El conejo fuera del sombrero
الأرنب خارج القبعة
Géneros
خلال العقد الماضي، حدثت في مصر انفجارتان في عالم النشر الورقي. كانت الأولى في عام 2007 تقريبا، بسبب التدوين الذي اجتذب قطاعا كبيرا من الراغبين في الكتابة، ثم وجد بعضهم أن «التحقق » الحقيقي يكون عن طريق إصدار كتب ورقية؛ وهو ما أدى إلى هجرة عدد منهم لدور النشر الموجودة لنشر «تدويناتهم»، أو إنشاء دور نشر جديدة تواكب هذه الحركة الجديدة، وسحبوا معهم أيضا إلى هذا «العالم الجديد» عددا كبيرا من متابعيهم وأصدقائهم في هذا العالم.
الانفجارة الثانية في عالم النشر كانت عقب ثورة 25 يناير؛ فالتمرد على النظام الأبوي السياسي السائد، واكبه تمرد مماثل على دور النشر التقليدية والكتاب التقليديين؛ وهو ما أدى أيضا إلى ظهور عدد كبير من دور النشر، وظهور عدد أكبر من الكتاب الذين اتجهوا في البداية إلى كتابة «مذكراتهم» وذكرياتهم عن الأيام الثمانية عشر في ميدان التحرير، ثم قرروا خوض تجربة الكتابة الإبداعية، جالبين معهم قراءهم من متابعيهم عبر العالم الافتراضي أو من المحيط الخاص بهم؛ وهو ما أوصل بعض هذه الكتب إلى ما يعرف باسم «البيست سيلر»، وأن تصير الأكثر مبيعا.
كانت الانفجارة الأولى في عالم النشر «انفجارة التدوين» مدوية، لدرجة أن دور النشر الكبرى استجابت لها؛ لدرجة أن «دار الشروق» أصدرت سلسلة متخصصة في التدوين، وهي - وإن لم تستمر طويلا - أحد أبرز إصداراتها كان كتاب «عايزة أتجوز» لغادة عبد العال، تحول إلى مسلسل درامي فيما بعد. لكن تجربة «النجاح» هذه لم تتكرر كثيرا، إلا في كتاب أو كتابين، كما أن تجربة التعامل مع هذا «المنتج» باعتباره «تدوينا» لم تتكرر أيضا سوى مرة أو مرتين.
لم تنفصل «الانفجارة الأولى» عن العالم الحقيقي للكتابة وللنشر، ولم ينفصل كتابها أيضا عن هذا العالم الذي وقفوا على بوابته وعرفوا ملامحه وإن لم يدخلوه تماما أو دخله بعضهم وصار من نجومه، على عكس «الانفجارة الثانية» التي خلقت عالمها الخاص الموازي لعالم الكتابة الحقيقي الموجود برموزه ونجومه، سواء أكانوا كتابا أم كتبا.
ففي هذا العالم الجديد، لم يعد مستبعدا أن تجد كاتبا طبع كتابه طبعتين أو ثلاثا، ولديه صفحة على «فيس بوك» يتابعها الآلاف، لكنه لا يعرف من هو «إبراهيم أصلان»، أو «محمد البساطي» مثلا، أو لم يقرأ «خيري شلبي» مثلا؛ وهذا يعود لأسباب كثيرة، أبرزها أن أي شخص أصبح باستطاعته أن يصير كاتبا، وبعد أن ينشر كتابه ويقوم بعمل «حفلة توقيع»، لن يشعر بفارق كبير بينه وبين كتاب ربما كان يوزع أكثر منهم، ولن يهتم كثيرا بقراءة ما كتبوا.
وعلى الرغم من أن الانفجارتين (الأولى والثانية) لهما فضل كبير في أن يصير النشر أسهل، بعد أن كان مغلقا لسنوات طويلة على دور نشر رسمية، ويعاني الكتاب من أن كتبهم «مركونة» في الهيئات الحكومية لسنوات طويلة، فإنها في المقابل سمحت لأي شخص بأن ينشر ما يريد، ما دام يدفع جيدا؛ وهذه هي الكارثة الحقيقية.
وهذه «الكارثة» كانت موجودة من قبل، لكن بشكل خفي لدى بعض دور النشر الخاصة، عندما يريد بعض الكتاب العرب أن يطبعوا كتبهم في القاهرة، كانت تلك الدور تتغاضى عن الجودة مقابل المال، وإن كان هناك في النهاية بعض الجودة، لكن الأمر الآن ضرب بكل شيء عرض الحائط.
حكى لي صديق أراد أن ينشر كتابه الأول لدى واحدة من دور نشر «الانفجارة الثانية»، أنه حينما أبلغهم برغبته في النشر قالوا له إنه لا مشكلة، المهم أن يدفع! وعندما سألهم: «هل ستقرءون العمل أولا؟» كرروا الإجابة نفسها: «ليس مهما، المهم أن تدفع!» وبهذه الطريقة يمكنك أن ترى عشرات الكتب الجديدة يوميا، والكتاب الجدد الذين يرى بعضهم الأمر من باب الوجاهة الاجتماعية، لكنهم لا يعرفون شيئا عن الكتابة ولا عن عالمها، ولا عن قواعدها، لكن لديهم كتب تطبع طبعة واثنتين وثلاثا.
لا أعترض على «البيست سيلر»، ولا أن ينشر كل شخص ما يريد؛ فالزمن في النهاية مصفاة جيدة، ولن يتبقى سوى الأعمال الجيدة، ولا أبحث هنا عن قط أعلق في رقبته الجرس، لكن المحزن حقا هو أن تقرأ بعض هذه الأعمال، وتسمع كتابها، وهم لا يعرفون شيئا، لا عن واقعهم الثقافي، ولا عن تراثهم، ولا حتى عن الأجيال التي سبقتهم، ولا عن تطور الكتابة، بل يبدون كأنهم في غرفة منعزلة عما يدور، مكتفين بأضواء الكاميرات في حفلات التوقيع.
لا أحد ينكر أن المجتمع الثقافي - إذا كان هناك شيء بهذا الاسم - ظل طوال الوقت يعاني من فكرة الشللية، ومن وجود دوائر متباينة داخلة، لكنها كانت دوائر متقاطعة؛ فهناك أدباء أقاليم، وأدباء عاصمة، وشعراء قصيدة نثر، وشعراء تفعيلة، وجماعات ثقافية متصارعة، وندوات في أماكن مختلفة تناصر أشكالا مختلفة من الكتابة، ومقاه تجمع كتابا لا يقرءون سوى الأعمال المترجمة، وآخرون منحازون للكتابة المحلية، وعشرات المجموعات المختلفة؛ لكن في النهاية كانت كلها تطل على بحر واحد اسمه «الكتابة» وتغترف منه.
Página desconocida