Opiniones críticas sobre problemas de pensamiento y cultura
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
Géneros
يعتقد الكثيرون أن السمة الغالبة على الفكر في القرن العشرين هي أنه يعاني أزمة، ويرون أن أبرز صفات العقل في هذا القرن هي تلك المحنة التي جعلته يشك في أكثر مبادئه رسوخا وأشد بديهياته وضوحا، على أن هذا الاعتقاد تواجهه اعتراضات شديدة يرى أصحابها أنه ليس من الممكن - أو ليس من الواجب - الكلام عن أزمة العقل في القرن العشرين.
أما أن الكلام عن هذه الأزمة غير ممكن؛ فذلك لأن العقل لم ينتصر في أي عهد، فيما يرى أصحاب هذه الاعتراضات، مثلما انتصر في هذا القرن؛ فالعلم قد أحرز في فترة وجيزة مكاسب تزيد عما أحرزه طوال تاريخه السابق، والفكر الفلسفي قد ازدهر وتنوع وازداد خصبا على الدوام، وربما كان الأهم من ذلك أن حياة الإنسان ذاتها قد أصبحت تنظم على أساس يستحيل تصوره بدون العقل، سواء كنا نعني حياة الإنسان الاجتماعية أو الاقتصادية أو الثقافية أو حتى حياته اليومية، فهل يحق لأحد - بعد ذلك - أن يتحدث عن أزمة للعقل؟
وأما أن الكلام عن هذه الأزمة غير واجب؛ فذلك لأن هذا الكلام موجه إلى مجتمع يحتاج إلى من يحثه في كل لحظة على الثقة بالعقل والاعتماد عليه في فكره وفي فعله، وحتى لو كانت أزمة العقل - من الوجهة الموضوعية - حقيقة واقعة في المجتمعات الغربية، فمن الواجب أن يكون ما نعرضه على مجتمعنا الشرقي حافزا له على السير في طريق العقل الذي هو أحوج ما يكون إليه، لا أن يكون مشجعا للعناصر الضيقة الأفق فيه على الدعوة إلى الابتعاد عنه والاستعاضة عنه ببدائل أخرى طالما اقترحت علينا، وطالما جربناها ولم نفز منها إلا بالتخلف.
ولسنا نزعم أن هذا الاعتراض لا يقوم على أساس، ولكن من الصحيح بالرغم من ذلك أن موقف الفكر العالمي من العقل قد طرأ عليه - منذ مطلع القرن العشرين - تغير أساسي يستحق أن يوصف بأنه أزمة، وذلك إذا ما قورن بموقف الثقة من العقل الذي كان سائدا في القرون السابقة، ومن جهة أخرى فإن الإشارة الصريحة إلى أزمة العقل في مجتمع كمجتمعنا ليست على الإطلاق دعوة إلى الهروب من العقل أو تشجيع الاتجاهات المعادية له ، وإنما هي جهد يبذل من أجل التنبيه إلى الدور الحيوي الذي يمكن أن تلعبه في حياتنا ملكة كدنا أن ننساها، وإلى الثمن الباهظ الذي كلفنا إياه هذا النسيان.
على أنني أود - منذ البداية - أن أبين بوضوح قاطع أن أزمة العقل في مجتمعنا تعني شيئا مختلفا كل الاختلاف عنها في المجتمعات الغربية، ولا جدال في أن المقارنة بين مظاهر هذه الأزمة في نوعي المجتمع هذين يمكن أن تلقي ضوءا ساطعا على المشكلة بأكملها، بل يمكن أن يكون فيها رد كاف على الاعتراض السابق بشقيه معا؛ إذ إن هذه المقارنة ستكشف - من جهة - عن الملامح الإيجابية إلى جانب الملامح السلبية فيما يسمى بأزمة العقل في الفكر العالمي، وستثبت - من جهة أخرى - أن الأزمة التي نعانيها من نوع مختلف كل الاختلاف، وأن ما يصدق على المجتمعات الغربية في هذا الصدد لا يصدق على مجتمعاتنا على الإطلاق، وعلى هذا النحو نتحاشى خطر تشكيك شعوبنا في الالتجاء والاحتكام إلى العقل الذي هو أحوج ما تكون إليه في المرحلة الراهنة من تاريخها. •••
إن من الضروري لمن يتصدى لموضوع له مثل هذا الخطر، أن يبدأ بحثه وهو على وعي تام بما يستخدمه من ألفاظ وعبارات، وأفضل سبيل لتحقيق هذا الوعي هو أن يحاول تحديد المصطلحات الرئيسية التي يستخدمها بقدر من الدقة يسمح له بالمضي في تناول الموضوع وهو آمن من التخبط أو التناقض غير الواعي، الذي يمكن أن يثيره الاستخدام الفضفاض للألفاظ.
ولعل أول لفظ ينبغي أن نعمل على إيضاحه هو لفظ «الأزمة»؛ فالأزمة - قبل كل شيء - انقطاع وانفصال عن حالة سوية أو مألوفة أو مستمرة، ومن شأن هذا الانقطاع أن يجلب اضطرابا أو ألما؛ لأن المألوف بطبيعته مريح، ولأن السوي بطبيعته صحي، وبهذا المعنى نتحدث عن المرض بوصفه أزمة، غير أننا إذا انتقلنا من المجال الجسمي إلى المجال المعنوي، وجدنا أن الأزمة هي التي تصبح أقرب إلى معنى الصحة؛ فالخروج عن المألوف - في هذا المجال - يظل يجلب الاضطراب والقلق، ولكنه لا يعد بأي معنى من المعاني تعبيرا عن المرض، بل إن أزمات العقل هي في معظم الأحيان دليل حيويته وفاعليته ونشاطه، ومن السهل تعليل هذا الاختلاف في معنى الأزمة بين المجالين؛ ذلك لأن الجسم بطبيعته يخضع لقوانين ثابتة، ومظهر الصحة فيه هو احتفاظه بقدرته على أداء وظائفه المحددة التي لا تتغير إلا في أضيق الحدود، أما العقل فإن صحته في تغيره وانتقاله على الدوام إلى مواقع جديدة، وأي تصور للعقل من خلال فكرة الثبات، أو فكرة الوظائف المحددة التي لا تتغير، هو إلى المرض أقرب، على أن من الواجب أن نتنبه إلى أن الأزمة في المجال العقلي تمثل خطوة أولى تتسم بطابع سلبي نحو تحقيق صحة العقل؛ فهي تعني الوعي بقصور القديم وضرورة تجاوزه، وهي بذلك تشكل الشرط الذي لا غناء عنه من أجل تحقيق هذا التجاوز، ولكن من الممكن أن تظل الأزمة في مرحلتها السلبية دون أن تهتدي إلى وسيلة تعين العقل على تجاوز ذاته، أو تؤدي إلى خطوة أخرى تبدو في مظهرها إيجابية، وإن كانت تمثل بالفعل ارتدادا لا تقدما، وفي هاتين الحالتين يمكن أن تكون أزمة العقل في عصر أو مجتمع معين مظهرا من مظاهر مرض هذا العصر أو المجتمع.
أما اللفظ الثاني الذي ينبغي أن نقوم بتحديد أدق لمعناه، فهو لفظ «العقل»، وهنا يتعين علينا أن ننبه إلى أن تعريفات هذا اللفظ بالذات يمكن أن تستغرق مجلدات بأكملها، بل إن من الفلاسفة من نظروا إلى تطور البشرية كلها - في جميع مظاهر حضارتها من فكر وفن وعلم ودين وتشريع - على أنه تطور للعقل، وعلى ذلك فإن مجرد الكلام عن تحديد لمعنى العقل في مقال كهذا، يبدو أمرا بعيدا كل البعد عن الروح العلمية ذاتها، ومع ذلك فسوف نحاول أن نقوم بتحديد، لا لمفهوم العقل ذاته، بل للمجال الذي يتناوله هذا المقال من مجالات العقل الكثيرة.
ولعل أفضل سبيل لفهم المقصود بالعقل - في الحدود التي تخدم أغراض بحثنا الحالي - هو أن نفهم العقل من خلال ما يقابله أو ما هو مضاد له؛ ذلك لأن كل أزمة يمر بها العقل كانت تؤدي إلى تغليب مفهوم آخر مضاد وتمجيده وإعلاء شأنه على حساب العقل، وعلى ذلك فإن قدرا كبيرا من الغموض الذي يحيط بطريقة فهمنا للعقل يمكن أن يتبدد لو عرفنا ما هي القوى أو الملكات المضادة التي يهيب بها الإنسان كلما مر العقل بمرحلة من مراحل الأزمة. (أ)
لعلنا جميعا نعرف - بصورة أو بأخرى - ذلك التقابل المشهور بين العقل والعاطفة أو الانفعال، ونعبر عن فهمنا لهذا التقابل حين نصف شخصا بأنه يحكم على الأمور بعقله وآخر بأنه يصدر أحكاما عاطفية، هذا التقابل يعبر في حقيقة الأمر عن تكامل؛ إذ إن العقل والعاطفة ليسا طرفين يستبعد كل منهما الآخر، بل هما قوتان تجتمعان معا في كل إنسان، وإن كان طغيان إحداهما على الأخرى في أفراد معينين هو الذي يبعث فينا الاعتقاد بأن كل قوة منهما مضادة للأخرى، والحالة السوية - بطبيعة الحال - هي تلك التي تلتزم فيها كل منهما مجالها الخاص، أو تتضافر مع الأخرى في إصدار حكم متكامل في الحالات التي يتعين فيها الرجوع إلى العقل وعدم تجاهل صوت العاطفة في الآن نفسه.
Página desconocida