قال ذلك وهم بالخروج فأمسكت الفتاة بثوبه وقالت: «لا، لا تذهب؛ لأني لا أرى حيلة تستطيعها لإنقاذي، وقد قدر الله أن أذهب فريسة العادات والطقوس، فدعني أتمتع برؤيتك هذه الساعات القليلة.»
فازداد هيام مرقس، وثارت المروءة في صدره، واستسهل كل صعب وقال: «تشجعي يا عزيزتي وخففي عنك، فقد قلت لك إني قادر على إنقاذك إذا ذهبت الساعة، أما إذا بقيت هنا فالوقت يذهب وتضيع الفرصة من يدنا، فأستودعك الله إلى الغد؛ لأن الميعاد الذي ضربوه لك لا ينتهي قبل صباح بعد غد، وأنا أعود إليكم في ظهيرة الغد.»
وخرج فأحست مارية أن قلبها يتبعه، وأما أبوها فرافقه إلى الباب وقال له: «احذر يا ولداه أن يشعر الحرس بما أنت عازم عليه فيشددوا النكير علينا، فإذا كان لنا بقية أمل في النجاة قطعوها.» قال ذلك وتنهد، ولحقته امرأة عمه وهي تقبله وتقول: «اذهب يا ولدي في حراسة الله، وهو يكون معك ويبارك عملك.» فودعهما وخرج لا يكاد يرى طريقه لفرط ما ألم به، وسار قاصدا بيت قسيس البلدة على أمل أن يكلم بربارة تلك الليلة ويتضرع إليها أن تخاطب سيدتها أرمانوسة في الأمر، وهذه تسأل أباها أن يفرج عن الفتاة إما بالعفو، وإما بالاستبدال.
وبينما هو في طريقه رأى الحرس وقوفا بالسلاح، وكان لم يعرهم التفاتا حين مجيئه، وأما الآن فكان يرتاب في كل أحد؛ لفرط ما انتابه من الجزع، ولم يبلغ بيت القسيس إلا بعد العشاء، ولم يكن قد ذاق طعاما، فطرق الباب فإذا القسيس قد أعد طعاما لضيوفه واستبطأ مرقس، فلما رآه عائدا رحب به واستقبله وقال: «لقد أبطأت علينا يا ولدي، وها نحن في انتظارك على المائدة.» فشكر له ودخل، وأمارات الكدر والكآبة تلوح في وجهه وهو يحاول إخفاءها، فلحظ القسيس فيه ذلك فسأله عن سبب كدره فغالطه ودخل معه إلى المائدة، وكان رفيقه جرجس في انتظاره، وقد قلق لغيابه، فسلم عليه وسأله عن سبب غيابه، فذكر أنه ذهب لزيارة بعض أقاربه وعاد.
وأما مرقس لم يكن يستطيع الأكل، وأراد أن يكلم بربارة، فعلم أنها مع زوجة القسيس في الغرفة الأخرى تتناولان العشاء، ولا يستطيع مقابلتها إلا في الصباح، فصبر على مضض وجلس إلى المائدة، وتظاهر بأنه يؤاكلهم ولكنه كان مشغول البال لا يفوه بكلمة حتى كلمه القسيس سائلا: «هل عرفت على من وقعت القرعة هذه السنة لتكون ضحية النيل؟»
فخفق قلب مرقس وارتعدت فرائصه عند سماع كلمة ضحية النيل، ولكنه تجلد وقال: «لا يا سيدي لم أعلم.» وغلب عليه الكدر حتى غص بالطعام، ولكنه أراد سماع تتمة الحديث فقال: «ولكنك لم تقل لي على من وقعت؟»
قال القسيس: «وقعت على مارية بنت المعلم اسطفانوس العسال، وهي فتاة على جانب عظيم من التهذيب والتقوى والجمال، وقد جاء والدها إلي بالأمس وطلب أن أعاونه على إنقاذها فتفطر قلبي لما شاهدته من لهفته على ابنته، ولكن أنى لي أن أعينه؟!»
فقال مرقس وهو يحاول التجلد وتكاد عواطفه تقتله: «ولكن ما هذه العادة القبيحة؟! وهل تظن أن النيل يعقل حتى يكون لهذه الضحية تأثير في مجراه؟!»
قال: «لا يا ولدي، إنها من العادات الوثنية التي تنفر منها أذواقنا ويأباها الطبع ولا تسلم بها الديانة، بل تنهى عنها؛ لأنها قتل للنفس.»
فقال جرجس: «وا أسفاه على هذه الفتاة، كيف تكون حالها الليلة؟ وكيف يأتيها الرقاد؟ بل كيف حال أبويها، وماذا يصيبهما إذا نفذ الأمر! فإنها وحيدتهما»
Página desconocida