Opiniones críticas sobre problemas de pensamiento y cultura
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
Géneros
أولى هذه العقبات نوع من الجمود العقلي أدى بالمفكرين إلى أن يرتفعوا بالإنسان فوق مستوى الموضوعات التي يمكن أن تخضع للبحث العلمي المنظم، وحجتهم في ذلك هي الدفاع عن الكرامة الإنسانية، والاحتفاظ للإنسان بمركزه المميز في الكون، وتأكيد ضرورة معاملته على نحو يختلف عن ذلك الذي تعامل به «موضوعات» العالم الطبيعي. على أن مثل هذا الحرص الكاذب على الكرامة الإنسانية كان هو القوة الدافعة من وراء المعارضة التي سبق أن قوبل بها كبرنيكوس عندما أكد أن الأرض - مقر الإنسان - ليست مركز الكون، وليست هي النقطة المحورية التي تدور حولها ومن أجلها كل حوادثه، وبالمثل كان هذا الاهتمام الزائف بمكانة الإنسان «الاستثنائية» و«الفريدة» في الكون من أهم العوامل التي دعت إلى معارضة كل «كاشفي النقاب» عن حقيقة الدوافع الإنسانية، من أمثال فرويد وماركس، وهو نوع من المعارضة لا يقوى على الصمود طويلا في وجه أي كشف جديد حاسم. (2)
ويرتبط بالعقبة السابقة اعتقاد ظل مسيطرا على الأذهان ردحا طويلا من الزمان، يرتكز على حقيقة لا يمكن إنكارها، هي التعقد المفرط للظواهر البشرية، من هذه الحقيقة استنتج الكثيرون أن أية معالجة علمية لتلك الظواهر لا بد أن تكون تبسيطا مفرطا ومخلا، يهبط بها إلى مرتبة «الأشياء» المألوفة المتكررة التي تسير على وتيرة واحدة، ويمكن بسهولة كشف نماذج للاطراد المنتظم في سلوكها، على حين أن أهم ما في الإنسان هو الاختلافات من فرد إلى فرد، لا الصفات المشتركة بين الأفراد، هذه العقبة تفترض مقدمة رئيسية موروثة منذ عهد الفلاسفة اليونانيين الأوائل، هي أنه «لا علم إلا بما هو عام»، ولكن العلوم الإنسانية أثبتت - بفضل مجموعة من المناهج المبتكرة - أن من الممكن قيام علم بما هو خاص، أو أن الفردي يمكن أن يكون موضوعا لدراسة لا تقل في علميتها عن تلك التي تتعلق بما هو عام، وبذلك قضت على الأساس الذي ترتكز عليه هذه العقبة. (3)
وأخيرا فقد اعتقد الكثيرون أن العلوم الإنسانية - حتى لو استطاعت أن تضمن لنفسها مكانة مساوية لمكانة العلوم الطبيعية - ليست بأفضل وسيلة لمعرفة الإنسان؛ فهناك حدود معينة لا تستطيع هذه العلوم أن تتعداها، وهي إذا تمكنت من معرفة الإنسان فإنما يكون ذلك «من الخارج»، أما التعمق الحقيقي في أغوار النفس البشرية، والنفاذ إلى جوهرها الفريد، فإنما يتم على أيدي أوساط أخرى كالأدب والفن والفلسفة، وذهب بعض أنصار هذا الرأي إلى حد القول بأن لمحة من لمحات دستويفسكي قد تفوق - في فهمها لحقيقة الإنسان - مجلدات كاملة في علم النفس، وأن استبصارا فلسفيا عميقا قد يكشف - بطريقة بسيطة مباشرة - عما تعجز عشرات الأبحاث التجريبية عن الوصول إليه.
على أن الفن والأدب لا يمكنهما أن يقدما ما فيهما من معرفة عميقة بالنفس البشرية إلا لمن يمر «بتجربة» من نوع فريد، هي تجربة تذوق العمل الفني أو الأدبي والاندماج فيه؛ فالمعرفة المتضمنة فيهما إذن ليست متاحة للجميع، وإنما هي رهن بتهيؤ المرء لتلقيها، لا عن طريق المران أو التدريب فحسب، بل عن طريق اتصافه بقدر معين من رهافة الحس وشفافية النفس؛ فهي إذن مقرونة بشروط تجعلها بطبيعتها معرفة «خاصة» لا تتوافر إلا لفئة معينة من الناس، وربما كانت تتوافر لكل فرد في هذه الفئة ذاتها على نحو يختلف باختلاف أبعاد تجربته الفنية أو الأدبية الخاصة.
أما الفلسفة فإنها - بالرغم من كل ما أسهمت به في إثراء معرفتنا بالإنسان - تكسب المشتغلين بها قدرا لا مفر منه من الطموح المفرط، يجعلهم يتعجلون إصدار الأحكام العامة التي قد تتجاوز بكثير نطاق المعرفة المحققة؛ فالفيلسوف بطبيعته عاجز عن مجاراة المشتغل بالعلم في تواضعه ورضائه بالقليل، واكتفائه بالسير المتدرج في أبحاثه، وقناعته بالنتائج غير الكاملة، وتذرعه بالصبر والتأني والتمهل في الحكم على الأمور، ومن هنا كان من الصعب أن تترك معرفة الإنسان في أيدي الفلاسفة وحدهم؛ لأنهم - مع عدم امتلاكهم للحصيلة العلمية التي أصبحت أمرا لا غناء عنه عند معالجة أي موضوع طبيعي أو إنساني - ما زالوا متمسكين بعادات عقلية تجعلهم يظنون أنفسهم قادرين على أن يحققوا في استبصار خاطف ما يعجز العلماء عن تحقيقه بعد بحث شاق دءوب، وربما كانت أمثال هذه الاستبصارات قد حدثت بالفعل في حالات متفرقة، ولكنها لم تعد اليوم قاعدة، وهي على أية حال أمر لا يمكن الاعتماد على حدوثه بانتظام، فضلا عن أن احتمالات الإخفاق في هذا المجال أعظم بكثير من احتمالات النجاح.
وإذن فلم يكن من العسير على العلوم الإنسانية أن تتغلب على هذه العقبات، وأن تؤكد نفسها بوصفها علوما تستطيع أن تضيف على الدوام - بطريقة تراكمية منظمة - مزيدا من المعارف المتعلقة بالإنسان ، مستخدمة في ذلك مناهج خاصة تقرب أو تبعد عن المناهج المستخدمة في العلوم الراسخة، التي تعالج موضوعات يسهل كشف الاطراد المنتظم في ظواهرها.
وليس من أهدافنا في هذا المقال أن نتتبع قصة نجاح العلوم الإنسانية في اكتساب هذه المكانة، ولكنا نستهدف - على العكس من ذلك - تنبيه الأذهان إلى بعض الإشكالات التي لا تزال تعوق سير هذه العلوم، وتمنعها من تحقيق ما ترجوه لنفسها من نجاح في فهم الإنسان، ولسنا نود أن نتحدث عن الإشكالات التي تدركها هذه العلوم عن وعي، وتحاول التغلب عليها بجهد دائب منتظم، بل إن هدفنا الحديث عن صعوبات منهجية تعترض طريق العلوم الإنسانية دون أن تكون هذه الأخيرة واعية بها كل الوعي، وخطورة هذا النوع من الصعوبات تكمن في أنه يمكن أن يظل ملازما للعلوم الإنسانية أمدا طويلا، بحيث يظل يهدد موضوعيتها ودقتها بالخطر، وإن كانت هذه العلوم تظل طوال ذلك الوقت معتقدة أنها تحقق لنفسها موضوعية ودقة تتزايدان باطراد.
ذلك لأن تلهف المشتغلين بالدراسات الإنسانية على اكتساب صفة العلمية، واعتقادهم - عن حق - أن هذه الصفة تشريف وتكريم لأي جهد عقلي يقوم به الإنسان؛ قد أدى بهم أحيانا إلى الوقوع في إشكالات منهجية يصعب كشفها؛ لأنها - في مجال العلوم الأخرى - ليست بإشكالات على الإطلاق، وبعبارة أخرى فقد استعيرت من مجال العلوم الطبيعية أو الرياضية مفاهيم معينة، وطبقت بشيء من التسرع في مجال العلوم الإنسانية، فترتب على ذلك نوع من تشويه صورة هذه العلوم، بحيث أصبحت في بعض الأحيان تبدو محاكية لعلوم أخرى ذات موضوعات مغايرة، دون أن تكون قادرة على إدراك الصفات التي تنفرد بها موضوعاتها الخاصة، والتي تحتم عليها استخدام مفاهيم مخالفة، أو تعديل المفاهيم المستعارة من المجالات الأخرى، إن لم يكن من استعارتها بد.
وسوف أكتفي - لإيضاح وجهة نظري - بفكرتين رئيسيتين، يقوم بينهما ارتباط وثيق، هما فكرة الحتمية وفكرة القانون، وسأحاول أن أثبت أن العلوم الإنسانية حين طبقت هذين المفهومين على مجالها الخاص، لم تكن قادرة في كل الأحيان على إدراك ما تقتضيه سماتها المميزة من تعديلات خاصة كان ينبغي مراعاتها عند استخدام مفهومين كهذين ظلا مرتبطين بمجال العلوم الطبيعية أمدا طويلا.
فكرة الحتمية
Página desconocida