Opiniones del Dr. Shibli Shumayyil
آراء الدكتور شبلي شميل
Géneros
والثواب مؤجل عسى أن يرجع الإنسان ويستحقه بتوبة وندامة تمحوان كل إثم، بخلاف الشرائع الطبيعية التي تجعل أساس هذا التوازن التكافؤ القاضي بأن كل عمل يعمله الفرد في الاجتماع، أو يعمله الاجتماع للفرد تعود نتيجته على عامله خيرا كانت أو شرا، كما هي الحال في الجسم الحي وفي سائر أفعال الطبيعة نفسها، وحينئذ يصير العمل لمصلحة العمران من قبيل «الواجب»، وإلا تراجع إليك صداه في الحال فلا يدعك تغفل عنه لحظة إلا وقد غفلت عن أقرب المصالح إليك.
وهذه الحقيقة لم تتقرر للاجتماع على أساس علمي طبيعي مكين إلا من عهد قريب، مع أنها بسيطة للغاية شأن كل الحقائق التي غيرت وجه العلم والعالم؛ كمذهب الجاذبية العامة ومذهب التحول، فقد فنيت الأجيال في الأجيال قبل أن أهتدى إليهما وظهرا بالبساطة التي يبدوان بها لنا اليوم، كأن الصعوبة في الحقيقة ليست في العثور عليها بل في إرادة البحث عنها، حتى قال بعضهم: «الصعوبة في الحقيقة هي أنك تجدها كلما بحثت عنها.»
فأنا لا أطلب المستحيل في الأمور الاجتماعية بل أطلب التمشي في نظام العمران على النواميس الطبيعية نفسها والاسترشاد بها لاجتناب عثراته وتسهيل ارتقائه، عسى أن يصبح كل أعضائه عاملين نافعين منتفعين معا، فلا يكون هناك تبذير في قوى الاجتماع، ولا حيف على الأفراد يعودان بالضرر على المجتمع، وهو أمر ميسور لولا أثرة المستأثرين وغفلة الجاهلين.
تأثير العلم الطبيعي في العمران
مهما يكن من أمر هذه الحقيقة العمرانية - أي العمل من قبيل الواجب - وبساطتها فالعمل بموجبها عن روية وعلم لا يزال في أوله؛ لأنها كما قلنا لم تتقرر إلا من عهد قريب؛ أي بعد أن نهضت العلوم الطبيعية نهضتها العجيبة في القرن الماضي، وشرع علماء الاجتماع الطبيعيون يطبقون نواميس الأحياء على العمران نفسه باعتبار كونه جسما حيا نظيرها، ولقد تقدمت العلوم الطبيعية في هذا الزمن القصير تقدما لا يحاكيه تقدم في كل العصور الماضية، ولكن من الأسف أن العمران لم يتقدم في هذه المدة في نظاماته وشرائعه ومعاملاته، وسائر أموره الأدبية على نسبة تقدمه في مخترعاته وصناعاته وسائر مادياته، بل هو في بعضها لم يتقدم مطلقا أو تقهقر أيضا، فهو اليوم مضطرب جدا للتنافر الشديد بين القديم الموروث الراسخ فيه، والجديد الحادث وصعوبة التوفيق بينهما للاستقرار فيهما على ما لا بد منه أخيرا، فالعمران معهما اليوم في طور يعرف بطور الانتقال كثير المعايب شديد الخطر عليه، فنظامه كالثوب البالي المرقع لكثرة القديم فيه حتى الآن، فإذا بدت التعاليم العمرانية الجديدة كثيرة المعايب حتى اليوم، وبدت كذلك غريبة للبعض؛ فالسبب واضح من أنها لا تزال حديثة العهد جدا.
وإذا كان العمران لم يتقدم في نظاماته على نسبة تقدمه في مادياته فلا يستفاد من ذلك أنه لم يتقدم، بل هو تقدم كثيرا عما كان في الماضي القريب حتى في البلاد التي ليس لها حظ وافر من هذا العلم؛ لأنه إذا كان المرض يعدي والشر يعدي فالصحة تعدي والخير يعدي أيضا.
فقد بقي الاجتماع في الماضي آلافا من السنين، وهو على حال من المدنية تكاد تكون واحدة في كل العصور منتقلة فيه انتقالا بسيطا فقط من مكان إلى مكان ومن قوم إلى قوم، وارتقاؤه في الأجيال بسيط جدا يكاد لا يشعر به، وعامله في هذا الانتقال السيف السليط، وكثيرا ما كانت تسطو البربرية على المدنية فتطفئ نورها إلى حين، وقد كانت علومه حينئذ علوم كلام وجدل أكثر منها علوم اختبار وعمل، ومراميه مرامي بعيدة أكثر منها قريبة، وكان نظره إلى ما وراءه أو فوقه أكثر منه إلى ما أمامه، إلى أن وجه نظره إلى الطبيعة المحسوسة، حينئذ أخذ يخطو في ارتقائه خطى الجبابرة إلى أن صارت خطاه في أيامه وسنيه كما كانت في الماضي في قرونه وعشرات قرونه، والناظر إلى العالم اليوم منذ قرن لا يذهب عليه ذلك، وعامله اليوم العلم، والعلم العملي فقط، وإذا كان لا يزال للسيف محل واسع في ذلك فهو اليوم خادم العلم، ولا يستطيع سيف الهمجي التغلب عليه كما كان يحصل كثيرا في الماضي، فالسيف اليوم مع العلم عامل «انتشار» لا عامل «انتقال»، والعلم اليوم منارة عالية تبعث بأشعتها إلى كل الأقطار.
من كان يظن من خمسين سنة أن النظام الدستوري تقدم عليه الهيئة الحاكمة من تلقاء نفسها كما حصل في اليابان؟! أو تنقاد إليه من دون مقاومة أو بمقاومة خفيفة كما حصل من عهد قريب في المملكة العثمانية وكما هو حاصل اليوم في الصين؟!
بل من كان يظن أن مطالب العمال تقابل بالإصغاء التام كما يصغى إليها اليوم؟! نعم؛ كان يصغى إليها في الماضي ولكن برءوس الحراب وأفواه البنادق، وأما اليوم فقد رأينا كيف يصغى إليها بالعقل كمطالب حقة؛ لأن الإنسان بفضل العلم الحديث لم يعد على الغالب يعتبر في الاجتماع كالآلة، ويساق إلى الحتوف كالبهيم بأيدي جبابرة الدنيا وأساطين المال وتعاليم كبار الفلاسفة النظريين أنفسهم الذين كانوا يجوزون الرق في القديم، بل صار أكثر عامة الناس كخاصتهم يفقهون أن الحق بين الناس شرع، وأن الطبقات الواطية - كما يسمونها - ليست واطية بالقدر الذي يظنون، وأن العمل لا يجوز سلبه لمصلحة أفراد معدودين، وأنه فوق المال ويجب أن يكافأ أكثر منه، وأن ما كان يعمل حتى اليوم على سبيل الرحمة يجب أن يعمل على سبيل الحق الواجب لأجل مصلحة الفرد من جهة، وفي سبيل المصلحة العامة من جهة أخرى.
ولا أنكر أن آرائي الاجتماعية، وإن كانت كلها ممكنة ومدلولا عليها بنظريات العلم الطبيعي اليوم وسير العمران نفسه نحوها، فإن فيها ما لا يزال يحيق بتحقيقه صعوبات كثيرة لقلة انتشار المبادئ العمرانية الحديثة بين الناس حتى في أرقى المعمورة؛ لأن القسم الأكثر من البشر لا يزالون في تعاليمهم تحت تأثير القديم، غير أن ذلك ليس سببا كافيا لعدم التصريح بها أو نعدها غريبة، أوليس توجيه النظر إلى الشيء مدرجة للبلوغ إليه بأهون سبيل؟! بل توجيه النظر إليه للسير فيه بالتؤدة والروية، خدمة للاجتماع كثيرا ما تقيه عواقب الثورات العنيفة فلا يفاجئ الاجتماع، وينقض عليه كالصاعقة ويدمره تدميرا أو يرجع به القهقرى ويؤخره قرونا إلى الوراء.
Página desconocida