Opiniones críticas sobre problemas de pensamiento y cultura
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
Géneros
ومن الأمور البالغة الدلالة - بالنسبة إلى هذه الرحلة القمرية - أن كل شيء، فيها كان محددا بدقة ، حسب تخطيط محكم وضع منذ سنوات طويلة؛ فالعالم كله كان منذ سنوات يعرف التاريخ المحدد لهبوط الإنسان على القمر، وإني لأعترف بأنني كنت كلما سمعت ذلك التاريخ انتابني الشك في إمكان بلوغ هذا الهدف الطموح، ولم أصدق ما حدث إلا بعد أن حدث! والأمر الذي يدعو إلى الحيرة حقا هو أن هذا التخطيط البالغ الدقة قد تم وضعه وتنفيذه بنجاح في ظل نظام اجتماعي كان على الدوام يشكك في قيمة التخطيط الذي يحشد له المجتمع أكبر قدر من موارده لكي يحقق هدفا حدده مقدما، ولست أدري هل سيؤدي هذا النجاح إلى تطبيق التجربة نفسها في ميادين أخرى؟ أم سيظل هذا المجتمع يعترف بقيمة التخطيط في ميدان وينكرها في سائر الميادين؟
هذا السؤال له - في نظري - أهمية بالغة، ولكي يتصور القارئ ما أعنيه، أود أن أعقد مقارنة بين الطريقة التي تم بها الوصول إلى القمر، وطريقة البحث عن علاج لمرض السرطان في الولايات المتحدة؛ فمن المعروف أن مشكلة مكافحة السرطان - الذي يعد أشد الأمراض فتكا بالإنسان، ولا سيما في البلاد الصناعية المتقدمة - تحتل في تفكير كل أمريكي - وربما كل إنسان في العالم - أهمية لا تقل عن أهمية الوصول إلى القمر، ومن المؤكد أن فرحة العالم - وضمنه الشعب الأمريكي - بالوصول إلى علاج حاسم للسرطان ستزيد أضعافا مضاعفة عن فرحته بنزول الإنسان على القمر، ومع ذلك فكيف تجرى الأبحاث في أمريكا للتغلب على هذا المرض القاتل؟ إن أساس هذه الأبحاث وغيرها من الأبحاث الخاصة بالأمراض الأخرى هو التبرعات التي تقدمها المؤسسات الخيرية والأفراد، وتشرف على حملات التبرع هذه شركات للإعلان والعلاقات العامة، تتقاضى بالطبع مبالغ باهظة، وبقدر براعة الشركة المشرفة على الحملة تتحدد الأموال التي تخصص للبحث العلمي في أي مرض بعينه، وكثيرا ما يحدث أن ينال مرض ضئيل الانتشار أموالا هائلة، بينما لا ينال مرض أخطر منه وأوسع انتشارا بكثير ما هو جدير به من التبرعات، لا لشيء إلا لأن الشركة التي تشرف على الحملة الإعلانية للمرض الأول أبرع من الأخرى، أو لأن ممثلا مشهورا تطوع بإقامة برامج تليفزيونية لصالح هذا المرض (وهو تطوع يكتسب بفضله الممثل - في الوقت ذاته - صورة نبيلة في أعين الجماهير، تعود عليه آخر الأمر على شكل مزيد من الإقبال على أفلامه)، والمهم في الأمر أن عوامل عرضية كثيرة تتدخل في تحديد مقدار الأموال التي تخصص للبحث العلمي في الأمراض، وصحيح أن مرضا كالسرطان لديه موارد ثابتة من مؤسسات مضمونة، ولكن هذه الموارد لا تقاس على الإطلاق - سواء من حيث انتظامها - بقدر ضئيل من الموارد المخططة لبرنامج الفضاء.
ومن الأمور التي تدعو - لأول وهلة - إلى الدهشة في برنامج الفضاء الذي توج بالوصول إلى القمر أن التخطيط العلمي في هذا البرنامج لم يكن يعترف بأية مشكلات متعلقة بقدرة العقل البشري أو عدم قدرته على الاختراع؛ ففي الوقت الذي وضع فيه البرنامج، وحدد فيه وقت معين للنزول على القمر، كانت هناك آلاف المشكلات لم تحل بعد، والمفروض - من وجهة النظر التقليدية المألوفة - أن التنبؤ الدقيق بمراحل الكشف في المستقبل يستحيل ما دامت هناك مشكلات لم يتيسر حلها، وما دام وصول العبقرية البشرية إلى حلول ناجحة لمشكلاتها أمرا لا يمكن تحديده بزمان ثابت، أو التنبؤ به مقدما، ومع ذلك فإن البرنامج لم يقم أي وزن لهذه العقبة، بل وضع تخطيطا معينا، ونفذ كل مرحلة في هذا التخطيط في موعدها المحدد.
والفكرة الجديدة في هذا هي أن المجتمع إذا استطاع أن يعبئ الموارد اللازمة - مهما عظمت - والعدد الكافي من العلماء والفنيين - مهما كبر - فعندئذ لن تقف عقبة في وجه البرنامج الذي يخططه على أساس مدروس بدقة، وبعبارة أخرى فإن الفهم التقليدي للكشف العلمي والتكنولوجي الذي يعتمد على انتظار هبوط الوحي بالحل السعيد على ذهن العالم أو المخترع، قد طرح جانبا في هذا البرنامج، وأصبحت الأمور تسير على أساس مبدأ جديد هو: لا تبخل بالمال ولا بالرجال، وسيتم كشف كل ما هو مجهول في الموعد المطلوب، ويمكن القول - بناء على ذلك - إن نجاح رحلة القمر في موعدها، والوصول إلى حلول لألوف المشكلات التي كانت مجهولة في الوقت المحدد، ربما كان إيذانا ببداية عصر جديد، لا في كشف الفضاء الكوني وحده، بل في منهج البحث العلمي ذاته.
هذا المبدأ لو طبق على السرطان أو على غيره من الآفات التي تفتك بالبشر، لكان كفيلا بحل المشكلة، والأمر الذي يكاد يكون مؤكدا هو أنه لو خصصت لهذا النوع من المشكلات الإنسانية نفس الجهود ونفس الأموال، وكرست لها موارد وإمكانات مجتمع صناعي متقدم كالمجتمع الأمريكي؛ لأصبح السرطان وغيره من الأمراض الفتاكة مجرد ذكريات أليمة لا ترد إلا في القصص وكتب التاريخ.
إنني لست الآن في معرض اللوم أو النقد، ولست أود أن أردد مع الكثيرين من أصحاب النزعات الإنسانية: ألم يكن هذا أجدر بالاهتمام من ذاك؟ وهل انتهت مشكلات الإنسان على الأرض لكي نكرس كل قوانا للانتقال إلى القمر؟ هذه في رأيي أسئلة ليس لها الآن جدوى، وذلك لسببين: أولهما أن نجاح التخطيط العلمي في ميدان معين هو في ذاته أمر يدعو إلى التفاؤل؛ لأنه يجعلنا نتطلع إلى اليوم الذي يتحقق فيه تخطيط مماثل في سائر الميادين. والسبب الثاني هو أن كثيرا من أروع الكشوف العلمية والثورات الحضارية التي غيرت مجرى الحياة البشرية، قد ظهرت في البداية نتيجة لدوافع ليست كلها إنسانية خالصة، وإلى هذا العامل الثاني أنتقل الآن.
شيء من الخيال
إن وصول الإنسان إلى القمر - مهما كانت دوافعه الأيديولوجية أو العسكرية - هو في رأيي أمر يدعو إلى التفاؤل لأكثر من سبب، ولست أود أن أتحدث عن نتائجه المباشرة التي يعرفها الجميع، كما أنني لا أود أن أطيل الكلام عن نتائجه غير المباشرة، التي تتلخص في أن البلايين التي أنفقت لم تصرف كلها من أجل سفن «أبولو» وحدها، بل إن هناك كشوفا جانبية عديدة تمت أثناء الإعداد لهذا البرنامج الضخم، لا بد أن تنعكس آثارها على حياة الإنسان اليومية في هذه الأرض خلال السنوات القليلة المقبلة، وإنما الذي أود أن أتحدث عنه - بشيء من الخيال - هو ما يمكن تسميته بالنتائج البعيدة لهذا الحدث العظيم.
في رأيي أنه ليس من المصادفات أن يتمكن الإنسان من استبدال القلب البشري، ومن الهبوط إلى سطح القمر في فترة متقاربة، إنه في كلتا الحالتين لا يرضى بوضع طبيعي فرض عليه منذ آلاف السنين، ويحاول أن يصنع لنفسه - بيديه - وضعا آخر، ومن المسلم به أن مسار المدنية كلها - منذ بدايتها حتى الآن - يتلخص في عدم رضاء الإنسان بالأوضاع التي يجد نفسه فيها، ومحاولته أن يتحكم بنفسه في حياته وفي بيئته، ولكن ما يتم في هذه الأيام شيء أعمق من ذلك بكثير، إن الإنسان يحاول أن يتحكم في تركيبه الداخلي «الطبيعي» من جهة، ويحاول من جهة أخرى أن يتلمس لنفسه سبيلا للحياة في وسط مخالف لذلك الوسط «الطبيعي» الذي كان يعتقد أنه لا يصلح إلا للعيش فيه، هذا الاتجاه إلى تحدي كل ما درجنا على أن نعده «طبيعيا» - سواء في ذلك تركيب عقولنا وقدراتنا الذهنية والبدنية وتكويننا البيولوجي وطريقة تكاثرنا ... إلخ - هو الذي سيسير فيه التطور في المستقبل.
وبالمثل فليس من قبيل المصادفات - في اعتقادي - أن يتمكن الإنسان من الوصول إلى القمر قبل وقت غير طويل من تلك اللحظة الحرجة التي يتوقع علماء السكان أن يصل إليها العالم، حين يصل عدد سكانه إلى حد لا تعود عنده موارد الغذاء كافية، بل لا يعود فيه مجال كاف لتحرك البشر في يسر على سطح الأرض، وها هي ذي بوادر الحل قد ظهرت.
Página desconocida