Opiniones críticas sobre problemas de pensamiento y cultura
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
Géneros
إن من الأمور المسلم بها أن أيدي خصوم الاشتراكية تتدخل بكل ما تملك من قوة لكي تثير الصعوبات أمام أي نظام اشتراكي تستطيع أن تمارس مؤامراتها عليه، ولكن هناك حقيقة ينبغي على الفكر الاشتراكي أن يعترف بها ويواجهها صراحة، وهي أن هذا التآمر وهذا التخريب إنما يستغل أخطاء موجودة بالفعل، وبقدر ما يجد التآمر صدى في نفوس الجموع الكبيرة من الناس - حتى أصحاب المصلحة الحقيقية في بقاء النظام الاشتراكي منهم - تكون هذه الأخطاء أفدح وأخطر، وفي مثل هذه الأحوال لا ينبغي أن تقتصر مهمة الفكر الاشتراكي على التنديد بتآمر الخصم وتخريبه، بل ينبغي عليه أن يبحث بصدق وأمانة وصراحة في أصل العيوب ونقاط الضعف التي استطاع التآمر أن يستغلها، والتي لولاها لما استطاع أن يجد لنفسه منفذا، وكلما كان الفكر الاشتراكي أسرع إلى كشف أخطائه الداخلية ومعالجتها قبل أن تستفحل، كان ذلك خيرا ألف مرة من الانتظار حتى يفلت الزمام، ومعالجة الداء في آخر لحظة بطريق البتر.
سياسة التعايش السلمي
وأخيرا فلعل من أهم المسائل التي تشكل تحديا جبارا أمام الفكر الاشتراكي في أيامنا هذه بالذات، مسألة حدود سياسة التعايش السلمي، وأوضح دليل على خطورة هذه المسألة أن الآراء منقسمة حولها داخل المعسكر الاشتراكي إلى ما يزيد عن أربعة اتجاهات يمكن تمييزها بوضوح، والإشكال الذي يواجهه مبدأ التعايش ذاته والذي يحتم بالتالي إعادة تقدير حدود هذا المبدأ ومدى إمكان استمرار تطبيقه، هو أن فكرة التعايش - التي كان المقصود منها في الأصل تقليم أظافر المعسكر الرأسمالي - بإشاعة جو سلمي يتنافى مع مصالح الرأسمالية التي لا تزدهر إلا في جو يسوده التوتر والعدوان، هذه الفكرة قد تحولت في السنوات الأخيرة إلى أداة تخدم المعسكر الرأسمالي.
ولسنا نرى ما يدعو إلى تقديم أي شرح مفصل للطريقة التي استطاع بها المفكرون المدافعون عن الرأسمالية أن يقلبوا مبدأ التعايش من أداة لتوريط نظامهم إلى أداة لخدمة مصالحهم، تسبب لأصحاب هذا المبدأ وواضعيه أنفسهم حرجا شديدا، لكن يكفينا أن نشير إلى أنهم - مع احتفاظهم بنوع من التعايش السلمي على مستوى الدول الكبرى - ينتهزون كل الفرص لخرق هذا التعايش على كل المستويات الأخرى، أعني لإيجاد حالة من التوتر المستمر، تهدد بقيام حرب شاملة وإن لم تكن تؤدي إليها بالفعل، هذا التوتر يعطي القوى العدوانية حرية العمل، ويشل في الوقت ذاته حركة القوى ذات المصلحة في السلام؛ لأن تدخلها لا بد أن يزيد من التوتر إلى الحد الذي يهدد السلام العالمي تهديدا فعليا، ومن هنا كانت حرية الحركة الواضحة التي اتسمت بها سياسة الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة، والتي استطاعت بفضلها أن تلحق بالمعسكر الاشتراكي وبمعسكر الحياد الإيجابي نكسات على جبهات متعددة.
هناك إذن حاجة ملحة إلى إعادة تقويم سياسة التعايش السلمي واختبارها في ضوء التجارب الأخيرة، لا سيما وأن هناك ثورة على هذه السياسة داخل المعسكر الاشتراكي نفسه، ولكن مما يزيد المسألة تعقيدا أن اتباع هذه السياسة يبدو أمرا لا مفر منه ما دام المعسكر الرأسمالي - وعلى رأسه الولايات المتحدة - لا يزال هو المتفوق اقتصاديا وعسكريا؛ فالمواجهة المباشرة مستحيلة ما دام الخصم سيلجأ فيها - إذا وجد نفسه في مأزق شديد - إلى استخدام كل ما يملك من قوة، وعلى هذا الأساس يبدو المعسكر الاشتراكي مضطرا إلى الأخذ بشكل من أشكال سياسة التعايش السلمي، إلى أن ينقلب الميزان الاقتصادي لصالحه، وبعبارة أخرى فهناك نوع من المهادنة السياسية والعسكرية، يجري خلالها العمل على أشده من أجل تعويض النقص وسد الفراغ في الميدان الاقتصادي، وبهذا المعنى يبدو التعايش السلمي مرحلة مؤقتة تمنح المعسكر الاشتراكي مهلة يستطيع خلالها أن يلحق بالمعسكر الرأسمالي ثم يسبقه في الميدان الحقيقي الذي سيقرر نتيجة المعركة، وهو ميدان الإنتاج الاقتصادي، فإذا ما تحقق له هذا السبق؛ أمكن أن تحل كل المشكلات الأخرى دون عناء.
ولكن هذا التصوير للموقف يكشف لنا عن تعقيدات هائلة في الصراع الراهن بين المعسكرين؛ ذلك لأن النظام الرأسمالي يدرك بدوره هذه الحقيقة، ويعمل كل ما في وسعه للحيلولة دون تحقق الظروف التي قد تساعد الخصم على التفوق عليه، وليس التوتر الذي يخلقه والحروب الصغيرة والمتوسطة التي لا يكف عن إثارتها سوى محاولات لزيادة عبء التسلح على العالم الاشتراكي والعالم الثالث، أي على المعسكر صاحب المصلحة في السلام، ومن الواضح أن التفوق الاقتصادي الراهن للمعسكر الرأسمالي يسمح له بتحمل أعباء التسلح والرفاهية الاجتماعية في آن واحد، على حين أن هذه الأعباء تحد من قدرة المعسكر الاشتراكي على تحقيق الرفاهية، فضلا عن أنها تؤخر عملية لحاقه بالعالم الرأسمالي في الميدان الاقتصادي، وبعبارة أخرى فإن التعايش السلمي في ظل التوتر الراهن لا يحقق الغرض المقصود منه، وهو أن يعطي المعسكر الاشتراكي فسحة من الوقت يستطيع خلالها أن ينال بالتدريج قصب السبق في البناء الاقتصادي.
ومن جهة أخرى فإذا حاول النظام الاشتراكي أن يضاعف من جهده حتى يستطيع تحمل أعباء التسلح والنمو الاقتصادي معا، فإنه سيصطدم حتما بذلك العامل الإنساني الذي أشرنا إليه من قبل، وسيضطر إلى اتخاذ مزيد من تدابير الضغط المادي والمعنوي، وهذا وحده عامل من عوامل تأخير التفوق المنشود.
إنها إذن صورة معقدة غاية التعقيد ، وهي نوع من المعادلة الصعبة ذات الحدود المتعددة، وفي اعتقادي أن الفكر الاشتراكي يستطيع أن يجد لنفسه مخرجا من هذا المأزق لو واجهه في تعقده وتشابكه مواجهة صريحة، وتلك على أية حال من التحديات الكبرى التي تقابل هذا الفكر في المرحلة الراهنة من تاريخه. •••
إن مراجعة الفكر الاشتراكي لنفسه في ضوء التطورات الأخيرة ضرورة لا مفر منها، بل هي المعيار الحقيقي الذي يكشف عن مدى إخلاص هذا الفكر لأهدافه، أما التمسك الحرفي بالنظريات التقليدية دون محاولة لتجديدها تمشيا مع ظروف عالم سريع التغير، فلا يؤدي إلا إلى تشويه للفكر الاشتراكي، وللتجربة الاشتراكية ذاتها، وفي اعتقادي أن تحقيق تجربة اشتراكية مشوهة أشد ضررا حتى من العجز عن تحقيق أي نوع من التجربة الاشتراكية؛ ذلك لأن من السهل أن يخلط الناس بين الصورة المشوهة وبين مبدأ الاشتراكية ذاته، فيكون في ذلك ما يعوق ظهور أي تطبيق صحيح لهذا المبدأ في المستقبل.
إن طريق الاشتراكية هو طريق التاريخ، ولكن التاريخ لا يصنع نفسه بنفسه، ولا يكشف عن مساره إلا لأولئك الذين يحسنون التفكير فيه، ويتبينون اتجاهه من خلال ذلك الضباب الكثيف من التعقيدات التي تخفي معالمه، ولن يكون في وسع أي مفكر أن يساير حركة التاريخ لو سار معها ردحا من الزمن ثم تصور أنه اهتدى إلى الطريق، وظل سائرا بعد ذلك في خط مستقيم لا يلتفت يمنة ولا يسرة. كلا، إن أعين العقل ينبغي أن تظل مفتوحة على الدوام، ومسار التاريخ في هذا العالم المعقد الذي نعيش فيه شديد التعرج والالتواء، واتجاهه يزداد تعقيدا كلما بدا لنا أننا نقترب من الهدف، ولا بديل لكل مفكر تقدمي من أن يبذل كل ما أوتي من قوة لكي يحلل الواقع المعقد الذي نعيش فيه، ويتجاوز في تحليله هذا مرحلة الحلول السهلة والإجابات السريعة والتفسيرات المعدة سلفا.
Página desconocida