجد مكان غير الدير يمكن أن أعيش فيه لأنهم علموني الكفر بكل شيء إلا معيشتهم، وسمموا نفسي بنقيع اليأس والاستسلام حتى ظننت بأن هذا العالم هو بحر أحزان وشقاء وأن الدير هو ميناء الخلاص.
واستوى خليل جالسا وانبسطت ملامحه المنقبضة، ونظر كأنه رأى شيئا جميلا منتصبا أمامه في ذلك الكوخ. أما راحيل ومريم فلبثتا صامتتين محدقتين به وبعد هنيهة عاد فقال: «إن السماء التي شاءت فأخذت والدي ونفتني يتيما إلى الدير لم تشأ أن أصرف العمر كله كالأعمى السائر في المعابر الخطرة، ولم ترض بأن أكون عبدا تعسا متصاغرا إلى نهاية الحياة، ففتحت عيني وأذني وأرتني النور مشعشعا وأسمعتني الحقيقة متكلمة.»
فهزت راحيل رأسها إذ ذاك وقالت: «أيوجد نور غير النور الذي تسكبه الشمس على جميع الناس؟ وهل بإمكان البشر أن يعرفوا الحقيقة؟»
فأجاب خليل قائلا: «النور الحقيقي هو ذاك الذي ينبثق من داخل الإنسان، ويبين سرائر النفس للنفس ويجعلها فارحة بالحياة مترنمة باسم الروح، أما الحقيقة فهي كالنجوم لا تبدو إلا من وراء ظلمة الليل. الحقيقة هي مثل جميع الأشياء الجميلة في هذا العالم لا تظهر مفاعليها المستحبة إلا لمن شعر بتأثيرات البطل القاسية، الحقيقة هي تلك العاطفة الخفية التي تعلمنا أن نفرح بأيامنا وتجعلنا نتمنى ذلك الفرح نفسه لجميع الناس.»
Página desconocida