فقال: «ولكن هبوا أنها احتاجت إلى أحدنا في خدمة فهل نقضيها لها؟»
قال الوالد: «نعم هذا فرض واجب حتى لو أدى إلى الموت.»
فقال: «إذن لا تستعظموا الخبر، فقد كلفتني قضاء حاجة بعيدة الشقة، وأنا على يقين أن كثيرين غيري يودون أن تكلفهم أية خدمة يؤدونها ابتغاء مرضاتها؛ لأنها ابنة الوالي الأكبر وزمام والدها بين يديها، واقتراحها عنده لا يرد، فإذا قضيت لها هذه الخدمة فإنها تسعى عنده في ترقيتي، وربما أنعمت علي إنعاما يريحني من شقاء الخدمة العسكرية.»
وقد أراد بذلك أن يهون عليهم أمر ذهابه ويرغبهم فيه، ولكنهم بهتوا، وامتقع لون مارية خوفا على حبيبها من طول الغياب، بعد أن كانت ترجو بقاءه عندهم هذه المرة أياما بل أن يبقى دائما، فأرادت منعه عن السفر ولكنها رأت في ذلك جرأة غير محمودة فضلا عما عاينته من استحسان والديها للقيام بخدمة أرمانوسة فصمتت.
أما الوالد فقال: «وما هي هذه المهمة؟» قال: «إلى مكان بعيد لا أقدر أن أذكره لكم، لأني عاهدت أرمانوسة ألا أبوح به إلى أحد، ولكنكم ستعرفونه بعد عودتي إن شاء الله تعالى، فأطلب إليكم أن تصلوا وتسألوا الله أن يأخذ بيدي.»
فجعل كل منهم ينذر نذرا لدير من الأديار دون أن يعرف أحدهم ما نذره الآخر، وبقي مرقس برهة هناك وقد نسي ما جاء من أجله، ثم هب بغتة وودعهم جميعا وبخاصة مارية، فإنه شد على يدها عند الوداع كثيرا، فتناثرت الدموع من عينيها، وأما هو فتجلد وقبل أيدي والديها وخرج وعيونهم تتبعه، ولكن الظلام حال بينهم وبينه، فسار توا إلى مكان يعرفه، فابتاع قطعة من القباطي وقصد بلبيس ماشيا، وكانت بربارة قد استبطأته وشغل بالها عليه، فخافت أن يذهب قبل الاستعداد، ولكن بينما هي جالسة إلى سيدتها وقد مضى هزيع من الليل إذ جاءها بعض خدم القصر ينبئونها بقدومه، فنزلت واستطلعته الخبر، فأراد التظاهر بحيلة، ثم حدثته نفسه ألا يلوث ضميره بالكذب وهو سائر إلى غربة وخطر، فأخبرها بجلية الخبر فعذرته، ولكنها قالت له: «اعلم أن نيل خطيبتك معقود بتنفيذ هذه المهمة.» وأخذت الثوب منه فقصت منه قطعة جعلتها مثل العمامة، وقطعت القطعة الأخرى على مثال الشملة، وألبسته إياها وقالت: «فلتكن هذه الثياب معك مطوية حتى تدرك مكان العرب، فتخلع لباسك هذا وتلبسها، أما إذا لبستها منذ الآن فستكون في خطر من جندنا، وربما انكشف أمرك.»
قال: «ولكن ربما سئلت في الطريق عن سبب سفري وعلي لباس الجند، فبماذا أجيب؟» قالت: «قل إنك ذاهب بأمر من السيدة أرمانوسة إلى حاكم الفرما في حدود مصر شرقا، فإذا تجاوزت الفرما قليلا دخلت حدود الشام، فإذا التقيت بالعرب وتمكنت من طريقة لاستطلاع حالهم فافعل. أما خبر قسطنطين فأنفذه إلينا حالا .» •••
بات مرقس تلك الليلة في مكان قريب من بلبيس استعدادا للسفر باكرا، فلما طلع الفجر نهض وسار حاملا ثياب البدو وبعض الزاد ليتغذى به إذا جاع، وفيه تمر جاف وبعض الخبز، فقضى سحابة النهار وبعض ليلة سائرا، وبات في إحدى القرى، وبكر في الغداة، وما زال حتى أمسى عليه المساء وقد علم أنه على مقربة من الفرما، فتردد بين أن يبيت تلك الليلة حيث هو ثم يصابح البلدة، أو أن يواصل السير حتى يصل إليها ليلا، فجلس في ظل نخلة يتناول بعض التمر من جرابه، فلاحت منه التفاتة في عرض تلك الصحراء، فإذا بنار تضيء، فجعل يفكر في أمرها فخيل له أنها نيران بعض أهل هذه الناحية، فقال لعلي إذا ذهبت إليهم أسمع منهم خبرا أو أبيت عندهم الليلة، فنهض، وسار طويلا قاصدا النار وهو يحسبها قريبة، وقد خيم الليل وهدأ الجو واستولى السكون على تلك الأنحاء، فخاف أن يعترضه حيوان مفترس في ذلك الخلاء، ولكنه تشجع وواصل السير حتى سمع صوتا استغربه، فأصاخ بسمعه فإذا هو صوت حيوان لم يذكر أنه سمعه من قبل، فخاف أن يكون وحشا ضاريا، فوقف صامتا، والتجأ إلى شجرة من السنط فإذا بالصوت قد انقطع، ثم عاد فسمعه، فأخذ يتفرس في الأفق من جهة الصوت لعله يعرف نوع الحيوان فلم يفلح، وفيما هو ينظر في عرض الصحراء لاح له شبح هائل عند بعد، فدنا مرقس من الشجرة واستلقى على الرمال، وجعل يحدق بعينيه في الأفق، فرأى فارسا راكبا حيوانا غير الجواد طويل العنق لا يسمع لوقع أقدامه صوت، فكان أول وهلة يظنه زرافة لأنه رآها في حديقة المقوقس في منف، ولكنه لا يعهدها تصلح للركوب، فتربص برهة وإذا بالفارس يقترب من تلك الناحية وظهر له من جهة قدومه أنه آت من مكان النار، وكان سيره حثيثا، فما عتم أن وصل إلى الشجرة، ومرقس لا يزال منبطحا على الرمال، ولم يكن يريد النهوض ظنا منه أن الفارس يمر ولا يراه، فإذا به قد ناداه عن بعد بلسان الروم قائلا: «من الرجل؟»
فلم ير مرقس بدا من الإجابة، وبخاصة لما سمعه يخاطبه باللغة اليونانية، وكان مرقس يعرفها جيدا، فنهض وقال: «جندي، ومن أنت؟» قال: «وأنا كذلك.» ثم سمعه ينيخ مركبه بصوت كالشخير، وإذا بالحيوان قد توسد الأرض جثوا وأخذ بالجعير، فتأمله فإذا هو الهجين، ولم يكن رآه، لأن الهجن والجمال لم يكن يعرفها المصريون ولا رأوها إلا مع العرب إذا جاءوا مصر في قوافلهم. وكان قدوم القوافل إلى منف نادرا، ولكن مرقس شاهد الهجين مرة، وقد جاء عليه رسول بكتاب من بلاد العرب إلى المقوقس، فلما رأى ذلك الرجل قادما على الهجين علم أنه آت من معسكر العرب، ولكنه عجب لتكلمه اللغة الرومية، فأوجس خيفة وأعد خنجره للدفاع إذا اقتضت الحال، ثم رأى الرجل قد شد حبلا عند ثني ركبة الهجين ومشى نحوه، فناداه: «قف عندك من أنت قبل أن تقرب.» فقال: «إذا كنت من جند الروم بمصر فلا تخف فإني من جندهم في بلاد الشام.» وأقسم له بالمسيح والقديسين أنه لا يؤذيه، فدنا منه مرقس وهو لا يزال يحاذر، فإذا الغريب بلباس الجند الروماني، ولكنه ما برح مرتابا في أمره لركوبه الهجين، فقال له: «كيف تقول إنك روماني وأراك راكبا هجينا؟» قال: «سأقص عليك خبري متى جلسنا.» فدنا منه، ولم يستطع تمييزه جيدا لشدة الظلام، ولكنه تحقق من ملامحه أنه روماني، وبخاصة لما رأى لباسه وسمع كلامه.
فلما اقتربا سلما فسأله مرقس: «ما اسمك وما خبرك؟ إني لا أزال مستغربا ركوبك الهجين وهو خاص بالعرب، ولم يدخل إلى بلادنا إلا قليلا، وأنت من جند الروم ولسانك يشهد عليك.»
Página desconocida