وأبت الأقدار إلا أن تساهم مصر بأخرة سائر الأقطار العربية في حظها من الفاتحين، فجاء سليم الأول العثماني المدعو بالجبار «ياوز» من طريق صحراء التيه يضرب على أيدي المماليك فيها، وكانت نفوس المصريين قد سئمت أحكامهم أواخر أيامهم ونمى إلى المصريين من أخبار الدولة العثمانية ما يغري بها، فعلقوا على انضمام مصر إلى الأتراك آمالا طوالا، بيد أن الاحتكاك بالترك العثمانيين أظهر أن طبيعة المغول واحدة؛ لأنهم والترك من جنس واحد وهؤلاء لا يفضلونهم إلا لأنهم دانوا بالإسلام، بيد أنهم إن تحاموا تخريب البلاد التي يحتلونها على الغالب لا يتحرجون من إدخال الوهن على مقوماتها؛ فقد عمل السلطان سليم في هذا القطر أعمالا نابية عن حد الإنصاف، ومن أهمها أنه أخذ إلى القسطنطينية الممتازين من رجالها، والنابغين من أرباب الصنائع فيها، فبطلت فيها خمسون صنعة، هذا إلى ما حمله معه من ذهبها وجواهرها وعادياتها وكتبها وأعلاقها. واتفق قبيل فتحه أن كان البرتقاليون وفقوا إلى الطواف حول إفريقية؛ ففتحوا طريق رأس الرجاء الصالح، وحولوا تجارة الشرق عن مصر، وكانت سوقها الكبرى دهرا طويلا، وبحر القلزم أهم منفذ لها، وكان من هذا الاختلاط والتمازج مع أهل الأقطار الأخرى فائدة لمصر، فلما ضعفت تجارتها افتقرت كمعظم هذا الشرق القريب، ومتى دب الفقر في أمة تفتر على الأغلب أعمال العقل في بنيها. وكان من عوامل التقهقر أيضا انتشار الأوبئة كل مدة لا تبقي من الناس ولا تذر، ولئن قلت زلازل مصر، فما أكثر ما كانت طواعينها الجارفة!
كانت الحكومات التي سبقت العثمانيين مهما كان لونها تفكر في خير مصر؛ لأنها تأكل منه وتستمتع به، فتعطف على رجال الأدب وحملة الشريعة وتنشط الصناعات والتجارة والزراعة، ومنذ فتح الفاتح مدينة القسطنطينية حاول أن ينشئ له مدنية إسلامية تضاهي على الأقل مدنية مصر في عهد المماليك، فأخفق لأن استعداد أمته للصناعات العلمية والعملية كان ضعيفا، وأمته حربية صرفة، وربما عد الأتراك أعمال اليد والفكر مما لا يتناسب مع عظمة الأمة الحاكمة؛ فتركوا العناصر الإسلامية وشأنها تنتج وهم يتمتعون، وما كان هم الدولة في مصر غير جمع المال من رعاياها وإغناء طبقة خاصة من رجالها على نحو ما كان من رجال رومية على عهد دولة الرومان؛ فتركت القطر غرض الرماة من الولاة، وكثيرا ما كانت تنصبهم أشهرا قليلة لئلا يخرجوا بطول الزمن عن طاعتها، ومن كان منزله منزل قلعة كيف يتسع له الوقت ليفكر في إصلاح مختل وإيجاد مفقود، هذا إن كان على استعداد لعمل الخير للناس، وظل بقايا المماليك على كثرة من قتل منهم في الفتح العثماني حكام مصر بالفعل، ولا تكاد تقع في أهل هذه الدولة الأعجمية على شيء اسمه ثقافة أو أدب أو عمران، واضمحل في عهدها كثير من مشخصات الأمم، وأصبحت المدارس اصطبلات ودورا وبطل التدريس فيها، واستصفيت الوقوف التي كان أهل الإحسان من الملوك والأمراء والأغنياء حبسوها عليها، وانحط الأزهر في أيامهم إلى التي ليس بعدها، ورفع منه معظم ما يفتح الذهن من الفنون؛ فجمدت وتعقدت طريقة التعليم فيه؛ فصارت قواعد العلوم ألغازا وأحاجي حملت الكتب منها أحمالا، وضاع الجوهر النافع في غمار الحواشي والشروح والتعاليق والاختلافات، وشيبت العلوم الدينية بما لم يكن فيها، فضلت الأفهام لزهد العلماء في كتب الأقدمين السهلة الواضحة، وتعلقهم بكتب المتأخرين وما فيها من خبط وخلط أحيانا تضيع في حل رموزها الأعمار جزافا. وسقط الشعر إلى الدرك الأسفل، وأمسى النثر أبرد من عضرس، وآض الطب والهندسة وسائر الفنون اسما بلا مسمى.
نعم، ضعفت الآداب حتى ما تكاد تعد مصر بعد القرن الثامن من الشعراء من يجدر بالناس أن يتناقلوا كلامهم، وفسدت الكتابة بالسجع السخيف، وفي الكتب نموذجات من كل عصر لا ترضيك منها السلطانيات ولا الإخوانيات؛ أي ما صدر عن الملوك والأمراء وما صدر عن الأفراد من الأدباء. وعلى تلك النسبة انحطت الخطابة وكان لها في عصور الارتقاء مواسم جنية الثمرات، تنفع في رفع مستوى العقول في الأخلاق والسياسة ومعظم المظاهر الاجتماعية، فأصبحت في هذا العهد عاملا من عوامل الزهد والتوكل وتسويد الدنيا في وجوه من يسمعونها، وتعليمهم الرضا بالدون من العيش، فأماتت الهمم، ونزعت الشمم، ولقنت الناس منازع لو سار عليها المسلمون في قرونهم الأولى لما أنشئوا مدنية جميلة، ولا أسسوا ملكا ضخما، بل كانوا بلا مراء أحط من زنوج أفريقيا.
وتخدرت الأعصاب فوهنت المدنية، وهل المدنية غير ابنة الأعصاب القوية؟ وذلك بما انتشر في أرجاء القطر من أهواء جديدة علمت الناس الكسل وأبعدتهم عن حياة العمل؛ فراجت الخرافات والترهات، واعتقد من اعتقد بالكرامات، وكثر الاستمداد من أهل القبور والنذر لها والاجتماع حولها، بما لم يعهد له مثيل في البضعة القرون الأولى للإسلام؛ كأن المتأخرين عرفوا من روح الدين ما لم يعرفه جماعات الصحابة والتابعين وتابعوهم! وبطل حكم العلوم المادية، وما عادت الآداب تنفع في إنارة الأفهام وتحسين حال المجتمع، وخلت ممن يستحسنها أو يستهجنها، وممن يقرها أو ينقدها، وكان الشعر في الدهر الغابر يقيم القبيلة ويقعدها، والخطبة الواحدة تعقد الصلح أو تشهر الحرب، وغدا الناس لا يتفاهمون في مصالحهم الجزئية مع عمالهم إلا بواسطة التراجمة، والقضاء تركي، والإدارة تركية، والروح تركي، ومئات الألوف من أهل مصر لا نقض لهم ولا إبرام في تراتيب بلادهم وموارد حياتهم.
يقول مؤرخو الترك إن السلطان سليما فاتح مصر وبلاد العرب كان ينوي أن يجلي غير المسلمين عن بلاده بحيث تصبح إسلامية صرفة، فمنعه من ذلك شيخ الإسلام زنبللي علي أفندي، وقال ليس لك أن تزحزحهم عن أرضهم ولا حق لك في غير الجزية منهم، وإنه كان من أماني هذا السلطان أن يجعل اللغة العربية لغة الدولة الرسمية، ولكن الأجل لم يساعده على إنفاذ أمنيته لما شغل به مدة حكمه من الحروب والغارات، ومهما أحسن الظن بما كان من نيته، فالعبرة بإخراج أفكاره من حيز القول إلى ميدان العمل، ولو كان بدأ على الأقل بأن يكتب أوامره إلى البلاد العربية بلغتها، لقلنا إنه يمهد السبيل لما يرى فيه سلامة الدولة والأمة، وإلا فالتفكيرات كثيرة، والمناهج لا حد لها، وقد يبيت آحاد الناس أفكارا جيدة لا تعد في معرض العمل إلا من عالم الخيال، وبعض أفكار العامة أيضا إذا طبقت كانت شيئا مذكورا.
وما زالت حال القطر المصري إلى تقهقر خلال القرون الثلاثة التي حكمت الدولة العثمانية فيه مباشرة حتى قيض له رجل أعجمي صحت عزيمته على تأسيس مملكة عربية، عنينا محمد علي الكبير، فسار في ملكه بسيرة من ملكوا في الإسلام من أجناس الترك والشركس والكرد والبربر والفرس والديلم؛ أي إنه لم يتخذ غير العربية لغة، وترسم خطى من سبقوه إلى حكم مصر من غير العثمانيين، وعني عناية خاصة بنشر الثقافة الغربية ينقلها عن فرنسا وغيرها فأحيا رمما كادت تفنى، وأدخل روحا إلى جسم علق يبلى «والعلم مذ كان محتاج إلى العلم»؛ فالتهم المصريون العلوم المادية التي أتاهم بها المصلح الجديد، وما قاوم رجال الدين التيار الذي انساب إليهم فأغضوا عما لم يستحسنوه كثيرا في باطنهم، خلافا لما كان لمن انتظموا في مثل سلكهم في فروق عاصمة الخلافة؛ فإنهم قاوموا الطباعة، وأفتى بعضهم بتحريم طبع القرآن، وقاوموا العلوم المادية وحظروا تعلمها، وقاوموا اللباس الغربي والطربوش، كما كانوا من قبل حرموا القهوة والدخان، فقتل في هذه السبيل أولا وآخرا ألوف من الخلق، والعربي على ما يظهر أكثر الشعوب الإسلامية تسامحا وحرية، وإن كان العرب ما زالوا منذ عصر صاحب الرسالة دعاة الدين وأمناءه، وتسامحهم مع من يخالفهم موضع العجب.
دخل الإصلاح ديار مصر يتناول أكثر الفروع والمظاهر؛ فشغل المدنيون ببث ثقافتهم والحكومة من ورائهم تحميهم وتنصرهم، ولم ير الدينيون بعد قليل من التلكؤ إلا أن يسايروا الزمن ورضوا أن يدخلوا في أنظمتهم وتراتيبهم شيئا من الجديد المفيد، ونبذوا أو كادوا ما وضع من الكتب في عصور الانحطاط الفكري، وأنشئوا يطبقون مفاصل الإصلاح على طرائقهم ببطء وتأن، وفتحوا السبيل إلى أن يتذوق طلاب العلم الديني لماظة من العلوم التي دعوها بالعصرية، وكان الأولى أن تسمى القديمة، كالرياضيات والطبيعيات والفلك والتاريخ وتقويم البلدان؛ فخرج من الأزهر وسائر المعاهد الدينية في القطر علماء تعلموا في الجملة على غير الطريقة التي كانوا يمارسونها قبل ثلاثة أجيال، وكانت تضعف العقل، وتثلم الحواس.
وكان الفضل الأعظم في إيجاد هذه المجموعة الجديدة من الثقافة وإحياء الآداب العربية، لمدارس الحكومة على اختلاف درجاتها حتى يصل الطالب إلى الجامعة، وأخرجت دار العلوم تلاميذ كان منهم أقدر العلماء والأدباء، ويحمد أيضا قصد المدارس الخاصة التي تؤهل طلابها للحياة الحرة، لا جرم أن وزارة المعارف منذ تأسيسها لم تأل جهدا في تحقيق رغبتها في نشر العلم؛ ولذلك كانت تساير الزمن في نشوئها وارتقائها، ومنذ انتظم أمر البعوث إلى مدارس الغرب، ترسلها الحكومة أو الأفراد، دخلت ثقافة مصر في طور جديد، وأصبح فريق الدينيين وفريق الدنياويين، لا ينظر كل منهما إلى صاحبه النظر الأول، وربما أضمر الواحد للثاني حرمة وحدثته نفسه لو شاركه في كل ما وعى ودرس، وقام في مصر أرقى رجال العهد القديم الذين تخرجوا بالتعاليم الدينية، وأرقى طبقة من رجال العلم الحديث ثقفوا أحدث الأساليب الغربية، واستساغ كلاهما طريقته، وقام بقسطه من تربية أبناء مصر ، وتساندا وتعاونا إلى أقصى حد ممكن، وتوشك ألا تبقى ناحية من نواحي العلوم والفنون لم يعالجها المصريون ويبرزوا فيها بقدر ما سمحت قرائحهم وساعدهم انتباههم، وأصبح الإخصاء، وهو العلة الأولى في ارتقاء العلم في الغرب، مما يحرص على الأخذ به المتعلمون، وكان من يطلق عليه اسم العالم في القرون الغابرة نتفة يدعي معرفة كل شيء ولا يكاد يتقن مسألة من المسائل.
ومن نظر اليوم في المدارس على اختلاف درجاتها، وعارضها بما كان من نوعها منذ جيلين من الناس، وأمعن النظر فيما تخرج اليوم من الطلاب المجهزين بأجمل جهاز عقلي، وما كان يصدر عن المؤلفين والكتاب والشعراء من الآثار وما يخرجون للناس منها لعهدنا، وما كانت عليه الصحافة المصرية زمن الخديوي إسماعيل وعهد ابنه جلالة الملك فؤاد الأول، وكيف كادت صحافة مصر في هذه الأعوام القليلة تضاهي صحافة الأمم التي بدأت بالنهضة منذ أربعة قرون؛ من رأى هذا يسجل فخورا بأن قرنا واحدا، تخللته فترات وهجعات، كفى هذا القطر بأن يصطنع له ثقافة فيها كل الخير لحياة مصر في مادياتها ومعنوياتها.
الجوامع والبيع، والمدارس والمحاكم والأندية والصحافة، ودور التمثيل والغناء، غيرت لهجات القوم، حتى قربت اللغة العامية من الفصحى قربا غريبا، وليت أديسون اخترع الحاكي في القرن الماضي، فحفظت لنا في أسطواناته لهجة الناس منذ مائة سنة لنقارنها بلهجتهم اليوم، ونستمع كيف كانت أحاديثهم في المجالس والمدارس ومواعظهم في الجوامع والكنائس، وخطبهم في الأندية وقضاؤهم في المحاكم، وعسى أن لا ينقضي جيل أو بعض جيل حتى تصبح لغة التخاطب كلغة التكاتب، والكمال في ذلك مضمون كلما تسلسل الترقي في أبناء مصر واستوفوا نصيبهم من المعارف، ودأبوا على التحصيل والإتقان حبا بالعلم للعلم لا رغبة في نيل الشهادات والألقاب واعتلاء المناصب والمراتب فقط؛ وعندها يجلون عن أنفسهم ويقنعون من كانوا إلى أمس ينكرون، بعوامل جنسية أو دينية أو سياسية، فضل المصري في تقدمه أشواطا في طريق الحضارة العالمية.
Página desconocida