Aqwam Masalik
أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك
Géneros
وفي «سنن المهتدين» للعلامة الشيخ المواق المالكي ما نصه: «إن ما نهينا عنه من أعمال غيرنا هو ما كان على خلاف مقتضى شرعنا، أما ما فعلوه على وفق الندب أو الإيجاب أو الإباحة، فإنا لا نتركه لأجل تعاطيهم إياه؛ لأن الشرع لم ينه عن التشبه بمن يفعل ما أذن الله فيه.» وفي «حاشية الدر المختار» للعلامة الشيخ محمد بن عابدين الحنفي ما نصه: «إن صورة المشابهة فيما تعلق به صلاح العباد لا تضر.»
على أنا إذا تأملنا في حالة هؤلاء المنكرين لما يستحسن من أعمال الإفرنج نجدهم يمتنعون من مجاراتهم فيما ينفع من التنظيمات ونتائجها، ولا يمتنعون منها فيما يضرهم؛ وذلك أنا نراهم يتنافسون في الملابس وأثاث المساكن ونحوها من الضروريات، وكذا الأسلحة وسائر اللوازم الحربية، والحال أن جميع ذلك من أعمال الإفرنج . ولا يخفى ما يلحق الأمة بذلك من الشين والخلل في العمران وفي السياسة؛ أما الشين فبالاحتياج للغير في غالب الضروريات الدال على تأخر الأمة في المعارف، وأما خلل العمران فبعدم انتفاع صناع البلاد باصطناع نتائجها الذي هو أصل مهم من أصول المكاسب. ومصداق ذلك ما نشاهده من أن صاحب الغنم منا، ومستولد الحرير وزارع القطن مثلا يقتحم تعب ذلك سنة كاملة، ويبيع ما ينتجه عمله للإفرنجي بثمن يسير، ثم يشتريه منه بعد اصطناعه في مدة يسيرة بأضعاف ما باعه به. وبالجملة، فليس لنا الآن من نتائج أرضنا إلا قيمة موادها المجردة دون التطويرات العملية التي هي منشأ توفر الرغبات منا ومن غيرنا، ثم إذا نظرنا إلى مجموع ما يخرج من المملكة، وقايسناه بما يدخلها، فإن وجدناهما متقاربين خف الضرر، وأما إذا زادت قيمة الداخل على قيمة الخارج فحينئذ يتوقع الخراب لا محالة. وأما الخلل السياسي فإن احتياج المملكة لغيرها مانع لاستقلالها وموهن لقوتها، لا سيما إذا كان متعلق الاحتياج، الضروريات الحربية التي لو يتيسر شراؤها زمن الصلح لا يتيسر ذلك وقت الحرب ولو بأضعاف القيمة. ولا سبب لما ذكرناه إلا تقدم الإفرنج في المعارف الناتجة عن التنظيمات المؤسسة على العدل والحرية، فكيف يسوغ للعاقل حرمان نفسه مما هو مستحسن في ذاته، ويستسهل الامتناع عما به قوام نفعه بمجرد أوهام خيالية، واحتياط في غير محله؟!
ومما يحسن سوقه هنا قول بعض المؤلفين من الأوروباويين في السياسات الحربية: إن الممالك التي لا تنسج على منوال مجاوريها فيما يستحدثونه من الآلات الحربية والتراتيب العسكرية، يوشك أن تكون غنيمة لهم ولو بعد حين. وخص التراتيب الحربية لأنها موضوع كتابه، وإلا فالواجب مجاراة الجار في كل ما هو مظنة لتقدمه، سواء كان من الأمور العسكرية أو من غيرها. ومما يؤيد ما قررناه قوله
صلى الله عليه وسلم
لعاصم بن ثابت من حديث: «من قاتل فليقاتل كما يقاتل.» ويوضح معناه ما تضمنته وصية الصديق لخالد بن الوليد - رضي الله عنهما - حين بعثه لقتال المرتدين، فقال: «يا خالد، عليك بتقوى الله والرفق بمن معك ...» إلى أن قال: «والخوف عند أهل اليمامة، فإذا دخلت بلادهم فالحذر الحذر! ثم إذا لاقيت القوم فقاتلهم بالسلاح الذي يقاتلونك به، السهم للسهم والرمح للرمح والسيف للسيف.» قلت: ولو أدرك هذا الزمان لأبدل ذلك بمدفع الششخان، ومكحلة الإبرة والسفينة المدرعة، ونحوها من المخترعات التي تتوقف عليها المقاومة، ولا يحصل بدونها الاستعداد الواجب شرعا، الذي يستلزم معرفة قوة المستعد له، والسعي في تهيئة مثلها أو خير منها، ومعرفة الأسباب المحصلة له.
وبناء على ذلك يقال هنا: هل يمكننا اليوم الحصول على الاستعداد المشار إليه بدون تقدم في المعارف وأسباب العمران المشاهدة عند غيرنا؟ وهل يتيسر ذلك التقدم بدون إجراء تنظيمات سياسية، تناسب التنظيمات التي نشاهدها عند غيرنا في التأسس على دعامتي العدل والحرية اللذين هما أصلان في شريعتنا؟ ولا يخفى أنهما ملاك القوة والاستقامة في جميع الممالك؟
ولما كان الغرض من هذا الكتاب لا يتم إلا ببيان أحوال البلدان الأوروباوية؛ لزم أن نثني العنان إليه، مدرجين في أثنائه ما يناسب الأمة الإسلامية، فنقول: إن الحالة الراهنة في ممالك أوروبا لم تكن ثابتة لها من قديم الزمان؛ لأنها كانت بعد هجوم البرابرة الشماليين وسقوط الدولة الرومانية سنة أربعمائة وست وسبعين مسيحية على أفظع حال من التوحش والاعتداء والجور، آخذة في حركة السقوط التي هي أسرع من الصعود طبعا، ولم تزل في ربقة الرق لملوكها وكبراء الأمم الجائرة المسمين بالنوبليس إلى زمن ولاية الإمبراطور شارلمان ملك فرنسا ومعظم ممالك أوروبا سنة سبعمائة وثمان وستين، فبذل غاية جهده في إصلاح حال الناس بسعيه في تنمية المعارف وغيرها، ثم بعد وفاته رجعت أوروبا إلى غياهب جهالتها وظلم ولاتها كما يأتي تفصيله. ولا يتوهم أن أهلها وصلوا إلى ما وصلوا إليه بمزيد خصب أو اعتدال في أقاليمهم؛ إذ قد يوجد في أقسام الكرة ما هو مثلها أو أحسن، ولا أن ذلك من آثار ديانتهم؛ إذ الديانة النصرانية ولو كانت تحث على إجراء العدل والمساواة لدى الحكم، لكنها لا تتداخل في التصرفات السياسية؛ لأنها تأسست على التبتل والزهد في الدنيا، حتى إن عيسى عليه السلام كان ينهى أصحابه عن التعرض لملوك الدنيا فيما يتعلق بسياسة أحوالها، قائلا إنه ليس له ملك في هذه الدنيا؛ لأن سلطان شريعته على الأرواح دون الأشباح، والخلل الواقع في ممالك البابا كبير الديانة النصرانية لامتناعه من الاقتداء بالتراتيب السياسية المعتبرة في بقية الممالك الأوروباوية دليل واضح على ما ذكرناه، وإنما بلغوا تلك الغايات والتقدم في العلوم والصناعات بالتنظيمات المؤسسة على العدل السياسي وتسهيل طرق الثروة واستخراج كنوز الأرض بعلم الزراعة والتجارة، وملاك ذلك كله الأمن والعدل اللذان صارا طبيعة في بلدانهم، وقد جرت عادة الله في بلاده أن العدل وحسن التدبير والتراتيب المحفوظة من أسباب نمو الأموال والأنفس والثمرات، وبضدها يقع النقص في جميع ما ذكر كما هو معلوم من شريعتنا والتواريخ الإسلامية وغيرها، فقد قال
صلى الله عليه وسلم : العدل عز الدين وبه صلاح السلطان وقوة الخاص والعام وبه أمن الرعية وخيرهم. ومن أمثال الفرس: الملك أساس والعدل حارس، فما لم يكن له أساس فمهدوم وما لم يكن له حارس فضائع. وفي نصائح الملوك: إن ولي الأمر يحتاج إلى ألف خصلة، وكلها مجموعة في خصلتين إذا عمل بهما كان عادلا، وهما: عمران البلاد وأمن العباد.
ومن تصفح الفصل الثالث من الكتاب الأول من «مقدمة ابن خلدون» رأى أدلة ناهضة على أن الظلم مؤذن بخراب العمران كيفما كان وبما جبلت عليه النفوس البشرية، كان إطلاق أيدي الملوك مجلبة للظلم على اختلاف أنواعه، كما هو واقع اليوم في بعض ممالك الإسلام، ووقع بممالك أوروبا في تلك القرون عند استبداد ملوكها بالتصرف المطلق في عبيد الله، من غير تقيد بقانون عقلي لمنافاته لشهواتهم، ولا شرعي لعدم وجوده في الديانة المسيحية المبنية على التبتل والزهد في الدنيا كما تقدم. وما أشرف بعض ممالكهم على الاضمحلال وسلب الاستقلال إلا بسوء تصرفهم الناشئ عن إطلاق أيديهم مع حسن سيرة مجاوريهم إذ ذاك من الأمة الإسلامية، الناتج عن تقيد ولاتهم بقوانين الشريعة المتعلقة بالأمور الدينية والدنيوية، التي من أصولها المحفوظة إخراج العبد عن داعية هواه، وحماية حقوق العباد سواء كانوا من أهل الإسلام أو من غيرهم، واعتبار المصالح المناسبة للوقت والحال، وتقديم درء المفاسد على جلب المصالح، وارتكاب أخف الضررين اللازم أحدهما ... إلى غير ذلك.
ومن أهم أصولها وجوب المشورة التي أمر الله بها رسوله المعصوم
Página desconocida