نظرت أمل إلى الطبيب نظرة طويلة؛ فقد فهمت ما يقصد، وبدا عليها بعض الضيق «نعم دكتور؛ فما يحدث لها يحدث لي.» - ولماذا لا تفكرين أن شفاءها سيكون أيضا مفيدا لك؟ - كيف يكون مفيدا؟ أنا بذلت الكثير لتستقر حياتي بعيدا عنها، لا أريد نصف حياة، لا أريد جزءا من حياة، لا أريد أن أعكر حياتي بتفاصيل حياتها، يكفيها ما أتركه لها من وقت تفعل به ما تشاء، لم أعد أتدخل في حياتها، ليس الآن، منذ سنوات عديدة. - حتى ظهر دكتور عبد الله. - حتى ظهر الدكتور عبد الله، [رددتها خلفه بابتسامة لم تكن للدكتور أحمد].
استلقت أمل أكثر في جلستها، لم تعد تنظر للدكتور أحمد، بدت كمن يحدث نفسه، بينما الدكتور أحمد هادئ، يدون ملاحظاته ويتابع لغة جسدها، ويسجل علامات استفهام من وقت لآخر.
لم أكن مهتمة باللوحات التشكيلية كثيرا رغم دراستي، أميل أكثر للتماثيل، النحت، أرى المنحوتات كائنات منفردة، لا ترتبط حتى بناحتيها، حتى ذهبت مع بعض طلابي للقاهرة، زيارات متحفية، وانتهت بإصرار منهم لزيارة افتتاح معرض للفنان التشكيلي عبد الله مسعود.
ما كنت قد سمعت عنه من قبل، سمعت صوته قبل أن أراه، لم أسمعه بأذني، كان يتردد بداخلي، كان يشرح لوحاته التي يسميها دوما ب «الزفت»، وكلما أعادها يلقى استحسانا أكثر، اقتربت أكثر بين الحضور لأرى صاحب الصوت، رأيت خليطا، مزيجا، طفلا عنيدا، شابا فتيا، رجلا لعوبا، ذكيا، نصابا، لكنه أعجبني.
لم أتأثر برجل من قبل، لم يحركني رجل، ولست الفتاة الريفية الساذجة التي هبطت للمدينة لتنبهر، تعرضت لمضايقات كثيرة وبطرق متنوعة، في العمل، في الطرقات، في أماكن كثيرة، ظننت لبعض الوقت أن حياة الرهبان ليست بالشيء الصعب، حتى عرفت أنها ليست بالشيء الهين، ظننت أنني سأنتقل من هذا العالم وحيدة، ليست وحدة المجاورة، ولكن أيضا وحدة النفس.
كانت عيناي تسبح بين ضفتي قميصه المفتوح، سمرة أشعرتني بجمال سمرتي، وشعرات كثيفة كادت تجرح نعومتي، رقبة صلبة وحنجرة قوية ذات رنين، وكانت ضربته القوية في سيجارته الطويلة، التي تنسحب منتحرة بين شفتيه، لم أدرك كيف أصبحنا متقابلين، كيف تلاشى كل شيء ولم يبق إلا هو وما بقي من سيجارته، وصدره يدغدغ خواطري أن أدفن وجهي بين ضلوعه، رفعت رأسي كي لا تورطني خواطري فيما لا أعلم عقباه؛ فواجهت خطرا أكبر، إما صدره وإما شفتيه، مددت يدي سريعا مصافحة له، لم أكن طامعة في معرفة لمسة يده، أو قوة كفه، فقط كنت أحاول الحفاظ على مسافة ذراعي على الأقل بيننا.
لم يفارقني وجهه، صوته، تصرفاته الصبيانية، ملابسه البدائية الترابية الألوان، صدره المفتوح دوما، يذكرني ببئر مسعود، أود أن ألقي به أمنياتي، أقبلها، وألقيها، أو أتمنى القفز كالأطفال لأعبر فتحته الضيقة لبحره الممتد، أقابل سيرابيس بالأسفل، أشكره على منحته رحلته، والتي صارت محنتي.
كانت المحاضرات هي ساحتي، ما إن تبدأ حتى أحلق بسماء القاعة، أحدثه فنا وشعرا ونحتا ورسما، حتى رأيته بين الحضور، ابتسمت، وجاءتني ابتسامته بسيطة، شقية، ساحرة.
وبدأ ديبوسي عزفه في أذني، وأنا أرقص بالقاعة، تراقصني نظراته، تجذبني، تحيطني، تدور بي، وأدور بها، جسور تبنيها العيون، أعبرها إليه، يعبرها لي، وأسفلنا نهر الحياة، يبدأ من حيث لا بداية، وينتهي حيث لا نهاية.
تحدثنا يومها قليلا، سألته عن لوحاته الزفت، دعاني لرؤية ورشته حيث يرسم، أعطاني عنوانه، عام كامل، يدعوني وأردد: «إن شاء الله.» مجموعة من الجمل البسيطة تبدأ بدعوته وتنتهي بتقديمي المشيئة، عام كامل أحاول أن أقاوم رغبتي، وأود أن أشعر اهتمامه، هل حقا رآني؟ كان واضحا عليه أنه شقي لعوب، لم يكن يعنيني أن يكون لي وحدي، بقدر ما تمنيت أن يكون لي فيه، ولو جزءا بسيطا، ما بين كل أجزائه، جزء لي وحدي أغلقه خلفي حين أمضي.
Página desconocida