Opiniones del Dr. Shibli Shumayyil
آراء الدكتور شبلي شميل
Géneros
ولقد جاء زمان لا يزال ذيله السابغ مسبلا علينا حتى اليوم كان فيه لعلوم الأدب شأن عظيم، فاستهوت بها أسمى العقول وشغلتها بمباحثها المجردة عن سواها، فتناولت البحث في حقيقة الوجود، وتخرصات الآباء والجدود، وأغلت في العلوم الموضوعة المجهودة، حتى صرفت العقول بها عن المحسوس الموجود والمطبوع المشهود، فوقف الناس عندها زمانا طويلا مكتفين بالماضي عن الحاضر، مقتنعين أن الأوائل ما تركوا شيئا للأواخر، وأنت تعلم معي اليوم أن الأوائل تركوا كثيرا للأواخر وأنهم في غالب الأحيان اشتغلوا بشيء هو لا شيء، تركوا اللباب واشتغلوا بالقشور، تركوا القريب واشتغلوا بالبعيد، تركوا الممكن واشتغلوا بالمستحيل، فبقي العالم يتخبط معهم قرونا وهو يدور في دائرة واحدة معيبة، وجرى مع الأواخر في سنين أشواطا لم يسرها مع الأوائل في ألوفها. وتعلم معي كذلك أن علوم الأواخر التي ارتقى بها العمران هذا الارتقاء السريع هي نقيض علوم أجدادهم على خط مستقيم، فإذا جاز حتى اليوم اعتبار علوم الأدب العالية من الكماليات في العمران الراقي، فما أحوجنا نحن اليوم فيه إلى علوم الحاجيات الضروريات؛ لئلا نبقى كذلك الكسيح الذي يزعق ويقول للذي يعدو أمامه : لو كانت رجلاي سليمتين لما سبقتني! •••
قلت: علوم الأدب وخصصتها بالعالية؛ لأن هذه الكلمة مرنة جدا، فتشتمل على الغث والسمين، وغثها أكثر من سمينها، كما هو الحال في علومنا الكلامية واللغوية وفروعها الكثيرة الفضولية، فيصرف الطالب أثمن سني عمره في المدرسة للوقوف على اختلاف البصريين والكوفيين، والتبحر في سائر العلوم الموضوعة كالمعاني والبيان والبديع والمنطق، وشوارد العروض مما يشغل الذهن ولا يبقى منه فيه على مر الزمان شيء، ألا يمكن التعبير عن الأفكار بلغة سليمة يصرف في تحصيلها أقل ما يمكن من الزمن وتكون صالحة لخدمة العلم؟! وما الفائدة من مقالة يدبجها الكاتب ويملؤها بعويص الكلام ومهمله، يستخرجه بعد العناء الشديد من بطون القواميس ليخرج القارئ في فهمه إلى الرجوع إليها، ما دام في الإمكان التعبير بالألفاظ المألوفة، وما دامت اللغة نفسها على رغم كل محافظ تابعة للإنسان في نشوئه، ومتحولة معه في تحوله تعبر عن أفكاره الجديدة ومعلوماته الجديدة في هذا النشوء وهذا التحول؟! وما الفائدة الكبرى التي يجنيها العمران من قصر اهتمامنا على البحث في ماض بال؛ للتبسط في تاريخ متناقض وأكثره مكذوب والاعتصام به للاختصام على حركات رجل وكلامه، لمعرفة ما كان عليه من الدعارة أو التأدب وفي شعره من التشبيب الخليع أو التبذل الدنيء، فما أشبه تخاصمهما هنا بتخاصم أصحاب «أبو زيد الهلالي» وأصحاب «دياب بن غانم» على حركات كل منهما! فإذا كان لا بد لكل أمة من تاريخ يدل على نشوئها، فالأفضل أن يتوخى من ذلك ما يدل دلالة كلية على حالة الإنسان في هذا النشوء بحسب العصور، فإذا كان لا بد من التبسط شيئا ففي تاريخ العلم فقط عسى أن يعثر في هذا التبسيط على فائدة جديدة للعلم نفسه. •••
ولا أنظر في انتقادي هذا إلى مجتمعنا وحده حيث هذه العلة اليوم في طور «البداءة»، وإن كان لنا من آثارنا الماضية المتراكمة ما يخشى علينا فيها كثيرا من طول «التزيد»؛ فإن هذه العلة لا تزال آفة كبرى من آفات المجتمعات الراقية، ويطلق عليها عندهم اسم «علم آداب القوم» مع الفرق بأن لهذه المجتمعات مع ذلك حسنات أخرى كثيرة ليست لنا، فإذا كان جانب عظيم من هذه الأمم الراقية يشتغل اليوم بالعلم والعمل، فإن الجانب الأعظم منهم لا يزال حتى الآن يصبو إلى الأحلام ويشتغل بغير الهام، ويرصع بالجواهر تصابي عمر الخيام ويضع الشروح الضافية لتفسير قول شكسپير «كان أم ما كان»، بل إن تجار الأدب منهم في رواياتهم التمثيلية وقصصهم الفكاهية، لا يسلمون من هذا الانتقاد الحاد والأنكى ادعاؤهم أنهم يقصدون منها التهذيب والتدريب وهي في أكثرها منافية لذلك؛ فالراقية منها تصور الإنسان على غير حقيقته، وتخلق له صفات فوق طبيعته، فتجعل حياته في الاجتماع شاقة جدا ومحفوفة بالمصاعب، فإما أن تدفعه إلى الانتحار وإما أن تخرج به إلى تعمد الإضرار، وغير الراقية كثيرا ما تستهويه بالغرابة التي فيها وتدفعه في تيارها إلى أبعد ما يمكن، ولا سيما تلك القصص التي تفشت اليوم بين العامة في أوروبا كالوباء وبلغ سيلها الجارف إلينا، والتي تشبه في الغرابة قصص «علي الزئبق» مع الفرق فيها بين لباقة هذه وشناعة تلك، فاستهوت بها قرائح الكتاب في القارات الأربع لما بها من الكسب، فبروا لها أقلامهم وتباروا فيها ونشطهم إقبال الجمهور عليها، فملئوها بكل تفنن فوق التصور في اقتراف الجرائم ومثلوها على مشاهد الصور المتحركة ليرغب فيها أطفالنا؛ حتى صارت مدرسة للجميع تحبب للبعض النسج على منوالها ولو من باب ركوب متن الإعجاز. والغريب أن الحكومات اليوم تتكاتف على صد أوبئة الأمراض ولا تصادر هذه الأوبئة الاجتماعية، التي هي أشد فتكا من تلك، والتي إذا استوطنت لا يعود استئصالها من جسم الاجتماع بالأمر السهل، ولعل عذرهم في ذلك أنها بضاعة أدبية، فيا ويل الاجتماع من هذه اللفظة؛ فكم يجرعونه بها كل يوم من السموم! •••
على أن موضوع الروايات واسع جدا ويمكن لكتابها المبرزين أن يكتبوا روايات يقرنون فيها الجميل الباسط بالمفيد النافع، وليس من الضروري لرواجها أن يخرجوا فيها عن الممكن أو يتنزلوا إلى التهتك لإفساد التصور وترسيخ القبيح، وما أحق كتابنا نحن خاصة في نهضتنا هذه الحديثة بعد أن صدأت أفكارنا وشاخت لغتنا أن يعلمونا كيف نفكر وكيف نتفاهم، وكيف نعبر عما لا غنى لنا عنه وهو واقع تحت نظرنا كل يوم! كأن يدخلوا بنا إلى حانوت التاجر ودكان الصانع، ويجولوا بنا جولة في حقل الزارع، ويسبكوا لنا قصة ظريفة لطيفة ينمقونها كما يشاءون، يأتون في عرضها على ذكر الآلات والأدوات وسائر الإصلاحات التي ترد في عمل كل واحد منهم، والتي لا ذكر لها في قواميسنا على ضخامتها والتي إذا عرضت على كتابنا المبرزين الواقفين على أسرار اللغة من عهد قحطان إلى اليوم أصابهم أمامها العي، يشذبون القواميس من المترادفات التي أصبح كثيرها في حكم الفضول، ويطرحون منها الألفاظ التي شاخت وماتت ولم يعد لها فائدة بشيء ويضعون الألفاظ الجديدة مكانها، يذكرونها كما هي في اصطلاح أصحاب الحرف من دون نحت أو تقعر، كما كان يفعل سلفاؤهم في نقل الألفاظ الجديدة والأسماء الغريبة، والطباعة اليوم تتكفل لهم بضبطها أكثر مما كان يستطيعه النسخ لسلفائهم في الماضي. •••
ولا يؤخذ من هذا القول أني أريد القضاء التام على علوم الأدب، ولا سيما في أحوالنا الخاصة التي تجعل هذه العلوم كل رأسمالنا في نهضتنا الحديثة، وإنما أريد أن أنبه إلى أن قصر قوانا عليها اليوم مضيعة لنا كما كان مضيعة لنا ولسوانا في الماضي، فما علا كعب علوم الكلام في أمة إلا وكان القاضي عليها فلا نجعلها الغاية من حركتنا الفكرية الجديدة، بل نجعلها الواسطة لبلوغ ما هو أرقى وأهم مما ينفعنا في حياتنا العملية الاجتماعية، فلا ننخدع كثيرا بنهضتنا الأدبية فنستنيم عليها أو ننصرف بها إلى إضاعة الوقت، بمباحث لا طائل تحتها نتصل منها إلى جدال لا فائدة منه سوى أن نموه به على أنفسنا أنه هو العلم، بل نحول قوانا المتجمعة والكامنة فينا إلى ما يرفع عماد العمران ويرقيه كما هو اليوم؛ ليكون لنا في ذلك قسط راجح، ولنكون له أعوانا أيضا لا عقبات، وهذا لا يتم لنا بالسياحة في فضاء الخيال والتلفت دائما إلى الماضي، للبحث في مطويات الأدراج والتغني بمجد الآباء والبكاء على الأطلال، بل بالنظر في حاضرنا في الاجتماع ومستقبلنا، وإذا نظرنا إلى ماضينا نظرا كليا فللمقابلة فقط لإظهار الفرق وأسبابه للعيان ليسهل علينا الانتقال إلى الأحسن، لا لإضاعة الوقت والتلهي بمباحث عقيمة لا تهم حاضر الاجتماع ولا مستقبله بشيء، وأقل إضرارها بنا الجمود، والعمران لا يرتقي إن لم تكن وجهته في كل أعماله التزيد ولا يتزيد إلا إذا أكثر اشتغاله بما أمامه وقل تلفته إلى ما وراءه. •••
وكأن هذا المبدأ بي لم يفارقني إلا مرة في حياتي تمنيت فيها شيئا لم أنل سواه من كل متمنياتي، أذكره هنا على سبيل الفكاهة «تماديا» عن هذا الجد الذي يرى أني أكثرت «القزوع» فيه «فيقزمني»،
1
فإني زرت بعلبك سنة 1870 فوقفت مبهوتا من عظمتها ودقة صناعتها، فكتبت على أحد حجارتها البيتين الآتيين:
المرء يسعى أن يسير إلى الأما
م وليس يحمد أن يسير القهقرى
Página desconocida