دخلت أمل مترددة، لكن يد الطبيب العجوز الممتدة لمصافحتها، وابتسامته الودودة، خففتا بعض التردد، وأزالتا بعض التوتر. - أهلا دكتورة أمل. - أهلا بحضرتك، لكن لست دكتورة. - سنتحدث سويا في هذا الأمر، تفضلي بالجلوس أمل.
جلست أمل، وبمقعد متعامد وجلستها جلس الطبيب مبتسما، لم يسأل، بل بدأ بالحديث عن نفسه، أنا أحمد مراد، بدأت حياتي كطبيب مخ وأعصاب، زميل لوالدك رحمه الله، لم نتفق أبدا؛ كان يصدق العلم وكنت أثق في النفس، لا تنزعجي أمل؛ فأنا أعرف الكثير عنه، كنت دائما أصدق أن النفس السليمة تجعل الجسد سليما، ومهما وصل الطب لعقاقير تعالج اضطرابات وأمراض الجهاز العصبي، فلن يشفى من كانت نفسه عليلة؛ فبدأت من جديد وكنت تجاوزت الأربعين من عمري في دراسة علم النفس، وأحرزت العديد من الشهادات المتخصصة في هذا المجال، عفوا أمل، كما ترين، عجوز ثرثار، لكننا هنا لنتحدث عنك وليس عني، ماذا بك أمل؟
قبل أن تجيبه، قام واقفا: «قبل أن تبدئي، دعيني أعد لك بعض الشاي الأخضر، أعده جيدا.» ابتسمت أمل، فأضاف باسما: «لا تقلقي، إن تحدثت أكثر منك فسأدفع لك ثمن الجلسة، فربما كنت أحتاج لمن يسمع ثرثرتي.»
كانت أمل تشعر بارتياح أكبر الآن، تلفتت تتفقد الغرفة التي لم ترها منذ دخلتها، غرفة عتيقة إنجليزية الطراز، الجدران مغطاة بمكتبات، لمحت بعض العناوين لكتب في التاريخ والفلسفة والفن، ومجلدات ضخمة بدت لها طبية، مكتب كبير يتوسطه رقعة خضراء، ومنضدة ركنية عليها جرامافون ببوقه النحاسي الضخم يعمل بزنبرك، يظهر مقبضه من جانب صندوقه، وأسفله مجموعة من الأسطوانات الكبيرة، لم تتمكن من قراءة ما كتب عليها، لا يبدو طبيبا لها ولا تبدو عليه العجلة كباقي الأطباء، بدا لها فيلسوفا عاشقا للفن، أراحها شعور الألفة والإضاءة الدافئة وابتسامته وهو آت بأكواب الشاي، أعجبتها الرائحة قبل أن يضعه أمامها، أتى بمسجلة صوت صغيرة ودفتره وغليون قديم وصندوق معدني، عرفت أنه صندوق التبغ: «هل تسمحين لي بتدخين الغليون بينما نتحدث؟» أومأت موافقة وابتسامة تعلو وجهها، أغمضت عينيها وملأت رئتيها برائحة الشاي. - من أين أبدأ؟ [سألت أمل].
نظر لها وهو يشعل غليونه، أطفأ عود الثقاب وضغط زر التسجيل قائلا: «من حيث تروق لك البداية.» وبدأت أمل بالقليل من الخوف.
لا أعرف ماذا يحدث لي، أكاد أفقد عقلي، أوجاع الرأس تلازمني، لا أذكر أشياء يقولون أني فعلتها، لم أكمل تعليمي الجامعي، وعرفت منذ أيام أنني أستاذ دكتور بجامعة الإسكندرية، أستاذة تاريخ الفن، لا أعرف الكثير عن الفن وتاريخه، لكنهم جميعا يعرفونني هناك ولا أعرفهم.
أعرف أنني أحمل بداخلي إنسانة أخرى، أمل أخرى، قابلها عبد الله، يعرفونها بالجامعة، لكنني لم أقابلها، لا أعرفها، وددت مقابلتها، ربما لهذا السبب أتيت إليك دكتور مراد، لا أعرف ما فقدت من عمري وما أحرزت هي، لا أعرف هل يمكن أن نصبح أصدقاء، أنا وهي؟ يتهمني الجميع بالجنون لأنني لا أذكر ما يتحدثون عنه، أو ما يقولون إني فعلته، كان الموضوع يثير جنوني بالفعل، لكن بمضي السنوات اعتدت الأمر ولم يعد يثير حفيظتي، الأمور تغيرت الآن، وأريد أن أعرف كل شيء، كل شيء. - متى تغيرت الأمور؟ - مؤخرا. - منذ قابلت الدكتور عبد الله؟ - نعم، لا، لا أعرف، ربما. - اهدئي أمل، ليست جريمة، دائما ما يكون هناك إنسان يجعلنا نرى أنفسنا، يجدد فينا الرغبة في الحياة. - لا أعرف الكثير عن عبد الله، لكن الأخرى تعرف الكثير عنه، ظننت أنه يعرف امرأة أخرى، هو في الحقيقة يعرف امرأة أخرى. لم أحظ حتى بفرصة لحياة هادئة برفقة رجل، رجل، أميل إليه. - لا تخجلي أمل، من رجل تحبينه. - نعم أحبه، لكن هو؟ ربما يحبها هي. - سنصل لتلك النقطة لاحقا، لا تتعجلي. - عفوا دكتور، ألن تسألني؟ - ماذا تريدين أن أسألك؟ - أي شيء، مثل متى بدأت عدم التذكر؟ أو ما تظنين السبب فيما حدث لك؟ شيئا من هذا القبيل، أظن الأطباء يفعلون ذلك.
ابتسم الطبيب بود: «أعدك بالسؤال، ويمكنك الإجابة عما سألت، بالطبع إن كانت تلك إرادتك.» ابتسمت له أمل واسترسلت في حديث بدأته. - تعرف أبي، ربما لا تعرفه جيدا. - ما الذي لا أعرفه؟ - ربما تعرف الطبيب إسماعيل خطاب، لكن لا أظنك تعرف الزوج إسماعيل خطاب، أو الأب إسماعيل خطاب.
كان أبي خارج البيت، وفي وجود ضيوف بالبيت، شخص جميل هادئ، كنت أتمنى ألا يذهب ضيوف المنزل أبدا، وحين ينغلق الباب علينا، أنا وأمي، يتحول لرجل آخر، كائن صلب، عنيف، كان يعامل أمي بمنتهى القسوة، كنت أهرب من صوته إلى غرفتي، أضع الوسادة فوق رأسي، حتى دون أن أخلع حذائي أو أغير ثيابي، لأهرب من صوته، من تعنيفه المستمر لأمي، لكن صوته كان يوقظني، ليعنفني أنا الأخرى على نومي دون أن أغير ملابسي، كنت طفلة، لم يتوقف عن القسوة، ولم أتوقف عن الهروب لغرفتي والاختباء أسفل وسادتي الصغيرة، كبرت، وكبرت معي الوسادة، وكبرت معه قسوته، صارت أمي تتناسى قسوته؛ فتهرب هي الأخرى، لكنها كانت تهرب من ذاكرتها، حتى أصبح نسيانها مرضا، كانت تمحو ذاكرتها، حتى لم تعد تعمل.
كنت طالبة في كلية الطب، بالسنة الأولى، دخلتها رغما عني، كنت أريد دراسة إنسانية، تاريخا، فلسفة، اجتماعا، لا أعرف كيف تركت الكلية، لا أعرف كيف اختفى أبي من حياتنا، فقط وجدتني أطلق زوجا لي، لا أعرف متى تزوجته، حاولت كثيرا التذكر أين قابلته، وكيف تزوجته، وكيف وافق أبي وأنا في السنة الأولى بالجامعة! لم أتذكر، وكانت أمي وقتها مريضة بداء النسيان، كانت تنسى أنها أكلت، فتأكل مرة أخرى، وثالثة، ورابعة؛ فزادها النسيان داء آخر هو السمنة، تراكمت عليها الأمراض، لم تكن تستطيع الحركة، ولم أقبل أن تذهب لمشفى أو مصحة، أعددت لها جناحا كاملا للعلاج ويلازمها ممرضتان، كان الأمر سهلا من مشافي أبي التي أديرها، على الأقل ماليا، أو لا أديرها، أوقع على موازناتها، لا أظنني أستطيع إدارتها، لكن بعد نصيب أعمامي والمحامي والمراقب المالي ومصاريف المشافي، يتبقى لنا دوما ما يكفي ويزيد لنعيش بشكل لائق.
Página desconocida