Aqwam Masalik
أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك
Géneros
الباب الثاني
في الكلام على مملكة فرنسا
(1) في تاريخها
اعلم أن ابتداء تاريخ فرنسا في الحقيقة إنما كان من سلطنة كلويس حفيدة ميروي، وهو الذي أسس ملك العائلة الميرونجيانية، وما يحكى عن سلطنة فرامون وكلوديون وميروي وشلدريك إنما هو مجرد أخبار بتسلطن أولئك الملوك مع عدم وجود ما يفيد القطع بصحة أخبارهم وحوادث أيامهم. وعند ولاية كلويس المذكور في سنة إحدى وثمانين وأربعمائة مسيحية كانت أمم الويزيغوت والبورغوند والألمان والرومان تتنازع في أرض الغول (ويقال لها الغاليا أيضا)، وبهذا الملك انتصر الفرنكس أي الإفرنج، وهم فرقة من سكان تلك الأرض فكسروا جيش الرومان في صواصون سنة ست وثمانين وأربعمائة، وطوعوا الألمان بعد حرب تولبياك في سنة ست وتسعين وأربعمائة، وقصروا جماعة الويزيغوت على ملك السبتيمانيا، وهو قسم كبير من جنوب فرنسا، وأخرجوا ما عداه من أيديهم، وذلك بعد الانتصار عليهم في حرب وليي سنة سبع وخمسمائة وكسروا شوكة البورغوند حتى انمحت رسوم ملكهم بالتمام في أيام أبناء الملك المذكور، وذلك في سنة أربع وثلاثين وخمسمائة.
هذا، وبعد وفاة الملك كلويس المذكور اقتسم أبناؤه الأراضي التي كان افتتحها، وذلك في سنة إحدى عشرة وخمسمائة، فمن هذا الاقتسام تكونت أربع ممالك متفرقة: فكانت مدينة باريس تختا للمملكة الأولى وماتس للثانية وصواصون للثالثة وأورليان للرابعة. ثم في سنة ثمان وخمسين وخمسمائة جمع كلوتير الأول سائر ممالك فرنسا تحت حكمه، لكنها انقسمت بعده ثانيا وذلك من سنة إحدى وستين وخمسمائة إلى سنة ثلاث عشرة وستمائة، وأعقب الانقسام حروبا أهلية أجلت عن اجتماع في مدة قليلة، ثم عن افتراق انقسمت به فرنسا إلى أربع ممالك وهي أوسترازيا ونوستريا وبورغونيا وأكويتانيا، فكانت أوسترازيا ونوستريا متميزتين من بين الممالك الأربع بالسطوة ونفوذ الكلمة، وكانتا متكافئتين مدة من الزمن. ثم في سنة سبع وثمانين وستمائة ارتفع شأن أوسترازيا التي كانت محافظة على عاداتها القديمة التي كانت عليها قبل فتوحاتها، وذلك بعدم مخالطتها لحضارة الرومانيين، وعلا أمرها على النوستريا وكانت إذ ذاك لا تلقب بلفظة المملكة لانقطاع العائلة الملكية منها وصيرورتها ربوبليك فاودال؛ أي جمهورية مقودة بالهرستال بلقب دوك، وهم أشرافهم. وهؤلاء الدوكات حكام أوسترازيا لم يزالوا حتى تسلطوا بوظيفة ماردوبالي (بمعنى ناظر القصر) على ملوك نوستريا، وذلك لما انقطعت العائلة الملكية من أوسترازيا كما أشرنا إليه وصارت المملكة جمهورية مرءوسة بأشرافها الذين كانوا مذعنين لأمراء نوستريا بمجرد تلقي اللقب منهم؛ إذ كانوا هم الأمراء المتأصلين في الملك من العائلة الميرونجيانية، ثم دخلت بورغونيا تحت طاعتهم والأكويتانيا التي هي القسم الرابع بعد أن استخلصها شارل مارتل من أيدي العرب سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة بانتصاره في حروب شديدة وقعت بينه وبين عساكر الأندلس في إمارة عبد الرحمن الداخل.
ثم بعد مدة وجيزة من إمارة أحد أولئك المار؛ أي نظار القصر، وهو ببان لبراف، انتقل التاج إليهم واستولى المذكور ملكا في سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة بعد أن عزل شلدريك الثالث آخر ملوك العائلة الميرونجيانية، ومن هذا كان ابتداء العائلة الثانية من ملوك فرنسا، وهي العائلة الكارلونجيانية، وهذا الملك تغلب أيضا على أكويتانيا وعلى سبتيمانيا، وهو أول من جمع فرنسا كلها عدا البرطانيا تحت رئاسة واحدة، وامتد سلطانه ونفوذ كلمته إلى إيطاليا، وألجأ اصطلف ملك لومبارديا إلى احترام البابا إستيفنو وملك الكنيسة عدة أراض.
وأما ابنه شارلمان المذكور في مقدمة هذا الكتاب فقد تغلب بعده على إسبانيا الشمالية وعلى إيطاليا وعلى الساكسونيا وعلى باواريا وعلى الأوار أهل بنونيا، وذلك من سنة ثمان وستين وسبعمائة إلى سنة أربع عشرة وثمانمائة، واستجمع الممالك المذكورة في مملكة كبيرة سماها السلطنة الغربية المتجددة، وأشار بالمتجددة إلى إحياء السلطنة الرومانية الغربية بعد اندراسها. غير أن هذه السلطنة لم تتجاوز سنة ثلاث وأربعين وثمانمائة حتى انقسمت إلى ثلاث ممالك مستقلة، وهي: فرنسا وإيطاليا وجرمانيا، وصار تاج السلطنة يتداوله بعض الذرية بإيطاليا مرة وأقاربهم من أمراء العائلة الكارلونجيانية أخرى، حتى انتقل إلى طائفة من الأعيان ليسوا من تلك العائلة، ثم انتهى الأمر إلى بقائه بيد الألمان. وكان ابتداء سقوط العائلة الكارلونجيانية من سنة ثلاث وأربعين وثمانمائة حين صارت عصبية أعيانها تتعاظم وتغتنم فرصة التسلط على السلطة الملكية، حتى إنه في سنة سبع وثمانين وثمانمائة كان واحد من أولئك الأعيان المقدمين للخطة من صاحب التاج يسمى أودون، وهو جد عائلة الكابيت افتك الملك من يد العائلة الكارلونجيانية الذين آل أمرهم في ذلك الوقت إلى وجود مجرد ألقاب السلطنة فيهم بدون قوة ولا مملكة، ثم رجعت العائلة إلى تخت السلطنة، ثم افتك منهم ورجع إليهم بعد ذلك، ثم آل أمرهم إلى فقد جميع ما كان بأيديهم وسقطوا بالكلية، وكان ذلك سنة سبع وثمانين وتسعمائة على يد هوغ كابيت، وهو أول العائلة الثالثة من ملوك فرنسا وهي العائلة الكابنيسيانية وجعل مركز السلطنة الدوكاتو الكبرى التي كانت في قبضته من فرنسا. وبحسن تدبير هذا الملك وسيايته تزايدت القوة الملكية في فرنسا وحسن حالها وأعانه على ذلك شدة حزمه وطول مدة ولايته والمجالس البلدية التي أجاد تأسيسها في الإيالات وما حدث في ذلك الوقت من الحروب بين المسلمين والصليبيين، وذلك من سنة سبع وثمانين وتسعمائة إلى سنة ثمان ومائة وألف. ومن هذه السنة إلى سنة ست وعشرين ومائتين وألف ازدادت السلطة الملكية نموا وقوة شوكة، وافتك من أيدي الإنكليز عمالة النورمانديا والأنجو والألمان والبواتو من سنة أربع ومائتين وألف إلى سنة خمس ومائتين وألف، وأشرفت أيالتا غيان وغسكونيا على عود التاج إليهما لولا مفارقة لويز لوجون زوجه ليونورة داكويتانيا في سنة اثنتين وخمسين ومائة وألف.
ثم إن لويز التاسع الملقب بصان لوي بمعنى الصالح، وهو الذي مات بتونس مهد مصالح المملكة وساسها أحسن سياسة من سنة ست وعشرين ومائتين وألف إلى سنة سبعين ومائتين وألف، فإنه وإن لم يزد في أرض المملكة زيادة معتبرة إلا أنه أعطى التاج ما يستحقه من السلطة والاعتبار، وأقام دعائم الملك على أمتن أساس. ثم في مدة فليب الثالث من سنة سبعين ومائتين وألف إلى سنة أربع وثمانين ومائتين وألف أضاف المذكور اللنغدوك إلى فرنسا وتداخل في جميع المنازعات التي كانت واقعة في ممالك إسبانيا النصرانية، وامتد نفوذ كلمته إلى مملكة نابلي من إيطاليا، ثم شرع فليب الرابع من سنة أربع وثمانين ومائتين وألف في استرجاع الأملاك التي كانت سلمت إلى لوتير ونجحت مدافعته في ذلك ضد سلطة البابا الدنيوية، وأقام بين البباصين والأعيان وسلطتهم حاجزا، وهو مجلس المشورة العمومية (بمعنى أنه عطل تصرفاتهم وأحالها إلى الشورى، فكانت أحزاب الناس تجتمع لعرض المطالب)، وهذا الملك هو أول من جمع دواوين المدن بفرنسا، ويقال لها مجالس البارلمان، ثم بعد وفاته مال أولاده إلى الأعيان وقووا سلطتهم بدون تبصر في عاقبة الأمر، وكان دأب أولئك الأعيان البحث عما يتيسر به تخلصهم من القيود المنافية لأغراضهم واغتنام الفرصة في ذلك حتى تمكنوا من السلطة ثانيا بإعانة أولئك الأبناء الذين كانوا يجهلون مصالح الملك، وكان ذلك من سنة أربع عشرة وثلاثمائة وألف إلى سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة وألف، ووقع مثل هذه الإعانة للأعيان من الفرع الثاني الملكي، وهو الملقب بالوالوي اقتداء بأولاد فليب الرابع، فبتلك السيرة المتهورة أشرفت فرنسا على الاضمحلال، فاغتنم ملوك الإنكلترة الفرصة وشرعوا في الحروب المسماة بحروب المائة سنة، وانضم إليهم الفلمنك والبروتون، وكان مبدأ تلك الحروب من سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة وألف إلى سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة وألف، وبعد أن غلبت فرنسا في مقاتلة كريسي وذلك في دولة فليب دووالوي سنة ست وأربعين وثلاثمائة وألف، وفي محاربة بواتيي، وكانت في دولة جان الثاني سنة ست وخمسين وثلاثمائة وألف شرعت في النهوض في دولة شارل الخامس من سنة أربع وستين وثلاثمائة وألف إلى سنة ثمانين وثلاثمائة وألف، لكنها رجعت بعد ذلك القهقرى في دولة شارل السادس حين كان صغيرا تحت قيد الحجز، ثم حين اختل عقله وذلك من سنة ثمانين وثلاثمائة وألف إلى سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة وألف حتى أشرفت على الانقراض ثانيا بسبب تجاذب أمراء العائلة المتكثرين عددا وثروة وتداخلهم في سياسة الممالك طمعا في التاج ورغبة في نفوذ الكلمة، مع ما آل إليه أمر العائلة الثانية من أمراء بورغونيا من القوة والسلطان في سنة إحدى وستين وثلاثمائة وألف حتى صارت مضاهية للعائلة الملكية.
ومما زاد الأمة الفرنساوية وهنا على وهنهم المصادمات التي جرت فيها الدماء بين شيعة البورغوند وشيعة أرمنياك. وفي سنة خمس عشرة وأربعمائة وألف تغلبت الأمة الإنكليزية في أزنكور وحازت غالب الإيالات البحرية من فرنسا. ثم في سنة تسع وعشرين وأربعمائة وألف بزغ طالع سعد فرنسا بظهور البنت جان دارك بنت أحد الفلاحين المولودة بقرية دومرمي التي زعمت أن الله أمرها باستخلاص فرنسا من أيدي الإنكليز، فتوجهت إلى الملك شارل السابع بمدينة بورج فانقاد إلى قولها، وكانت السبب في رفع حصار الإنكليز لمدينة أورليان بقودها لجيوش الملك المشار إليه بأزمة النصر، إلى أن أوصلتهم إلى مدينة رامس، وبعد ذلك أخذت أسيرة في محاصرة مدينة كومبيان فأحرقت بالنار بدعوى أنها ساحرة.
وفي سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة وألف طرد الإنكليز من أرض فرنسا بعد محاربات شديدة، وتغلب لويز الحادي عشر من سنة إحدى وستين وأربعمائة وألف إلى سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة وألف على عصبة الأعيان المتقدم ذكرهم، وأضاف إلى حكم التاج إحدى عشرة إيالة كبيرة كانت كل واحدة منها مستقلة بالتصرف، وإن كانت ولاية حكامها بيد الملك. وشرع شارل الثامن في حروب إيطاليا سنة أربع وتسعين وأربعمائة وألف ودام الحال إلى سنة ثمان وتسعين وأربعمائة وألف، ثم تمادى على ذلك لويز الثاني عشر الملقب بأبي العامة حتى أفنى فيها ماله ورجاله. ومما يحكى من محاسن هذا الملك أنه كان من الفرع الثاني من العائلة الكابيسيانية، وكان الملك لابن عم له من الفرع الأول منها، فلما مات الملك خلفه ابن له صغير السن تحت حجر أحد الأعيان، فرأى الملك المشار إليه عدم استقامة الحال واضطراب أمر المملكة بسبب صغر سن الوارث، فتحرك عليه لذلك وتحزب بجماعة لافتكاك الملك لنفسه حتى آل الأمر بعد حروب بينه وبين مقدم الصبي إلى القبض عليه وسجنه بسجن حصين، وكان يشدد مع ذلك عليه وينزله في مطمورة بالسجن لئلا يتمكن من الفرار، وبقي هكذا مسجونا حتى انقرض الفرع الأول ولحقته الدولة، ولما ولي الأمر طلب منه أحزابه أن ينتقم من ذلك المقدم الذي نكل به وعذبه، ولما ألحوا عليه في ذلك أجابهم بقوله: لا يليق بشرف سلطان فرنسا أن يتنازل لأخذ الثأر على ما وقع لدوك دواورليان. فليتأمل من هذا الجواب الحسن ومن همة هذا الرجل العالية المنبئة عن كمال المروة والمعرفة بمواقع السياسة، وكيف فرق بين المرتبتين قبل الولاية وبعدها في ذات نفسه، فمن علم منه مثل هذا رآه جديرا بأن يلقب بأبي العامة.
Página desconocida