إن كان باباكم بذا راضيا
فرب غش قد أتى من نصيح
فقل لهم إن أضمروا عودة
لأخذ ثأر أو لقصد صحيح
دار ابن لقمان على حالها
والقيد باق والطواشي فصيح
من رجال العرب الذين كان لهم الأثر المحمود في الأخذ من الحضارة الغربية، الأمير فخر الدين المعني الثاني أمير لبنان الذي لم تنبغ الشام مثله منذ قتل مسلم بن قريش آخر ملوك العرب في الشام سنة 478ه، وكان بعيد النظر واسع الحيلة يطمح إلى إقامة ملك له؛ فامتد سلطانه أوائل القرن الحادي عشر من الهجرة إلى أنحاء فلسطين، وملك الساحل الشامي حتى أنطاكية، واستولى على عدة حصون وقلاع، وخافته الدولة العثمانية فأرسلت عليه حملتين كسر الأولى منهما، ثم أرسلت عليه الثانية فهرب إلى إيطاليا، وعهد بالإمارة إلى ابنه، وكان منه مدة إمارته أن هيأ السبيل للإفرنج بغشيان الديار الشامية، والاستزادة من متاجرهم مع أهل الساحل، وتكثير سوادهم في المدن والمواني، وأذن لهم بإنشاء قنصليات، وأنشأ خانا كبيرا لتجارهم في صيدا، وعمر مدينة بيروت وأقام حديقة حيوانات فيها، وفي أيامه دخلت جماعات المرسلين والمبشرين إلى لبنان حرة طليقة.
أقام الأمير المعني في إيطاليا أزيد من خمس سنين تعرف خلالها إلى ملوك طسقانة من آل ميديسيس في فلورنسه، وحالف كوسموس الثاني كبير دوجات طسقانه، وكان استقبله في ليفورنا باحتفال عظيم، وعقد مع فرديناند الأول كبير دوجات طسقانه أيضا محالفة في سنة 1017ه/1608م، وكان استظهر بأسطول فرديناند الطسقاني لاتقاء الأسطول العثماني في ساحل الشام. وقد قلد الأمير اللبناني أمراء آل ميديسيس في مدينتهم ونقل منها إلى بلاده ما أمكنه نقله، وصف مؤرخه الصفدي عمران إيطاليا وعادات الطليان وتراتيب حكوماتهم معجبا بها، وكان الأمير معجبا بها أيضا، وعرف الأمير بأنه كان متدينا غير متعصب، أخذ معه إمامه وبنى في البلدة التي أقام فيها جامعا يصلي فيه وبنى مئذنة، وماتت له ابنة هناك فأبقاها حتى عاد إلى لبنان ودفنها في ربوعه، وعرض عليه ملك إسبانيا أن يدين بالنصرانية ويتولى مملكة عظيمة أعظم من مملكته فاعتذر بلطف.
وهذا الأمير هو أول أمير عربي انتبه لتفوق الحضارة الغربية الحديثة على الحضارة العربية الأخيرة، وكانت هذه انحطت وإيطاليا أخذت تنهض لتلقف المعارف وإحياء الفنون الجميلة من تصوير ونقش وبناء وشعر وفلسفة، والممالك المجاورة لها تهب إلى العلى، وتخلع ثياب الخمول الماضي، ولو وفق الأمير فخر الدين المعني لغير التاريخ العربي؛ لما كان عليه من الاستعداد العظيم لإدارة الملك والذكاء النادر في الأخذ من الأمم الأخرى ما ينقص بلاده من أسباب المدنية، فقتلته الدولة العثمانية بأخرة في الأستانة 1635م وقبره لا يزال فيها، كما قتلت معظم أولاده إلا واحدا، وقتلت أخاه وأولاده إلا واحدا منهم.
وبدأ تمازج الحضارتين العربية والغربية تمازجا فعليا بكل ما في التمازج من معنى منذ استولت فرنسا على الجزائر، ثم باحتلال إنجلترا مصر، ثم باستيلاء فرنسا على تونس واستيلاء إيطاليا على ليبيا واقتسام مراكش بين فرنسا وإسبانيا، فإن هذا الاستعمار عرف الشعوب بعضها إلى بعض، وأصبح السلطان للمدنية الراقية على شمالي إفريقية ومصر، وكانت من قبل تشكو سوء إدارتها، فانتظمت أحوالها بالنظم الجديدة على طرائق الغربيين في بلادهم، وكانت المنافسة بين الدول المستعمرة الحديثة على التجارة بالرقيق وعلى الأبازير والجواهر أولا، ثم أصبحت المنافسة بينهم على اليابسة والبحر وعلى الجو وعلى ما في بطن الأرض من المعادن.
Página desconocida