قالت: «لقد أخطأت الظن، وأنا المستحقة للتوبيخ لأني لم أصرح على رءوس الأشهاد بأني لا أريد ذلك الرجل، ولكنك تعلم حالي.»
فقال: «قلت لك يكفيني توبيخا، وأنت تبالغين في توبيخي، فإذا كنت ترين في كتمانك قصورا. فكم يكون قصوري؟ ولكنك لا تجهلين أمري أيضا.»
قالت وهي مطرقة، وقد ازداد تورد وجنتيها وتلألأ العرق على جبينها: «إني أعلم أنك رهن مشيئة والدك، فلا لوم عليك إذا غادرتني مراعاة له، ولكنني أود قبل مماتي أن تتحقق مما لك في هذا القلب من ...» قالت ذلك وشرقت بدموعها.
فازداد هيام أركاديوس، ورأى أنها توبخه لإمساكه عن التصريح بحبه لها، فأخرج منديلا ومسح به جبينها ثم مسح به وجهه، فانتعش من ريحها، والتفت إليها فازدادت خجلا، وبالغت في الإطراق، فقال لها: «هل تظنين إرادة أبي تحول بيني وبينك، وقد سلمتك خاتمي وقلبي؟! وما الذي ساقني إليك الآن مخاطرا بحياتي، وأنا لا أدري ما يسوقني إليه غضب أبي إذا علم أني غادرت الحصن على حين غفلة، ونحن في حال حرب؟ وكم يكون غضبه إذا علم أني جئت لأجلك؟»
فجذبت يدها من يده وهي لا تزال مطرقة وقالت: «قلت لك إنك مقيد بإرادة أبيك فكذبتني.» فقال: «وهل أبي يحول بيننا؟!»
قالت: «وقد نظرت إليه نظر العاتب: «وماذا إذن؟! وأنا لا ألومك، فإن إطاعة الوالدين واجبة، لأنها من وصايا الله العشر.»
فشعر أركاديوس بثقل العبارة عليه، وما تتضمنه من التوبيخ، وثارت فيه الحمية الرومانية، واعتدل في مجلسه وقال لها: «اعلمي يا أرمانوسة أن أركاديوس لا يطيع أحدا في سبيل إغضابك، ولا يثنيه عنك أمر في السماء أو الأرض، وهيهات أن ينال منك ابن الإمبراطور شعرة قبل أن تجري الدماء، ولا يحول بيني وبينك شيء إلا إذا أردت أنت التقرب من البلاط الملكي، وفضلت القسطنطينية وقصورها على هذا الأسير المفتون.»
فتنهدت تنهدا عميقا، والتفتت إليه قائلة: «أراك تستهزئ بعواطفي أو لعلك تستضعف النساء فلا تؤمن بثباتهن في الحب، ولا يعلم مقدار ما أنا فيه إلا هذه الرفيقة العزيزة التي هي بمنزلة والدتي، وإن في هذا الخنجر الذي لم يفارقني لأكبر شاهد على صدق محبتي لأركاديوس.» قالت ذلك وأشارت إلى الخنجر في بعض جهات الغرفة.
فخفق قلبه عندما ذكرت الخنجر وقال: «ماذا تعنين بالخنجر؟»
فتقدمت بربارة عند ذلك، وكانت مصغية إلى ما يتبادلان من عبارات الوداد، وقلبها يكاد ينفطر، ودموعها تتساقط على خديها من التأثر، وقالت: «إنها كانت تخفي علي أمر هذا الخنجر، ثم علمت أنها كانت تريد الانتحار إن تحققت وقوعها في يدي قسطنطين، وقد كادت توقع بنفسها ضررا عند قدوم يوقنا لو لم يصل مرقس الخادم الأمين بالبشرى.»
Página desconocida