Opiniones críticas sobre problemas de pensamiento y cultura
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
Géneros
ومن جهة أخرى فإن التاريخ الفلسفي يعود فيؤثر في التفلسف ذاته تأثيرا عميقا؛ ذلك لأن الفيلسوف لا يستطيع - في معظم الأحيان - أن يتجاهل المذاهب الفلسفية القائمة بالفعل، بل يجد لزاما عليه أن يسوي حسابه مع التطورات الماضية للفكرة التي يتناولها بالبحث، ويحدد موقفه وموقعه منها، فإما أن يتأثر بمذهب من المذاهب السابقة، وإما أن ينقده ويقف منه موقفا سلبيا متشككا، وإما أن يأتي برأي جديد بعد هذا النقد، وهكذا تتحدد معالم التفلسف من خلال عملية الجذب والتنافر التي يشعر بها المفكر إزاء المذاهب السابقة، ويتميز تطور الفلسفة - قبل كل شيء - بذلك الطابع الجدلي الذي يكون تاريخ الفلسفة فيه أشبه بمحاورة هائلة بين مذاهب مختلفة تثور المناقشات بينها في مختلف المشكلات، وترتفع هذه المناقشات إلى مستويات أعلى كلما تراكمت الخبرات وازداد البحث عمقا.
والحق أن وجود هذا النقاش والجدل والخلاف هو ذاته من السمات التي تميز التاريخ الفلسفي من كل أنواع التاريخ الأخرى؛ ذلك لأن التاريخ - في معناه العام - يتجنب المناقشات والخلافات قدر إمكانه؛ فهو ببذل قصارى الجهد من أجل عرض الوقائع الماضية عرضا موضوعيا هادئا، لا مكان فيه للنزاع أو لمحاسبة الماضي، وحين يعرض المؤرخ لحادث سياسي - مثلا - لا يصدر حكما باستحسان ما حدث أو استهجانه إلا في أحوال نادرة، وإنما يحاول عادة أن يعيد تركيب صورة الماضي على أدق نحو ممكن، وينظر إليه من حيث هو بعيد ومنفصل عنه، ذلك هو طابع التاريخ بمعناه العام، أما التاريخ الفلسفي فهو في أساسه جدلي خلافي، وقد يؤدي ذلك في أحيان غير قليلة إلى فقدان صفة الموضوعية فيه تحقيقا لأغراض الخلاف والجدل، ويمتد هذا الجدل إلى أقدم النظريات والمذاهب الفلسفية، أي إنه لا يقتصر على المذاهب القريبة العهد كما هي الحال في الجدل العلمي، وفي كل الأحوال يحرص مؤرخ الفلسفة على الحكم على ما يعرضه من المذاهب، ومقارنة بعضها ببعض، ولا يكتفي أبدا بالعرض الموضوعي، وإلا اتسم عمله بالنقص والتقصير.
ويمكن القول إن الانحياز في حالة عرض التاريخ الفلسفي أمر مرغوب فيه في كثير من الأحيان، بينما هو من أشد عيوب البحث في حالة التاريخ الصرف؛ فشخصية مؤرخ الفلسفة وطريقة تفكيره تقوم بدور هام في طريقة عرضه للمذاهب الأخرى، وهو لا يحاول أن يخفي ذلك - على عكس المؤرخ العادي الذي قد تظهر شخصيته أو ميوله الخاصة أيضا في بحثه، ولكنه يحرص على إخفائها كل الحرص، وعلى تقديم بحثه في صور لا شخصية قدر الإمكان - وإنما يعترف مؤرخ الفلسفة بأن نظرته إلى المذاهب الأخرى تتلون باتجاهاته الخاصة في التفكير، وقد يجد في هذا الاعتراف ما يدعو إلى الزهو والمباهاة، بل إن مجموعة من الكتب الهامة في تاريخ الفلسفة كانت مصطبغة بالطابع الفكري الخاص للمؤرخ على نحو صريح، واعترف مؤلفوها دون مواربة بأنهم إنما يتأملون الفلسفة في منظورهم الخاص كما هي الحال في كتاب هيجل الضخم «محاضرات في تاريخ الفلسفة»، وكتابات هيدجر المتعددة عن مختلف مراحل تاريخ الفلسفة، منذ الفجر الأول للفلسفة اليونانية حتى العصر القريب. •••
وهكذا ظهر لنا تاريخ الفلسفة - من وجهة النظر السابقة - مرتبطا على نحو لا يقبل الانفصام بالفلسفة ذاتها، وتأكدت لنا الأهمية الكبرى لهذا التاريخ بالنسبة إلى كل تفلسف.
ومع ذلك فمن الممكن القول - من وجهة نظر أخرى - إن العنصر التاريخي لا أهمية له في التفلسف على الإطلاق، وعلى قدر اهتمام كثير من الباحثين بتاريخ الفلسفة بوصفه أقوى تعبير عن الفكر الفلسفي ذاته، ظهر من الباحثين من أنكروا قيمة التاريخ في مجال الفلسفة، وقدموا حججا قوية تؤيد رأيهم هذا، وهي حجج لو صحت لأدت بنا إلى طريق مضاد تماما لذلك الذي سلكناه من قبل.
فمن الظواهر الملحوظة في التطور الفلسفي، أن يظهر من آن لآخر مفكر يبدأ بداية تبدو جديدة كل الجدة، ويتجاهل التاريخ السابق وكأنه لم يكن، ووجهة نظر هؤلاء أن الفلسفة إنتاج فكري مستقل، أو خلق حر، لا ينبغي له أن يتقيد بالسوابق الماضية أو يلتزم بإكمال التطور السابق، ويتخذ ظهور المذاهب الفلسفية عند أصحاب هذا الرأي طابعا أقرب إلى الانبثاق المفاجئ منه إلى التطور المتصل المنتظم، وهم يرون أن الفلسفة لا تعرف ذلك التدرج البطيء المعقول، الذي يترتب فيه السابق على اللاحق بانتظام، على النحو الذي نجده في العلوم الأخرى.
ولقد لاحظ الفيلسوف الألماني الكبير «كانت» هذه الصفة في التطور الفلسفي، وأشار بوضوح إلى عدم انتظام هذا التطور، وذلك في مقدمة الطبعة الثانية لكتابه «نقد العقل الخالص» فقال - مشيرا إلى الميتافيزيقا وإن كان كلامه ينطبق على الفلسفة بوجه عام: «على الرغم من أن الميتافيزيقا أقدم من العلوم الأخرى جميعا، وستظل باقية حتى لو غرقت العلوم الأخرى كلها في لجة من الهمجية التي لا تدع شيئا إلا وقضت عليه، فإن الحظ لم يسعدها حتى الآن بسلوك طريق العلم المؤكد؛ ذلك لأن العقل يضطر فيها دائما إلى التوقف، ويتعين علينا دائما أن نقطع الشوط من جديد؛ إذ إن مسلكنا الأول لا يقودنا إلى الاتجاه الذي نود السير فيه. كذلك فإن باحثي الميتافيزيقا قد بلغ بهم الافتقار إلى بلوغ أي نوع من الإجماع في دعاويهم حدا جعل الميتافيزيقا أحق بأن تعد ساحة قتال، تلائم بوجه خاص أولئك الذين يريدون التدرب في معارك وهمية، وهي ساحة لم يفلح أي متسابق فيها حتى اليوم في كسب شبر واحد من الأرض، أو على الأقل لم يفلح في كسبه على النحو الذي يضمن له امتلاكه بصفة دائمة.»
هنا يشير «كانت» إلى صفة هامة في البحث الفلسفي، تفرق بينه وبين البحث العلمي تفرقة قاطعة، ومن ثم فهي تؤدي إلى إدراك الاختلاف بين طريقة التطور التاريخي في كلا المجالين؛ فالفلسفة لا تعرف حقائق تامة نهائية يستطيع باحثو الفلسفة أن يقولوا إنها اكتسبت وأصبحت جزءا لا يتجزأ من مضمون المبحث الذي يشتغلون به، أما العلم فيبنى خطوة بعد خطوة على حقائق يمهد القديم فيها الطريق للجديد، ومن هنا فلا يمكن أن يكون فيه مجال للخلاف والنزاع والجدل إلا حول المعارف الجديدة أو القريبة العهد، أي إن طابع التكامل والاستقرار الذي تتسم به الحقائق العلمية يؤدي إلى استبعاد الجدل من تاريخها الماضي، ويركزه في التطورات الأخيرة وحدها؛ لأن هذه هي التي لم تستقر بعد، أو لم تتم إضافتها إلى ذخيرة هذا العلم وحصيلته المكتسبة، وهنا يظهر الفارق واضحا بين نظرة الفلسفة والعلم إلى تاريخهما الماضي؛ ذلك لأن عدم وجود حقائق مستقرة في الفلسفة يجعل للقديم نفس المكانة التي نعزوها إلى الجديد، ويضع مراحل التطور كلها على قدم المساواة من حيث أهميتها في الجدل الفلسفي، ولسنا نعني هنا بالمساواة أن تكون لها كل قيمة واحدة بالنسبة إلى تفكيرنا المنطقي، بل نعني أن انتماء أي مذهب فلسفي إلى الماضي أو إلى الحاضر ليس «في ذاته» عاملا من عوامل استبعاده أو التمسك به في ميدان الفلسفة، وهذا لا يمنع - بطبيعة الحال - من تفاوت مراتب المذاهب تبعا لمدى اتساقها الداخلي، وغير ذلك من معايير التفضيل في ميدان الفلسفة.
إن العلم يتطور عن طريق التوسع في مجموعة من الحقائق اللاشخصية التي تتسم بطابع مستقر، دون أن يكون لفردية العالم تأثير فيما يصل إليه من الحقائق؛ فحين نتأمل أي علم في تطوراته الماضية ونقارنها بصورته الراهنة، نجد أن هذه التطورات تسير دائما في طريقها بمنطق داخلي خاص بها، ومن الممكن أن نتتبعها دون أية إشارة إلى شخصية مكتشفيها أو خصائصهم الفردية؛ ذلك لأن هذا التطور العلمي إنما هو محاولة لتحقيق المزيد من الصواب فحسب، وليس معنى ذلك أن العلم لم يكن فيه أخطاء، أو أن كل عالم يسير آليا في الطريق الصحيح، بل إن ما يحدث في تاريخ العلم هو أن الأخطاء تستبعد آليا، وتزاح من الطريق الرئيسي الذي يسلكه العلم، فلا يتبقى فيه إلا الحقائق، وصحيح أن الحقيقة الجديدة تنسخ ما سبقها في كثير من الأحيان، غير أن العلم يحتفظ خلال تقدمه بالحقائق التي تتضمن في ذاتها قدرة على توليد حقائق أصح منها، مثال ذلك أنه حين اكتشفت نظرية كبرنيكوس في الفلك، استبعدت آليا نظرية بطليموس القديمة التي كانت تجعل الأرض مركزا للكون، كما استبعدت بطبيعة الحال نظريات خرافية أخرى متعددة كانت تعلل حركات الكواكب والنجوم بقوى خفية شبيهة بقوى الإنسان، ومع ذلك فإن نظرية بطليموس هي التي تمثل مرحلة من مراحل تاريخ العلم؛ لأنها تنطوي على إمكانات تسمح بظهور حقيقة أخرى أدق منها، أما النظريات الخرافية فهي لا تمثل حتى مجرد مراحل قديمة في هذا التاريخ؛ لأنها لا تؤدي إلى شيء، والمهم في هذا كله أن تاريخ العلم إنما هو تاريخ حقائق متدرجة أو متراكمة تؤدي كل منها إلى حقيقة أدق منها وأشمل.
أما لو تتبعنا التاريخ الفلسفي، لوجدناه تاريخ محاولات لا تاريخ حقائق؛ ذلك لأن عدم وجود معارف مكتسبة مستقرة في المجال الفلسفي يجعل تاريخها منطويا على عناصر الخطأ والصواب معا، بل يكاد يقضي على أي تمييز قاطع بين ما هو خطأ وما هو صواب؛ فحين نتتبع التاريخ الفلسفي لأي عصر من العصور، لا نستطيع أن نهتدي إلى طريق رئيسي واحد يسير فيه الفكر مستقرا واثقا من نفسه من البداية إلى النهاية، وتستبعد منه على الدوام أخطاء تطرح جانبا لكي تختفي في غياهب النسيان؛ فالتاريخ الفلسفي يضم في داخله كل المحاولات، ما أصاب منها وما أخطأ، بل إنه يضمها كلها دون أن يجد معيارا لتمييز ما هو مخطئ فيها وما هو مصيب، أو على الأصح دون أن يحاول الاهتداء إلى مثل هذا المعيار. ومجمل القول أن تقدم العلم يسير في خط رأسي يرتفع دواما إلى أعلى، على حين أن مسار الفلسفة يسير في خط أفقي يقف فيه كل مذهب إلى جوار الآخر.
Página desconocida