Aqwam Masalik
أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك
Géneros
هذا، وقد كانت الأمة الإسلامية وقت احترامها للأصول الشرعية، المشار إلى بعضها سابقا، بالمكانة التامة من الثروة والشوكة المحروستين بسياج حسن تدبير أمرائها وعدلهم واستجلابهم رضا الله تعالى بتعمير أرضه، نقل صاحب «كشف الظنون» أن بعض العلماء قال: «لو علم عباد الله رضا الله في إحياء أرضه لم يبق على وجه الأرض موضع خراب.» ومن حكم أرسطو: العالم بستان سياجه الدولة، والدولة سلطان تحيا به السنة، والسنة سياسة يسوسها الملك، والملك نظام يعضده الجند، والجند أعوان يكلفهم المال، والمال رزق تجمعه الرعية، والرعية عبيد يكنفهم العدل، والعدل مألوف وبه قوام العالم. فقد تضمنت هذه الكلمات الحكيمة الإشارة بجعل العالم بستانا إلى تشبيه الرعية بشجر ثمرته المال وحارسه الجند، وأن استقامة الدولة بها حياة السنة السياسية التي هي مادة حياة بستان العالم. ومن آثار ثروة الأمة الناتجة عن احترام أصول العدل ما حكاه المقريزي في «الخطط»، قال: لما سار المأمون في قرى مصر، وكان يقيم بالقرية يوما وليلة، اجتاز بقرية يقال لها طاء النمل، ولم يقم بها فتوسلت إليه عجوز كبيرة بالقرية في الإقامة، فأسعفها. وأحضرت من لوازم نفقة الخليفة وجنوده ما عظم لديه أمره، وأهدت له حين عزم على الرحيل عشرة أكياس من سكة الذهب كلها ضرب عام واحد، فازداد تعجبه وقال: ربما يعجز بيت مالنا عن مثل هذا، ورد عليها مالها رفقا بها، فلم تقبل وقالت: هذا - مشيرة إلى الذهب - من هذه - أي طينة الأرض - ثم من عدلك يا أمير المؤمنين، وعندي من هذا شيء كثير. فقبله وأعظم جائزتها. انتهى بتصرف واختصار.
وحكي أيضا أن خراج مصر بلغ في زمن الخلفاء الراشدين أربعة عشر مليون دينار، وقدرها بسكة الوقت نحو سبعمائة مليون فرنك، وهذا المبلغ دخل إيالة واحدة مع الإنصاف في الجباية. وحكى ابن خلدون في «المقدمة» أن المحمول إلى بيت المال في أيام الرشيد العباسي بلغ إلى سبعة آلاف وخمسمائة قنطار ذهبا، وقدر ذلك تقريبا ألف وأربعمائة مليون فرنك، وهذا دون ما يؤخذ من العين، ويدل على القوة العسكرية الناتجة من عدل الشريعة واتحاد الأمة ما تيسر لهم من الفتوحات التي يشهد بها المؤرخون من الفريقين، ويصدقها العيان. ففي «قرة العيون» الذي ترجمه الشيخ أحمد الزرافي المصري من اللغة الفرنساوية، وعد من حسنات المطبعة المصرية، أن الإسلام فتح في ظرف ثمانين سنة من الأقاليم أكثر مما فتحه الرومان في ثمانية قرون. وبما نقلناه يعلم ما كان للأمة الإسلامية من نمو العمران وسعة الثروة، والقوة الحربية الناشئة عن العدل، واجتماع الكلمة وأخوة الممالك واتحادها في السياسة، واعتنائها بالعلوم والصناعات ونحوها من المآثر العرفانية التي ظهرت في الإسلام، ونسج الأوروباويون على منوالها، وشهد المنصفون منهم بفضل التقدم فيها للأمة الإسلامية.
ففي تاريخ دروي وزير المعارف العمومية بفرنسا الآن ما معناه: بينما أهل أوروبا تائهون في دجى الجهالة لا يرون الضوء إلا من سم الخياط؛ إذ سطع نور قوي من جانب الأمة الإسلامية من علوم أدب وفلسفة وصناعات وأعمال يد وغير ذلك، حيث كانت مدينة بغداد والبصرة وسمرقند ودمشق والقيروان ومصر وفاس وغرناطة وقرطبة مراكز عظيمة لدائرة المعارف، ومنها انتشرت في الأمم، واغتنم منها أهل أوروبا في القرون المتوسطة مكتشفات وصناعات وفنونا علمية يأتي بيانها، وفيه يقول: «كانت الآداب قبل انتشار العرب من جزيرتهم متأصلة فيهم موداة بلغتين: الحميرية في اليمن والقرشية في الحجاز، وبالأخيرة جاء القرآن (ولا يخفى عليك أن الذي يقابل الحميرية هو المضرية، وإن وقع الإجماع في القراءة على خصوص القرشية)؛ ولذلك اشتهرت واستمر خلوصها إلى وقتنا هذا باستمرار كتب العلم والديانة، وما دخلت العجمة في اللسان إلا بدخول الأمم في الإسلام وتطاول السنين. وللغة المذكورة من الاتساع وسعة المجال ما لا يخفى على مثافنها، لا سيما في الأشياء التي بها قوام المعيشة في البادية أو تتكرر رؤيتهم لها أو تكثر حاجتهم إليها، فقد يكون للشيء الواحد عدة أسماء باعتبار تعدد صفاته وأحواله، وبكثرة الترادف عندهم اتسعت لهم دوائر الآداب الشعرية؛ إذ يقال للعسل عندهم ثمانين اسما وللثعبان مائتين وللأسد خمسمائة، وللجمل ألفا وكذا السيف، وللداهية نحو أربعة آلاف اسم. ولا جرم أن استيعاب مثل هذه الأسماء يستدعي حافظة قوية، وللعرب من قوة الحافظة وحدة الفكر ما لا يسع أحدا إنكاره، فمن مشاهيرهم: حماد الراوية، الذي ذكر يوما للخليفة الوليد أنه ينشد له في الحال مائة قصيدة والقصيدة من عشرين إلى مائة بيت، فتعب المستمع قبل المنشد.» إلى أن قال: «ولم يكن للعرب في أول الأمر إلا تلك الآداب، ثم لما اتسعت لهم دوائر الفتوحات واختلطوا بالأمم الذين سبقوهم في الحضارة اتسع لهم نطاق المعارف، فأخذوا من اليونان تآليف أرسطو وشرحوها بإمعان نظر. لكن من سوء البخت لم يأخذوا الفلسفة من كتب اليونان الأصلية، وإنما تعلموها من الكتب المترجمة بلغة أهل الشام، فهم ترجموا المترجمة؛ فلذلك لما نقلها الفيلسوف العربي حفيد ابن رشد إلى أوروبا في القرون المتوسطة وجد بها من التحريف أكثر مما وقع فيها أولا. وأما العلوم الرياضية فقد صادف فيها العرب المرمى، والفضل في ذلك للعلماء الذين جلبهم الخليفة المأمون من القسطنطينية.»
وفي أوائل القرن التاسع المسيحي أمر الخليفة المذكور عالمين من فلكية بغداد أن يقيسا مسافة درجة واحدة من خط الطول بصحراء سنجار ويزناها؛ ليثبت بذلك تكوير الأرض بالمشاهدة، وقد تبين ذلك باختلاف ارتفاع القطب الشمالي عن طرفي الخط المقيس.
وقد شرح العرب كتاب إقليدس، وهذبوا زيج بطليموس وحرروا حساب تعريج منطقة البروج، كما حرروا الفرق بين أوقات الاعتدال والفرق بين السنين الشمسية والزمنية، فوجدوا بين السنة الشمسية والسنة الزمنية عدة دقائق، واخترعوا للتحريرات آلات جديدة ... إلى غير ذلك، مما يدل على ما للعرب من قابلية العلوم الرياضية. ومنهم حازت مدينة سمرقند قبل أوروبا بكثير محل رصد عجيب. وأما ما ينسب للعرب من اختراع الجبر والمقابلة والأرقام الحسابية المسماة عندنا بالأرقام العربية فلم يثبت، بل إنما تعلموا ذلك مع فلسفة أرسطو بالتلقي من غيرهم، وهي من العلوم التي وجدوها بإسكندرية. ويمكن أنهم نقلوا إلينا على ذلك الوجه البوصلة؛ أي بيت الإبرة، والبارود الذي تعلموه من أهل الصين. كما يعترف لهم أهل أوروبا بمزية اختراع الكاغد من القماش؛ وبذلك كثرت الكتب ودنت أسعارها وسهل الطبع وتوفرت نتائجه بعد وجوده. وقد اشتهر العرب أيضا بمعرفة الطب الذي كانوا تلقوه من كتب اليونان، ولابن رشد تعليقات عديدة على كتب جالينوس شاهدة بما ذكر، ومن فلاسفتهم عدة أشخاص صاروا في وقت واحد حكماء وأطباء مشاهير، مثل أبي علي بن سيناء المتوفى سنة ست وعشرين وأربعمائة، هجرية وابن رشد المذكور. وقد بلغوا من الشهرة إلى حيث صار أعداؤهم في ذلك الوقت يرغبون في معالجتهم إياهم، كما يحكى أن بعض ملوك قسطلية كان اعتراه مرض الاستسقاء فاشتهى أن تكون معالجته بقرطبة، وحصل من لطف الخليفة على الإذن في أن يذهب ويداويه المسلمون.
ومن مآثر حكماء العرب كيفية تقطير المياه واستعمال الراوند وأدوية كثيرة. ومن العلوم التي لهم الفضل فيها الجغرافيا، وسبب تقدمهم فيها أن اتساع فتوحاتهم ورغبتهم في الأسفار الخطيرة لافتراض الحج عليهم أنتجت لهم المعرفة بكثير من البلدان الشاسعة، التي لم يصل إليها أهل أوروبا أو نسوها بعدما كانت معروفة لهم، ومن مشاهيرهم في هذا الفن أبو الفداء والمسعودي والإدريسي، وهذا الأخير هو الذي استدعاه روجير ملك صقلية وألف عنده كتابه الغريب الذي سماه «نزهة المشتاق». وأما علم التاريخ فمن تآليفهم فيه تاريخا المسعودي وأبي الفداء المذكورين وتاريخ المقريزي، غير أنها تواريخ مختصة بأبناء جنسهم، وقل أن يوجد بها الكريتيك بمعنى أنهم لا يسبرون منقولاتهم بمسبار العقل، كما أشار إلى ذلك ابن خلدون، ولا يخرجون عن دائرة الوقائع المجردة، ولا سبب لذلك إلا ما حكاه سدليو في تاريخه الآتي ذكره من أن وجود التسلط من الملوك في بلدان المشرق هو الذي كان يمنع المؤرخين من شرح جميع الوقائع ببيان أسبابها؛ للخطر الذي يلحقهم في حكاية الحق. وأما صناعة الأرشتكتور؛ أي هندسة البناء في اصطناع الهيئات فلم يشتغل العرب منها إلا بما يرجع إلى إتقان الأبنية، حيث كانت شريعتهم تمنع التصوير، على أن البناء نفسه لم تظهر لهم فيه اختراعات غريبة، فالأصل عندهم في الأقواس المرفوعة على الأسطوانات أن تكون أكبر من نصف دائرة، وهذا الشكل أخذوه من أبنية البرزنتيين، وهم أمة من اليونان، اعتاض العرب عن الصور الدهنية والمجسدة التزيين بالنقش المسمى عندهم بنقش حديدة، وكان في الأصل رسوما لها مدلولات، ثم صار مجرد خطوط متقاطعة شبيهة بالحروف العربية التي يمكن أن يصور منها أشكال جيدة ظريفة، وكثيرا ما نتعجب من إتقان تلك الحروف حين نراها على الزرابي والأقمشة المشرقية. ومن مآثر العرب اصطناع الجوابي والفوارات والتزويق بالذهب والأحجار الثمينة كالمرمر التي كانوا يجلبونها من المشرق ومن مقاطع إسبانيا الجنوبية، ومن أشهر أبنيتهم الجامع العظيم الذي بناه عبد الرحمن الأول بقرطبة، وكان به ألف وثلاث وتسعون أسطوانة وأربعة آلاف وسبعمائة قنديل، ثم قصر الزهراء الذي لا يتأخر عن الجامع المذكور في العظم، وقد بناه عبد الرحمن الثالث على شاطئ الوادي الكبير، وبه ينبوع عظيم يفور منه شبه باقة من الزئبق، ثم ينعكس في قصعة من المرمر. ومن بديع أبنيتهم حمراء غرناطة التي هي في آن واحد قصر وحصن، وبها عدة أمور تصلح أن تكون مثالا للطافة البناء وحسنه، خصوصا وسطها المسمى ببطحاء الأسود.
وأما التجارة فقد كان للعرب حسن رغبة فيها في سائر الأوقات، ثم لما امتدت سلطنتهم من البيريني - وهي جبال بين فرنسا وإسبانيا - إلى جبال هملاي التي بأقصى شمال الهند صاروا أكبر تجار الأرض. وأما الفلاحة فلا يعلم لهم نظير فيها؛ إذ ليس لغيرهم ما لهم من الاقتدار على جلب المياه وتوزيعها بلطف في مزارعهم الواسعة تحت شمسهم المحرقة، فسيرتهم في ذلك السائر بها إلى الآن أهل بلنسية روضة إسبانيا صالحة أن نجعلها أسوة نقتدي بها في فلاحتنا الفرنساوية. وأما الصناعات فإن العرب تعلموا جميعها لما دخلوا بلدان الرومانيين العظيمة، حتى صاروا من أحذق أربابها، وكفاهم شهرة في ذلك سلاح طليطلة التي كانت تحت سلطانهم بإسبانيا، وحريريات غرناطة والجوخ الأزرق والأخضر بمدينة كونسة والسروج والحروج والجلود بقرطبة. وكان أهل أوروبا يشترون هذه المهمات بأعلى ثمن ويتنافسون فيها، مع شدة نفرتهم من أهلها المخالفين لديانتهم.
وبالجملة فقد بلغت إسبانيا من العمران إلى هذه الشهرة في القرون الأولى من مدة الخلفاء، حيث كانت الفتن عنها أسكن من المشرق، وقد تزايد نمو سكانها إلى أن صار بمدينة قرطبة وحدها نحو مائتي ألف دار وستمائة جامع وخمسين مارستانا وثمانين مكتبا عموميا وتسعمائة حمام ومليون نفس. فهاك برنامجا إجماليا للتمدن الذي نشره العرب من شاطئ تاج، وهو واد كبير بإسبانيا إلى وادي هندوس بالهند، تمدنا يكاد يخطف نوره الأبصار، ولكنه لسرعة نموه كان معرضا للعطب، قال: وتمدن أوروبا اليوم كان أبطأ في النمو، ولكنهم حصلوا بعد انقلابات وكسوفات على ما يمكن به طول البقاء المعتاد في كل بطيء النمو. وقال في بيان امتداد ملك العرب: قد امتد ملكهم في ظرف مائة سنة من ظهور الإسلام مثل ما يمتد عظيم الخلقة فاتحا ذراعيه لالتقاط شيء، فبلغ من أقصى الهند إلى جبال بيريني الكائنة بين فرنسا وإسبانيا، وقدر امتداد هذا الملك من سبع عشرة إلى ثمان عشرة مائة فرسخ، ولم يبلغ هذا المبلغ دولة من الدول الماضية، وقد استمرت الديانة واللسان وأحكام القرآن نافذة في غالب البلدان التي فتحوها، واغتنمت منهم أوروبا في القرون المتوسطة مكتشفات وصنائع وعلوما، وإن كان منها ما أخذوه من غيرهم، لكن لهم الفضل في تهذيب ذلك وتخليده بعدهم. ثم في النصف الثاني من القرن العاشر المسيحي توجه الراهب الفرنساوي جربير الذي جلس على الكرسي البابوي باسم سلفستر الثاني إلى مسلمي إسبانيا، وقرأ هناك علم الجبر والفلك وأجرى لأهل أوروبا النصرانية منهلا جديدا من معارف العرب، وجمع خزانة جليلة من الكتب، وصنع كرتي السماء والأرض. انتهى ما أمكن تلخيصه من كلام الوزير المشار إليه.
وفي «تاريخ العرب» لسدليو - مدرس علوم التاريخ بإحدى مدارس فرنسا وأحد أعضاء جمعية المعارف بها - ما معناه: إني منذ مدة طويلة تنيف على العشرين سنة مشتغل ببيان مزايا العرب على غيرهم من الأمم، فيما يتعلق بالعلوم والتقدم في التمدن مدة قرون متطاولة من أيام اليونان بالإسكندرية إلى أيام العصر الجديد، فلزمني أن أجمع ما تيسر لي من الأدلة على عظم هذه الأمة التي لم يعرف قدرها إلى الآن، وأعرضه على ما لغيري ممن تكلم عليها، فيتأسس تاريخا لها عموميا، وإن كان ذلك مما لا تفي به طاقة إنسان واحد. وقبل الشروع في ذلك على وجه الاختصار يلزمني أن أندب الناس إلى التأمل في أحوال هذا الجنس الذي كان كثير الفتوحات عديم الاستيلاء عليه في سائر مغازيه، ولم يزل مدة أربعة آلاف سنة على حال واحد في اكتساب الفضائل والمزايا التي تميز بها على غيره، والتراتيب والعادات الخاصة به. ومن حجج ذلك أن الوقت الذي كانت فيه الممالك القديمة في مبدأ تكوينها ذات حيرة كان هذا الجنس إذ ذاك قائما بنفسه قادرا على الإغارة على غيره، فقد كانت ملوك مصر وبابل من ذلك الجنس مدة تسعة عشر قرنا قبل التاريخ المسيحي، ثم بعد أن رجع إلى حدوده الأصلية دافع عن نفسه سلطة الفراعنة وملوك الشام، وامتنع من تسلط قيرس وإسكندر، ودام في استقلاله ضد الرومان الذين كانوا ملكوا الدنيا، وبعد ظهور النبي
صلى الله عليه وسلم
Página desconocida