Opiniones críticas sobre problemas de pensamiento y cultura
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
Géneros
ونظرا إلى أن الحجج التي يستند إليها كل من هذين الطرفين قوية مقنعة، فقد كان من الطبيعي أن يحتدم الخلاف بينهما، ويبدو كأنه خلاف يستحيل التوفيق بين أطرافه؛ ذلك لأن أنصار التمسك بالتراث يستندون في دعوتهم إلى أساس متين، هو ضرورة المحافظة على وحدة الأمة عن طريق التعلق بماضيها والاعتزاز به، وهو هدف لا يستطيع أحد أن ينكر أهميته، حتى من كان له رأي مخالف في الوسائل المؤدية إليه، ومن جهة أخرى فإن أنصار مسايرة الحضارة الغربية الحديثة يرتكزون بدورهم على حجة لا مفر من الاعتراف بقوتها، هي عظمة حضارة الغرب في القرون الأخيرة وتفوقها الساحق في جميع المجالات، من علمية وفكرية وفنية واجتماعية، وهم يؤكدون أن من العبث اتخاذ موقف العناد في هذا الصدد؛ إذ إن الحضارة المتقدمة هي التي تسود دائما، ومن المحال أن تستطيع أمة أن توصد أبوابها في وجه التفوق الحضاري الذي يأتيها من مصدر خارجي؛ لأن هذا التفوق سيفرض نفسه سواء شاءت هذه الأمة أم أبت، وكل ما ستجنيه من العناد هو استمرارها في التخلف واستمرار الآخرين في السبق. •••
ومن المؤكد أن أنصار كل من هذين الطرفين يعانون - عن وعي أو دون وعي - نوعا من أزمة الضمير نتيجة لتشبثهم بموقفهم ذي الاتجاه الواحد؛ ذلك لأن من يدعو إلى المحافظة على التراث الحضاري القومي يعلم - على الرغم من قوة حجته - أن الحضارة الغربية لا تزال هي التي تقود العالم، ويدرك أن تجاهل هذه الحضارة والاكتفاء بإحياء التراث كفيل بأن يزيد الهوة بيننا وبينهم اتساعا، وهو يلمس حوله في كل يوم انتصارات جديدة في ميادين العلم، وتجارب شيقة غير مألوفة في الأدب والفن، فلا بد أن يؤدي به ذلك آخر الأمر إلى الإحساس بضعف موقفه، وبأن من الضروري إقامة نوع من الاتصال بين بلاده وبين أصحاب الحضارة المتقدمة، حتى يشعر المثقفون بأنهم يسايرون موكب الزمان ولا يتخلفون عن ركبه، ومن جهة أخرى فإن دعاة الاقتداء بالحضارة الغربية لا بد أن يشعروا - عاجلا أو آجلا - بأنهم قوم مقتلعون من جذورهم، وبأن روابطهم بماضيهم منعدمة، صحيح أنهم يشايعون حضارة تتميز بقوة مادية وروحية طاغية، ولكنهم يحسون بأنفسهم دخلاء على هذه الحضارة غرباء فيها، ويلتمسون لأنفسهم مكانا فيها فلا يجدونه، وينتهي بهم الأمر إلى إدراك قصور دعوتهم، والشعور بأنهم - بمعنى معين - قوم لا ينتمون إلى الماضي الأصيل ولا إلى الحاضر الدخيل. وبالاختصار فإن أزمة الضمير هذه تواجه أنصار التراث القومي وأنصار الحضارة الغربية معا، وذلك حين يتشبث كل منهم بموقفه ويأبى الاعتراف بسلامة موقف الطرف الآخر.
هذه الأزمة - كما قلت - تواجه المثقفين في جميع أرجاء العالم غير الغربي، وضمنه بطبيعة الحال العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط بوجه عام، ومع ذلك ففي اعتقادي أن لهذه المنطقة الأخيرة على وجه التحديد وضعا خاصا ينبغي أن يخفف إلى حد بعيد من وقع هذه الأزمة على ضمائر المثقفين فيها، بل ينبغي أن يؤدي آخر الأمر إلى إزالة الخلاف بين وجهتي النظر المتعارضتين؛ فقد كان الاتصال وثيقا إلى أبعد حد بين حضارات الشرق الأوسط - ومنها الحضارة العربية - وبين الحضارة الغربية على مر العصور، وإذا كان إدراك هذه الرابطة القوية بين الشرق الأوسط وبين جذور الحضارة الغربية حقيقة لا يصعب إثباتها، فإن الكثيرين يعجزون عن استخلاص النتيجة الضرورية التي تترتب على هذه الحقيقة، وهي أن من الواجب ألا يجد المثقفون في هذه المنطقة من العالم - على وجه التخصيص - حرجا في مسايرتهم للحضارة الغربية؛ لأن هذه الحضارة ذاتها لم تتحرج في الماضي من استخلاص دعاماتها الأساسية من حضارات الشرق الأوسط، وبعبارة أخرى فإن العلاقة بين منطقة الشرق الأوسط بالذات وبين الغرب أعقد من أن تكون مجرد ازدواج حضاري، وإنما هي علاقة تداخل وتشابك وثيق، لا ينبغي معه أن يقوم بين المثقفين مثل هذا الخلاف الحاد حول الرجوع إلى التراث أو الاقتداء بالغرب.
وأستطيع أن ألخص النمط الذي جرى عليه الاتصال بين الشرق الأوسط بين الغرب - من الوجهة الحضارية - بأنه أخذ وعطاء متناوبان ومتكرران، أي إن الشرق الأوسط بدأ بإعطاء الغرب مقومات أساسية لحضارته، ثم أخذ منه عناصر دفعت بثقافته إلى الأمام، ثم عاد فأعطاه عناصر أخرى، وهكذا على التوالي، وعندما يكون الاتصال بين حضارتين على هذا النمط؛ فمن الصعب أن نتحدث في هذه الحالة عن حضارة غربية خالصة وحضارة شرقية خالصة؛ لأن كلتا الحضارتين تضم في تكوينها الداخلي عناصر أساسية من الحضارة الأخرى. (1)
كان أول اتصال سجله التاريخ بين حضارة الشرق الأوسط وبين الغرب يمثل مرحلة عطاء كبرى من الشرق إلى الغرب، وهذا أمر طبيعي؛ لأن الشرق الأوسط - كما هو معروف - كان هو المهد الأول للحضارة العالمية الحالية، وقد كان لحركة العطاء هذه مظهر علمي وفلسفي في مطلع العصور القديمة؛ ذلك لأن فلسفة اليونانيين حين أخذت بوادرها في الظهور - في القرن السادس قبل الميلاد - كانت في واقع الأمر نقطة نهاية تطور فكري وعلمي في الشرق بقدر ما كانت نقطة بداية تطور عقلي في الغرب، وفي كل يوم يزداد رجحان كفة الرأي القائل بأن الفلسفة اليونانية لم تبدأ تلقائية - كما تصور الكثيرون في القرن الماضي - وإنما كان ظهورها على أرض اليونان نتيجة لمؤثرات قوية مستمدة أساسا من الحضارات القديمة في الشرق الأوسط.
ومن المؤكد أن الكلام عن «المعجزة اليونانية» ليس إلا اعترافا بالعجز عن تعليل قيام هذه الظاهرة الفذة في تاريخ الفكر البشري، وهي النمو السريع لمجموعة من المذاهب الفلسفية التي كان لها تأثيرها الدائم في الحياة العقلية للإنسان؛ فالتفكير العلمي يأبى الاعتراف بمثل هذه الطفرات المفاجئة، ويكشف لنا عن أدلة متزايدة على وجود تطور متدرج من الحكمة الشرقية إلى التفلسف اليوناني ، ويكفي لإثبات ذلك أن نقول إن أولى المدارس الفلسفية اليونانية كانت في مدن تنتمي جغرافيا إلى الشرق الأوسط، وإن تكن من الوجهة الحضارية مدنا يونانية، فضلا عن أن زيارات كبار الفلاسفة اليونانيين الأوائل لبلاد الشرق الأوسط وتأثرهم بعلمها هي حقائق ثابتة تاريخيا.
ولقد كانت شخصية أفلاطون - وهي أضخم الشخصيات في الفلسفة اليونانية - تجمع في ذاتها خلاصة هذه المؤثرات الشرقية؛ ذلك لأنه قام برحلات متعددة في الشرق، وخاصة مصر، واقتبس من حكمة الشرق عناصر كثيرة، وفضلا عن ذلك فقد ظهرت المؤثرات الشرقية في فلسفته بوضوح كامل؛ فالديانات والنحل الشرقية القديمة قد تركت آثارها واضحة في فلسفة أفلاطون، ولم تكن العقائد الأورفية والفيثاغورية التي كان لها أقوى الأثر في تفكيره إلا وسيلة لنقل التيارات الدينية في الشرق إلى اليونان، وفي وسع المرء أن يقول - بعد تحليل دقيق لاتجاه تفكير أفلاطون - إنه كان فيلسوفا نصف شرقي ونصف يوناني، وإنه هو ذاته كان أكبر دليل على اتصال حضارات الشرق الأوسط القديمة بالحضارة الغربية ممثلة في اليونان، فإذا أدركنا أن التفكير الغربي - منذ أيام اليونان القديمة حتى اليوم - يتضمن عنصرا أفلاطونيا متصلا يظهر أحيانا بصورة صريحة ويظهر في كثير من الأحيان بصورة ضمنية، وإذا أدركنا أن ظل أفلاطون ما زال ممتدا في طريقة التفلسف الغربية حتى عصرنا الحاضر، وأن حضارة الغرب بأسرها مبنية على أسس رئيسية من أهمها الأساس الأفلاطوني؛ إذا أدركنا هذا كله تبين لنا مدى تشابك الصلة بين الحضارات القديمة في الشرق الأوسط وبين الحضارة الغربية في تطوراتها الأولى، واتضح لنا أن عطاء الشرق للغرب - في هذه المرحلة الأولى من تاريخه الثقافي - لم يكن ثانوي الأهمية على الإطلاق كما دأب البعض على تصويره.
وفي أواخر العصور القديمة اتخذت حركة التأثير الشرقي في الغرب شكلا آخر هو الشكل الديني؛ ذلك لأن المسيحية - كما هو معلوم - ديانة شرقية خالصة، شقت طريقها إلى الغرب في الإمبراطورية الرومانية بصعوبة بالغة في بداية الأمر، حتى استتب لها الأمر في النهاية، وأصبحت هي العقيدة الرسمية للعالم الغربي بأسره، وبعبارة أخرى فإن الحياة الروحية في الحضارة الغربية ترتكز منذ أوائل العصر الوسيط على عقيدة تنتمي إلى صميم الشرق الأوسط، وترتبط ارتباطا أساسيا بالإقليم الذي نشأت فيه، ومن المعروف أن هناك خطا متصلا يربط بين عقائد الشرق الأوسط الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام، وأن هذا الخط يبدو أوضح ما يكون في نظر من يتأمل هذه العقائد من منظور عالمي شامل، ويقارنها بعقائد الشرق الأقصى مثلا، ومعنى ذلك أن الأساس الديني لشعوب الشرق الأوسط وللشعوب الغربية متقارب إلى أقصى حد، ولا جدال في أن هذه العقيدة الشرقية الأصل - أعني المسيحية - لها في حضارة الغرب أهمية أساسية، صحيح أن من الكتاب من يرون أن كل ما في الغرب من خصب فكري وعمق علمي قد ظهر على الرغم من المسيحية لا بسببها، ولكن هؤلاء الأخيرين أنفسهم يعترفون ضمنا بأن للمسيحية دورها الكبير في تشكيل حضارة الغرب، وإن يكن هذا الدور قد اتخذ طابعا سلبيا. وعلى أية حال فسواء نظرنا إلى هذا الدور على أنه سلبي أم إيجابي، فلا جدال في أن المسيحية - من حيث هي عنصر أساسي بنيت عليه الحضارة طوال الألفي عام الأخيرة - دليل حي على أن الرابطة بين حضارات الشرق الأوسط والحضارة الغربية رابطة تداخل وثيق، لا مجرد اتصال سطحي خارجي. (2)
أما المرحلة الثانية في علاقة هاتين الحضارتين فمن الطبيعي أن تكون مرحلة أخذ، أعني أن الغرب هو الذي قدم إلى الشرق في هذه المرحلة عناصر أساسية في غذائه الروحي؛ فقد ظهرت في الغرب - كما قلنا من قبل - مذاهب فلسفية شامخة، ونظريات علمية هامة، تمكن بها اليونانيون من أن ينقلوا الإنسان نهائيا من عهد الأسطورة والخرافة إلى عهد التفكير المنطقي المنظم، وكان من الطبيعي أن تمتد آثار هذه الحركة الفكرية الهائلة إلى الشعوب المجاورة، وبالفعل استجابت الشعوب العربية للمؤثرات اليونانية حالما سنحت لها الفرصة، وكانت حركة الترجمة الهائلة التي نقلت بها المؤلفات الفلسفية اليونانية إلى السريانية والعربية دليلا آخر على مدى التقارب الحضاري بين هاتين المنطقتين، والواقع أن هذه الحركة كانت - بالنسبة إلى هذا العصر - تمثل ظاهرة فريدة ليس لها في العالم نظير. ولو سألنا أنفسنا: أي شعوب الأرض تمكنت من استيعاب تراث اليونانيين والإفادة منه بعمق ووعي في هذه الفترة البعيدة من العصور الوسطى؛ لكان الجواب: شعوب الشرق الأوسط وحدها؛ فهذه الشعوب - ولا سيما العرب - هي وحدها التي تجاوبت مع الثورة الفكرية الضخمة التي بدأها اليونانيون وأدمجت الفلسفات اليونانية في تراثها الحضاري، حتى أثمر هذا كله فلسفة إسلامية لا تستطيع أن تضع فيها الحد لفاصل بين ما هو إسلامي أو عربي بحت وما هو يوناني. (3)
وأعقبت مرحلة الأخذ هذه مباشرة مرحلة عطاء؛ ذلك لأن الفلسفة الإسلامية والعلم العربي - حين بلغا دور النضج - قد امتد تأثيرهما تدريجيا حتى وصل إلى الغرب، فإذا بالغرب يتعرف على فلسفته القديمة مرة أخرى، وبعد مضي أكثر من ألف عام على اختفاء آخر آثارها من خلال العرب.
Página desconocida