تمهيد
شارع الذكريات
ظل ابتسامة
أقوى من الحب
ضباب على القرية
حيث انتهى الأبطال
المغفل الثالث
الأجير
حواء لا تقهر
رجل نبيل
Página desconocida
بقية من دموع
عيون على الكرمل
لحن قصير
الأستاذ بغبغان
سقطت على الصخور
تمهيد
شارع الذكريات
ظل ابتسامة
أقوى من الحب
ضباب على القرية
Página desconocida
حيث انتهى الأبطال
المغفل الثالث
الأجير
حواء لا تقهر
رجل نبيل
بقية من دموع
عيون على الكرمل
لحن قصير
الأستاذ بغبغان
سقطت على الصخور
Página desconocida
أقوى من الحب
أقوى من الحب
تأليف
صلاح الدين ذهني
تمهيد
قارئي العزيز ...
أسائل نفسي وأنا أكتب هذه السطور: هل من الخير أن يقول الإنسان كل الحق؟! ولمن يجب أن يقول هذا الحق، إذا كان من الخير أن يقوله؟
إنني أستطيع أن أملأ بضع الصفحات المحددة للمقدمة في حديث لا يغنيك ولا يضيرني عن تاريخ القصة، وعن مكانها في الأدب، وعن تطورها، وعن عشرات المواضيع التي لا تتصل من قريب ولا بعيد بما سوف تقرؤه بعد لحظات حين تنتهي من هذه السطور. فعلمك بتطور القصة ومكانها في الأدب لن ينفع شيئا في تهيئتك لقراءة قصة. إن كتابا في تاريخ الموسيقى قد يفيدك في الحديث عن لحن أو موسيقار، ولكنه لن يسيغ في أذنك نغما باردا ولو كان مؤلفه موضوع فصل كامل بين تاريخ المؤلفين.
إن الذي ينفعك في سماع اللحن السخيف والنغم البارد - إن كان هناك نفع أو أمل في النفع - هو التهيئة الصالحة لسماع هذا اللحن؛ كأن تدرك مثلا أنه يصور سخفا في الحياة، أو اضطرابا فيها، أو معنى باردا من معانيها ...
وهذه هي مهمة المقدمة التي أريد أن أكتبها لك.
Página desconocida
فهذه القصص التي بين يديك، والتي ستقرأها بعد حين إن كنت من الصابرين، تحتاج مني إلى تهيئة وإعداد، كما تحتاج منك إلى جلد وسماحة طبع.
إن فيها قصصا رضيت أنا عنها، وأخرى رضي عنها قراء، وثالثة رضي عنها أصحاب صحف ومجلات ... ولكن ليس فيها قصة واحدة رضي عنها الجميع.
قصة «أقوى من الحب» مثلا عانقني عليها أحد الأصدقاء وأطنب في إطرائها، ثم تبينت بعد حين أن كل ما أعجبه فيها، هو أن الزوج بطل القصة عاد إلى زوجته بعد فترة من شرود العاطفة، ولحضرة المعجب الفاضل شقيقة كان زوجها قد هجرها حينا عاشت فيه عبئا على أخيها ثم عاد منذ أيام؛ أي إن المسألة كلها ظروف شخصية تتصل بجيبه، لا بتفكيره الأدبي وذوقه الفني!
وقصة «المغفل الثالث»، وهي قصة شاب وقع في حبائل غانية أمهر من غيرها. هذه القصة أعجبت عددا من القراء لا بأس به، ولست بحاجة لأن أحدثك عن الأسباب؛ فستعرفها بعد قراءتها، وأغلب الظن أنها ستروقك أنت أيضا.
وقصة «شارع الذكريات» لم يشاركني في الرضا عنها إلا شاب مهذب مجروح! جرح قلبه ذات يوم والتأم الجرح، ثم بقي الأخدود تسير فيه ذكرياته، كما سارت ذكرياتي في الشارع القديم.
وهكذا لو شئت أن أحدثك لوجدت أن دافع الإعجاب دائما عامل شخصي، لا تدخل فيه عوامل الفن، ومطابقة القوانين، ومراعاة المناهج. هذه العوامل إنما تقرر رأي الناقد لا القارئ، وإن رأي القارئ أيضا - كما ترى - رأي ذاتي في أغلب الأحيان، فهل ينقص ذلك من قيمته؟
أغلب الظن أن لا؛ فالإنسانية مجموعة الناس ذوي الظروف الخاصة والأحاسيس. والإحساس الواحد يحس به كل فرد في فترات مختلفة؛ فيحس أحدنا الحزن، ويحس الآخر الفرح. ومشاعر الحياة واحدة لكل فرد، مختلفة في ترتيب مروره بها؛ فكلنا نحس فقد الأصدقاء، ولوعة الحب، ونعيم الوصال، وشقاء الغدر، ولهيب الغيرة، ووقر الندم. من هذه الأحاسيس ومن غيرها تتكون مقومات مشاعرنا، وإنما يسمو الكاتب إلى النطاق الإنساني في تعبيره حين يمس هذه المشاعر، وقد تجرد قلمه من نزعة الذاتية. إن حزن القروية على جرة اللبن التي تكسرت حزن، وحزن السياسي الداهية على فشل برنامج ضخم حزن، وإذا وصل الكاتب إلى أعماق النفس البشرية فأخرجت ريشته الحزن عاطفة إنسانية، فقد وصل - بقلمه - إلى نفس السياسي وبائعة اللبن على حد سواء، وإلى كل نفس بشرية أحست الحزن من أقصى جنوب الأرض إلى أقصى شمالها، وإنما يعيب الكاتب أن يكون مقررا لا مصورا.
وعيب القصة المصرية إلى الآن هو أنها قصة تقريرية؛ الحزن فيها حزن مصري محدود بالإقليم والظروف والمناخ، والفرح فيها فرح محلي، والعواطف فيها مدموغة بأسماء المدن والأقاليم. وهذا لون من الأدب يفيد الباحثين عن الجديد الطريف، فيسر القارئ الأمريكي مثلا أن يقرأ القصة المحلية المصرية، بالضبط كما يسره أن يرى الجمل، ويتفرج على أبي الهول، ويرى قوافل البدو.
وهذا اللون من الأدب تمر به كل حياة أدبية لكل قطر، لكنها لا تقف عنده؛ فهناك الأدب الأمريكي والأدب الإنجليزي والأدب الفرنسي ... ولكن هناك أدب آخر هو الأدب العالمي؛ أدب يساهم فيه كل شعب متمدين، من فروعه القصة والشعر والمسرحية والمقالة ... إنه الأدب الإنساني الذي أشير إليه، والذي أطمع أن نصل إلى مستواه.
ما شأن هذا كله ومقدمة الكتاب؟
Página desconocida
إن له شأنا أي شأن؛ فأنت القارئ في حاجة إلى بعض الإقناع لكي ترضى عن هذا الكتاب.
أولا: أريد أن أقرر لك أن هذه القصص ليست بداية فألتمس لها العذر وأطلب منك الترفق في الحكم عليها، وليست نهاية ما أصل إليه فأقول لك إنها آية في الفن، ولا أستطيع أن أقول ذلك لأنني كاتب قصة ولست بشاعر ... ولا أدري شيئا عن هذا التقليد الجائر الذي يبيح للشاعر أن يشيد بشعره ويمجد نفسه، ويفخر بسلطانه على المعاني وملكيته للدرر والجواهر ... ولو كان شعره حصى مرصوفا في طريق مهجور. لا أدري شيئا عن هذا التقليد، ولكنني أحترمه وأنزل إلى مرتبة القصاصين فأتقدم إلى القارئ في استحياء لا يوصف به الشعراء، أتقدم إليه لأقول هذه قصص في منتصف الطريق، ليست في ليونة الغصن الناشئ، ولا في صلابة الجذع المتمكن، لا أبرأ منها، ولا أفخر بها ... كل ما في الأمر أني أحتمل تبعتها، أحتملها في صبر لا يقل عن صبرك عند قراءتها، وحين ترضيك منها واحدة لن أزهو؛ فأنا أعرف السبب، إنه ليس سموي إلى النطاق العالمي، ولكنه انحصار ذهنك أنت في النطاق المحلي الضيق، وإذا أعجبتك قصتان فسأبتسم؛ لأني عرفت من أمر حياتك ناحيتين، وإذا زدت عن ذلك، فلن أشك لحظة واحدة أنك فارغ البال تبحث عما يشغلك ويملأ فراغك.
لقد سبقتك - أيها القارئ - فأبديت رأيي فيك قبل أن تبدي رأيك في، وتلك مزية سوف تجرح رأيك مهما كان. إياك أن ترمي قصة بالسخف، وإياك أن تخلع على قصة ثوب الإعجاب، وإياك أن تترك الكتاب كله قبل أن تتمه؛ إنك إذن تكون ظالما لنفسك قبل أن تظلمني، فما أدراك أنك سترى نفسك قبيل الصفحات الأخيرة إن لم تجدها على الغلاف أو ما بعد الغلاف!
هذه قصص لا بأس بها في مجموعها وتفصيلها، هذا رأيي أنا في قصصي، مع تحفظ واحد أسوقه إليك: لا بأس بها على أن تقرأها وأنت ذاكر ما سقته لك أول الأمر عن القصة المصرية. هذه قصص محلية، فيها إنسانية محلية، وأؤكد لك أني ما قصرت في أن أسمو إلى النطاق العالمي، بل سعيت إليه في بعض القصص، وأحسست أحيانا بمشاعر بعض من رسمتهم فيها، أحسسته ولم تكن مهمتي تعدو التصوير، حتى قد خيل إلي أني قد وصلت إلى أن أبث فيهم مشاعر إنسانية صادقة، أحسست بحزن بعضهم كما لو أنهم بشر لا غير، بشر من أي مكان، وفي أي مكان.
ومع ذلك فأنا - كما قلت لك - في منتصف الطريق، ولست أنت خيرا مني.
مايو 1948
صلاح ذهني
شارع الذكريات
إنه لا يزال يذكر ...
عشرون عاما مرت منذ وطأت قدماه أرض هذا الشارع لآخر مرة، حين ألقى عليه نظرة هائلة مودعا كل ما فيه، وقد صمم على أن لا يراه إلى الأبد، بل وقد صمم على أن ينسى أنه سكن فيه ذات يوم، بل عاش فيه صباه السعيد.
Página desconocida
عشرون عاما كاملة، مشت فيها الحياة مسافات طويلة، فأجهدت في جسده كل شيء، حتى شعرات رأسه البيضاء بدت وكأنها قطرات العرق قد تبلورت عند مفرقيه وفوق جبينه، وحتى أقدامه بدت وكأنما تعبت من السير، فغدت تخطو مثقلة بعبء السنين.
يا لله من غدرات الأعوام!
هذه الأقدام نفسها كم قطعت هذا الشارع في لمح البصر خلف الكرة! وكم كرت وفرت فيه فما أحست جهدا ولا ضنى!
أجل، هذه الأقدام نفسها كم كانت تحب أرض هذا الشارع، فلا تطيق لحظة واحدة تقضيها في المنزل حتى تهبط إلى الشارع الحبيب! تهبط غير عابئة ولا مصغية لقول أمه، وهي تشيعه بغضبها الباسم قائلة: انت رجلك بتاكلك على الشارع؟ مش تستريح شوية يا ابني؟
لم يكن إذ ذاك يفقه كلمة الحب؛ فلم يقل لها مرة إنه يحب هذا الشارع، وإن راحته الكبرى في أن يطلق ساقيه للريح على أرضه مع رفاقه.
هذه الأقدام نفسها هي التي تدب في سكون الليل بعد عشرين عاما في تثاقل وإعياء، كأنما تخطو على أشواك.
ومشى يخوض عباب الذكريات، وقد عادت إليه دفعة واحدة. عادت وقد امتشقت عصا سحرية جعلت تهوم بها يمينا وشمالا، فتمحو الدور والعمائر التي اكتساها الشارع خلال غيبته الطويلة؛ ليحل محلها الشارع القديم الذي عاش فيه، بدوره المتلاصقة ذات المشربيات المتقابلة كأنها طيور تتعانق على استحياء.
لقد تغير كل شيء، وها هو ذا يخطو في الشارع، لأول مرة في حياته، إن ذكرى يوم وعيه الأول تبدو غامضة، إنه لا يكاد يتخيل نفسه طفلا، لكنه يذكر ما كان حواليه جيدا، يذكر الخادمة النوبية التي كانت تحرسه حين يهبط إلى ميدان لعبه الفسيح إذ ذاك - وهو عتبة الدار - ويذكر رفاق ذلك اللهو من الأطفال، ويكاد يتبين من بينهم ذلك الوجه الصغير، وجه «سناء»؛ الوجه الذي ارتبط به بعد ذلك عشرة أعوام كاملة، من الطفولة اللاهية إلى عتبة الدار إلى المعهد المشترك الذي ضمهما طفلين ... إلى ذلك اليوم الذي صار فيه صبيا وأصبحت هي فتاة، وفرقت بينهما جدران ذلك المعهد نفسه، هي في قسم البنات، وهو في قسم البنين.
إنه ليذكر الخواطر الغريبة التي خالطت تفكيره الساذج إذ ذاك؛ كان يخطر له أحيانا أن يتسلق ذلك الحائط الذي يفصل بين القسمين في أوقات الفسح؛ ليجري «خلف سناء» أو تجري خلفه.
كم كان يمضه ويؤلمه أن يسمع تصايح الفتيات الصغيرات خلف الجدران! لقد كان ظلما بينا في نظره أن تلهو «سناء» مع غيره.
Página desconocida
وتكبر الأيام ويكبر معها.
وتكبر «سناء»، ويظل هو يذهب إلى المدرسة، وتمكث «سناء» في البيت تتهيأ لكي تكون ربة دار. كان أبوها لا يرى أن تتعلم البنت أكثر من القراءة والكتابة، فاحتجزها حين تمت دراستها الابتدائية. لكنه كان يراها كل يوم عند مآبه من مدرسته، كان يلقاها بعينيه عند الشرفة، كأنما تترقب عودته، وكان يلقاها بعد ذلك بحديثه كلما اجتمعت الأسرتان في المساء تتحدثان، كان يقص عليها كل ما حدث، وكانت وحدها التي تستمع بين خمس نفوس تجلس في الحجرة، وكان لها وحدها يقص، وكانت عيناها فقط هما اللتان ينظر إليهما، وكان في حياته هو و«سناء» كل شيء يعنيه.
ويأخذ عقله ذات يوم في التفكير إثر إحساس غريب؛ فقد اصطدمت يده عفوا بصدر «سناء»، فأحس شيئا لا يدري كنهه، وقد لمست يده يدها مرة ثانية، فأحس الإحساس الغامض نفسه، ثم مرة ثالثة ... جلسا يتصفحان مجلة، وقد أوشك رأساهما أن يتلاصقا، فأحس بأنفاسها تميل نحو وجهه دافئة، فتبعث ذلك الإحساس. وأخذ عقله يفكر، وأخذت حواسه تنمو، وكانت الطبيعة قد عاونته على أن يفهم، وكان الناس قد ساهموا أيضا في ذلك، وترامت إلى أذنيه أقاصيص رجال أحبوا نساء، وقرأ أقاصيص حب، وسمع أغاني تدور حول الرجل والمرأة ...
إنه لا يزال يذكر هذا اليوم أيضا، حين عاد إلى المنزل وقد أدرك أنه لم يعد طفلا، ولم تعد «سناء» طفلة، عبثا حاول في ذلك اليوم أن يملك صوته المرتعش، وعبثا حاول أن يستعيد نظراته الساذجة الغريرة، بل عبثا حاول أن يرد عينيه عن نظراتهما الملتهبة التي بدأت ترى في «سناء» غير عينيها.
ولمس يدها في ذلك اليوم عن قصد، وأحس بها كما لم يحس من قبل، ومال حديثه عن شئون الدنيا، وحمل تحت ألفاظه كلمات مبهمة أحس أنه يدريها وتدريها، وقال لها دون ألفاظ إنه لم يعد طفلا ولم تعد طفلة ...
وتطور أمرهما سريعا؛ فقد اختطفت منه مجلة وحاول أن يستعيدها . طالما حدث ذلك من قبل، لكنه كان يحدث أمام الأسرة دون أن يثير شيئا. في هذه المرة جرت إلى حجرة أخرى، ولوى ذراعها فالتقى وجهاهما وتلامست شفاههما، وأدركا أنهما يفعلان شيئا لا يجوز أن تراه الأسرة، وأدركا أنهما بحاجة دائمة إلى هذا الشيء، وفي حاجة إلى أن يحدث بعيدا عن الأنظار.
والتقى وجهاهما بعد ذلك كثيرا، والتقى قلباهما أيضا، بل اجتمع هذان القلبان في قلبه هو حينا طويلا، بل وقفا على حافة تفكيره، يصبغان هذا التفكير ويوجهانه. أصبح ذهابه إلى المدرسة لا يعني ما كان يعنيه قبلا من تلقي العلم، وإنما فراق «سناء»، وأصبحت أوبته منها لا تعني انتهاء الدراسة، وإنما نهاية ساعات الفراق.
هل كانت تدري الأسرة شيئا؟
هل تعلم أمها ما بينهما؟ ذلك ما لم يكن يدريه.
أما أمه هو فإنه لا يزال يذكر ذلك اليوم الرهيب، حين وقف يحكم رباط رقبته أمام المرآة، ووقفت هي خلفه وقد بدا وجهها الحبيب أمامه، وارتفع صوتها الحنون هادئا رقيقا كأنما يسير في أخدود خطر: انت بينك وبين «سناء» حاجة يا ابني؟
Página desconocida
وأراد عقله أن يكذب، لكن قلبه وقف في الطريق.
وقال وهو يدير رأسه: ليه يا ماما؟ - أنا شايفة انكم بتقعدوا كتير مع بعض، وهي بنت! وانت شاب!
ولم يملك زمام قلبه هذه المرة، واختفى عقله بعيدا وأفسح الطريق، وانسابت الكلمات على شفتيه.
ماذا قال لأمه ذلك اليوم؟ قال لها إنه يحب «سناء»، وإنه يريد أن يمضي حبهما إلى نهايته، إلى الزواج.
وأنت تعرف ذلك كما يعرفه هو و...
ولا يذكر بعد ذلك إلا صوت أمه ينهى إليه في أسى متخاذل. إنه يدرك الآن فقط فجيعة أمه في أحلام ابنها وآماله، وقلبه، يدرك سر هذا الحزن الذي غمر صوتها وغلفه حتى كاد يبدو مخنوقا. - «سناء» أكبر منك بسنتين! سنها الآن تسعة عشر عاما، وأنت سبعة عشر عاما، وعندما تتم دراستك بعد ثلاثة أعوام تكون هي زوجة ولها أولاد!
ولا تطاوعه بعد ذلك الذكريات. إن عقله يقفز إلى عام تال، إلى يوم مشئوم في نهاية شهر مارس، يوم تدوي الزغاريد في الشارع، وتجري فيه الخادمة النوبية التي رعت طفولته لتعصف بشباب آماله وهي تصيح فرحة من غير قصد: ستي «سناء» قرءوا فاتحتها! على واحد دكتور!
وتتابعت الأحداث كأنها أشباح في عالم الذكريات. وقف ساكنا يتلقى صدمات القدر، كأن العامين اللذين يفصلان بينها وبينه يكبلان إرادته وهواه، وكانت الأعوام الثلاثة التي تفصل بينه وبين حياة الرجل الذي يملك شئون نفسه تلجم لسانه وتشل تفكيره، وكان خلف ذلك كله عشرون عاما، بدأت تقطعها الحياة لكي تملك فتاة حق تقرير مصيرها، وتلامست شفاههما تلك الليلة لآخر مرة، تلامست في قبلة طويلة عميقة بعد منتصف الليل، لم يكن ذلك في اليقظة، وإنما في حلم ساخر، قبلها وهي توشك أن تركب قطارا في رحلة طويلة، نحو عالم آخر! وصحا من النوم مفزوعا، وتحسس شفتيه فوجدهما دافئتين لم تغادرهما بعد حرارة القبلة، وتحسس رأسه فوجده ساخنا كأنه ما زالت تغطيه خصلات شعرها الناعم.
إنه لا يزال يذكر أيضا ذلك اليوم بعد عام، حين تبينت له الحقيقة المروعة، حين أدرك أنه ما زال يحب «سناء»، حين نام صدره بعام كامل يبيت فيه ساهرا، وقد تعلقت عيناه بالسقف، فوقه تماما كانت «سناء» تنعم بليالي شهر العسل مع الرجل الآخر الذي يملكها دون أن يدفع ما دفع هو من سهر، ودموع، وأعصاب!
وصاح بأبيه ذات يوم وقد اغرورقت عيناه بالدموع: ما الذي يبقينا في هذه الدار؟
Página desconocida
وقال أبوه وهو يبسم في أسى: سنبحث عن دار أخرى، وسنغادر هذا الحي بأكمله. وغادرت الأسرة الحي بعد أيام.
ودارت السنون تطوي طريق حياته الطويل، فتخرج من كليته وسافر إلى الخارج وعاد إلى الريف، وتزوج وأنجب أولادا، وفقد أباه وأمه.
خطت الحياة أخدودين عميقين في صفحة فؤاده، طالما تعثرت فيهما لحظات الهناء.
وبالأمس فقط مر من الشارع القديم، فأحس أنه يخوض عباب الذكريات. لقد تغير في الشارع كل شيء؛ لقد غدا شيئا آخر لا يعرفه! لكن خياله مع ذلك قد استطاع أن يعيد الماضي ، يعيد الشارع القديم بكل ما فيه، استطاع أن يرى الدور القديمة بمشربياتها المتقابلة المتعانقة، واستطاع أن يرى شبح «سناء»، يكبر رويدا رويدا، ويملأ الشارع، ويطوي خلفه نعيما تقضى منذ عشرين عاما!
ظل ابتسامة
لكأنما تعب القطار من طول الرحلة، فراح يتهادى في بطء، وكأنما عجلاته أقدام عجوز يئودها السير.
وصاح الجالس بجواره وهو يستجمع أطراف ردائه: حصلنا على مزيد الشرف يا أستاذ! احنا نازلين هنا في «بنها».
وهب واقفا يحيي الجيش النازل - جيش الموظفين الذاهبين إلى مقر عملهم. من الصالون الذي جلس فيه نزل سبعة ولم يبق إلا هو، سبعة في خلال الأربعين دقيقة التي جمعهم فيها القطار صاروا أصدقاء، وكأنه يعرفهم من سنين طويلة.
وأطل ببصره من فناء المحطة فوجدهم فعلا كالجيش، لكأنما نزل كل ركاب القطار، خطر له أنه ربما كان الراكب الوحيد الذي لم ينزل في «بنها»؛ البلد الذي ولد به.
وتحرك القطار ثانيا، وتحركت يده تحيي أصدقاءه السبعة الذين توقفوا عن الخروج لحظة، ولوحوا له بأيديهم، وما كادوا يسيرون حتى بدأ يتأمل ما حوله، وجالت عيناه في واجهات المباني والطرقات، وجالت خواطره، ترى أين ولد في هذه المدينة، وفي أي مكان منها؟
Página desconocida
محال أن يكون قد ولد في ذلك الحي الراقي؛ فهو يعرف جيدا أن أباه كان موظفا بسيطا، طالما احتال على العيش بمرتبه المتواضع، واستدرك فكره تلاحق الخواطر ... فاستبعد هذه الاستحالة، وتذكر أن عمره الآن ثلاثون عاما، مدة لا يعيشها حي من أحياء مصر على حال واحد من العزة أو الهوان، ولعل هذا الحي الراقي هو الحي الذي كان يعيش فيه أبوه مع عشرات أنصاف الأحياء من صغار الموظفين والعمال، وأحس أنه في شوق لأن يفعل كما كانت تفعل أمه كلما حاولت - لفرط طيبتها - أن تشكر القدر على ما سمح لهم به من فتات النعمة.
كانت ترفع يدها إلى فمها وتقبلها ظهرا لبطن، ولعله فعل ذلك؛ رفع يده ولثم راحتها وأدارها ليلثم ظهرها، فوقفت يده على حافة فمه، وارتفعت إلى عينه لتمسح ذرة من غبار تعلقت بأجفانه، وطافت الخواطر، وترك القطار أحياء المدينة، ومضى ينساب في الوادي الأخضر، وجعلت خواطره بدورها تنساب في وادي عمره الماضي، وتذكر حين أمسك بخواطره، وقد اصطدمت عند يوم أليم من عمره، يوم فقد أمه الطيبة الرءوم، وحين ارتطم القطار بدوره بجاموسة فتعطل في سيره لحظات. تذكر ما قرأه منذ زمن لكاتب كان يعجب به في فورة الصبا، ومن أن الحياة رحلة قطار تبدأ بالميلاد وتنتهي بالموت، رحلة بين مدينتي العدم. وبدأ القطار يعاود سيره، وبدأت خواطره تقفز من الذكرى الأليمة إلى ذكريات مشرقة، ولذت له المقارنة بين الرحلتين؛ رحلة القطار السائر من مصر إلى الإسكندرية، ورحلة حياته هو منذ أن ولد إلى اليوم. لعله اليوم يقطع من عمره ما سوف يقطعه القطار بين طنطا ودمنهور، ترى كم يمر بالقطار من عقبات كتلك الجاموسة؟! وترى كم يمر به هو من صدمات؟! وتمتمت شفتاه بعد حين، وهو يودع الخواطر متعجبا، ويعود ببصره إلى ما حوله في الصالون: غريبة!
وتوقفت عيناه!
وتوقف لسانه!
وتوقفت الخواطر!
ومرت فترة قبل أن يعود كل شيء إلى الحياة والجريان، حتى إذا استطاع أن يحرك لسانه، وجد نفسه يتمتم في سريرته فقط بنفس اللفظ: غريبة!
لم يكن الصالون خاليا كما توهم، لم يكن هو الراكب الوحيد فيه! كان في المقعد المقابل في أقصى اليمين إنسان آخر، هو امرأة، لا يدري متى دخلت إلى الصالون، وكيف لم يحس بها، وكيف مرت تلك الفترة الطويلة دون أن يراها!
وعراه الارتباك، وأخذ يذكر ما فعل منذ لحظات، هل رأته وهو يرفع يده إلى فمه؟ هل سمعته وهو يتمتم لاهيا بأغنية يصاحب بها خواطره؟ هل فعل شيئا غير ذلك؟ ولكنه لم يهتد إلى جواب.
وراعته النظرة الثانية التي ألقاها في حذر على الوجه الماثل أمامه؛ إنها امرأة جميلة! جميلة إلى أقصى حد! تفصح ثيابها عن ذوق دقيق، وتنطق عيناها بروح صافية، وشفتاها، يا للعجب! إنهما تفتران عن ضحكة خفيفة، بل مجرد ابتسامة هادئة.
وأطال التحديق معتمدا على انشغالها بتصفح مجلة، وحاول أن يستشف شيئا وراء هذا الوجه فلم يفز بطائل. وأحس أنه أطال التحديق، فأمسك بالصحيفة التي معه وراح يقلب صفحاتها دون أن يقرأ شيئا، وأدرك أنه يخادع نفسه حين يصرف دقيقة واحدة في غير النظر إلى هذا الوجه؛ فطوى المجلة في عنف، ورفع رأسه و... ووجد نفسه وجها لوجه أمامها، يطيل التحديق في عينيها المصوبتين إليه، فلا يرى شيئا إلا هاتين العينين وتلك الابتسامة، واستطاع في هذه المرة أن يطمئن إلى أنه لم يفعل ما تأخذه عليه الفتاة، واستطاع أكثر من ذلك أن يطمئن إلى أنها لا تشعر بالضيق من نظراته، بل لعلها ترحب بهذه النظرات، ولعلها لن تصدف عن الحديث.
Página desconocida
وحرك لسانه في فمه بشجاعة، لكنه لم يقل شيئا، فعجب لنفسه كيف لا يستطيع الكلام، وقد كان منذ دقائق يتحدث بطلاقة، ويجد ألف موضوع للحديث!
هل كان ذلك لأنه كان يتحدث إلى رجال؟
وفكر في الحديث كيف يبدأ مع امرأة، لا يعرف أي حديث تحب ... إنه يعرف أن الرجال جميعا يميلون لحديث السياسة، لكن المرأة؟! إن حديثها المحبب قد يكون الأزياء، وقد يكون السينما ... وقد لا تكون راغبة في الحديث بالمرة. لكنه استجمع أطراف شجاعته، وأوحى له عقله بهذا السؤال: من «بنها»؟ حضرتك من «بنها»؟
وكتم أنفاسه في انتظار اللحظة الرهيبة، وأوشك أن يغمض عينيه كي لا تفجعه نظراتها الغاضبة التي قد تحمل الازدراء.
لكن شيئا من ذلك لم يكن، وسرعان ما ترامى إلى أذنيه صوتها العذب كأنه موسيقى خفيفة يحمل الجواب: لأ، من «الإسكندرية».
وتهافت على الفرصة حتى لا تضيع: في «بنها»؟ في زيارة على ما أظن؟ - عند أبي.
ثم ماذا؟
إنه لا يستطيع أن يسأل السؤال التالي، إنه لا يستطيع أن يقول لها كيف يكون أبوك في بنها وأنت في الإسكندرية؛ إن أي سؤال بعد جوابها هذا يعتبر تدخلا لا ترضى عنه خلال معرفة لم تتم بعد. أيترك الفرصة تضيع هكذا؟ إن عليه أن يتكلم بأي ثمن، أي كلام، وقال دون وعي: لقد ولدت في «بنها»!
ولم يكد فمه يفرغ من النطق حتى أحس بسخف ما قال؛ فما الذي يعنيها من أمر ميلاده؟ وما الذي يعني أي إنسان غيرها؟ وتملكه الندم، وتمنى لو لم يقل ما قال من سخف، لقد كان يخشى أن تفلت من يده الفرصة، وها هو قد أضاعها بتسرعه!
وسرعان ما قطع عليه تفكيره النادم صوتها يرن في أذنيه قائلة: أنا أيضا ولدت في «بنها»!
Página desconocida
وتملكه الفرح ولم يدر أنه يقول: حاجة عظيمة خالص! هذا شرف عظيم! - لكنك لا تقيم في «بنها»؟ - أنا؟ إني لم أرها منذ ولدت، أعني لا أعرف شيئا عنها. إنني أقيم في الصعيد، في «قنا»، حيث أعمل مهندسا.
ومضى يقص كل شيء دون أن يدعو داع للحديث. مضى يسرد تاريخ حياته بإسهاب وتفصيل، ولم يدر شيئا عما حوله إلا أنه كلما أجهده الحديث تزود بنظرة من الوجه الباسم وعاد إلى قصته.
وسكت فجأة حين صدم أذنيه صفير القطار. بدا له هذا الصفير كأنه نعيب غراب يؤذن بزوال نعمة. سوف يقف القطار وينزل في هذه المحطة بالذات؛ إنها «طنطا» بلا شك.
لكم تمنى ألا تكون، أو أن تكون «طنطا»، ويكون عمله الثقيل الذي انتدب لأدائه بالإسكندرية.
وأسرع الزمن، وأسرع هو يبحث عن حل؛ إنه لم يقل لها الآن إنه سينزل في «طنطا»، إنه لا يعنى بذلك قدر ما يعنى بأنه يريد أن يقول شيئا آخر؛ يريد أن يسألها: هل سيراها ثانيا أم لا، ومتى سيراها؟ ما اسمها؟ كيف فات عليه كل ذلك فمضى في الحديث عن نفسه دون أن يعرف عنها شيئا؟!
وهدأ القطار من سيره، فتمالك نفسه وقال يبرر سكوته المفاجئ: يظهر اننا وصلنا! - «طنطا»؟ - أجل، فأنا نازل هنا، لكن ...
وسكت برهة يبحث عن الكلمات.
ثم قال بعد تردد: لقد كانت فرصة سعيدة، كنت أتمنى أن تطول، لكن لعل الزمن يسعدني برؤيتك مرة ثانية، ألا تغادرين الإسكندرية أبدا؟
وقالت باسمة: إلى «بنها» لزيارة أبي، ثم أعود، وأحيانا نذهب إلى «القاهرة» في العطلة.
وكرر دون أن يدري: كنت أتمنى أن يطول لقاؤنا، لكن ما حيلتي! لكني واثق أننا سوف نلتقي.
Página desconocida
كان القطار قد هدأ من سيره، وكان عقله يفكر في شيء آخر، كيف يكون وداعهما؟ هل سيومئ لها برأسه كما يفعل كل رجل مع كل امرأة لا يعرفها؟ أم سيجرؤ فيصافحها؟ إنه يتمنى ذلك، يحس شوقا شديدا لأن يلمس هذه اليد، ترى ماذا سيكون إحساسه؟ وداعبه خاطر خبيث، هذه الشفاه الباسمة، إنها أنسب مكان لوداع حار، لكنه لا يملك، لا يملك حتى مصافحة اليد.
وتجرأ حين وقف القطار فمد يده مسلما، ومدت يدها في هدوء تصافحه، وشيعته بنفس الابتسامة التي رآها أول ما رأى في وجهها المشرق.
ومضى القطار بها وحدها. •••
جلس عند ظهر ذلك اليوم يتحدث إلى زميله المهندس الآخر الذي ندب ليشاركه العمل، كان حديثهما يدور حول موضوع كل رجلين.
قال زميله: حرام أن لا تتزوج إلى الآن ... أتذكر إذ كنا في الكلية وكنت أشدنا تحمسا للزواج؟ - أجل، وما زلت متحمسا. - فلم لم تتزوج إلى الآن؟ - أتذكر الشروط التي كنت أردد أنها ضرورية في الزوجة؟ - أذكر. - فهذا الذي أنتظره، أنتظر الزوجة التي أحس حين أرى وجهها أنني أرتاح لهذا الوجه. قد لا يكون جميلا، ولكنه مريح ... الوجه الذي يبعث الراحة في النفس ويسكب التشجيع في أعصابي. إن الرجل ليحتاج قبل الطعام والفراش إلى خمر لا تضر، بل تبعث في نفسه الحياة ... هذه الخمر لا يسكبها غير عيني امرأة وشفتيها.
وضحك زميله وقال: إنك على حق، لقد عرفت ذلك أنا، وأحسسته حين تزوجت، لعلك لا تعرف أنني حصلت على ضالتي، وأنني الآن زوج منذ عامين. إني لأرجو أن توفق مثلي، لكن قل لي: لماذا لا تبحث جادا؟ - ومن قال لك إنني لا أبحث؟ - ألم توفق إلى اليوم؟
وقال كالحالم: اليوم! أظنني اليوم قد وجدت شيئا، وجدت وجهها، أحسب أنني لن أجد سواه، لكن ... - لكن ماذا؟ - لا أعرف عنها شيئا! - كيف؟! ألا تعرف من هي ولا أين أهلها؟ - أبدا. - أين؟ - في القطار.
وقهقه زميله، وأغرق في الضحك، وسادهما الصمت أخيرا، ثم قال وهو يحدق في الحجرة: إنني لا أعرفها حقا، ولم أرها إلا اليوم، لكنني مع ذلك أحس إحساسا عميقا بأنها هي؛ هي تلك التي أبحث عنها، بل أحس أكثر من ذلك، أحس أننا سنلتقي ذات يوم.
وعاودهما الصمت مرة أخرى، وأحس زميله أنه يعاني ألما؛ فاندفع يتحدث في غير موضوع واحد. كان هو خلال ذلك غارقا في عالم آخر؛ كان جالسا على مقعده بالقطار يتأمل الوجه الماثل أمامه، ولا يرى إلا العينين الحالمتين، والشفاه الباسمة على الدوام، وأفاق على صديقه يهز كتفه قائلا: ما رأيك في هذه الصورة؟
وأمسك بالصورة على مضض، وراح ينظر في غير عناية، طالعه وجه زميله يميل في حنان على رأس، امرأة، امرأة جعل يتأملها، أخفى جهده ما عراه من هزة وهو يرى وجهها، وعينيها، وفمها الباسم.
Página desconocida
ومرت لحظات قبل أن يفيق.
وعندما وعت عيناه ما حوله وأحست أذنه دبيب كلمات زميله يقول: إننا نسكن الآن عند أمها مؤقتا، أنت تعرف طبعا أزمة المساكن، لكنني أبحث عن عش جميل، عش في ضاحية بعيدة عند نهاية الرمل؛ فهي مثلي تحب الهدوء والراحة. •••
إنه لا يزال يذكر ذلك اليوم، ويوما آخر بعد عام، حين قابل زميله في القاهرة ومعه زوجته، حين تصافحا وزميله يقدمها باسمها مجردا، ثم يردف قائلا: زوجتي، وتلك النظرة التي اختلسها إلى وجهها فرأى ما رآه أول مرة؛ نفس العينين ونفس الابتسامة! إنه لا يزال يعيش إلى اليوم في ظل هذه الابتسامة!
أقوى من الحب
- ألا تصدق ما أقول؟ - ولا أصدق أيضا أنك - وأنت صديق مصطفى - تقول ما قلت الآن! إنه بلا شك وهمك الكاذب قد تربع في خيالك. - وهم كاذب؟! إذن إليك ما حدث. أحب فقط أن أنبهك إلى أن هذا هو الحقيقة؛ الحقيقة التي لم أصدقها حين سمعتها، ولكنني صدقتها حين رأيتها.
ومضى يفصل نبأ غرام مصطفى؛ ذلك الغرام الجارف الذي شب فجأة بعد خمود، وعاد إلى الحياة بعد موات، بعد عشرة أعوام! وحين أصبح مصطفى زوجا لحسناء، وأبا لأربعة أطفال، حين استقر عيشه وبدا كأنما مسحت يد الأيام من حياته سطور ذلك الغرام القديم.
ومضى يسرد الحقائق التي رآها بعينيه. لقد رآهما معا يتنزهان أكثر من مرة، فغالط نفسه وزعم أنها الصدفة قد جمعت بينهما، ثم قابل مصطفى بعد ذلك، وأراد أن يتأكد مما تخيله، ولكن مصطفى راوغ في إجابته، وبدا عليه أنه غير مستعد للإنكار أو الاعتراف، ثم سمع بعد ذلك القصة كاملة من أفواه من يعرفون مصطفى، ومن أقاربه الذين كانوا يرون في عودة هذا الحب نذيرا لكارثة قد تودي بعش الزوجية الجميل ...
ثم سمعها أخيرا من مصطفى نفسه، وكان قد بلغ حدا من الإعياء لم يقو بعده على الكتمان؛ فراح يروي له قصة هواه.
كيف رآها بعد عشرة أعوام، وكيف جمعتهما الظروف ذات يوم وحيدين، فتطرق حديثهما من نجوى العيون إلى نجوى الشفاه، وإذا بحبهما القديم يقفز فجأة فيعفي على الحاضر، ويتطلع إلى المستقبل، يريد أن يبني من جديد حياة عاشقين ...
عاشقين لكل منهما ماض طويل وحاضر مثقل.
Página desconocida
هو بزوجته وأولاده الأربعة.
وهي بزوجها وخمسة أطفال.
وبدأ حديثهما عن المستقبل، وقد نحى كل منهما الحاضر من تفكيره، وراحا يلتقيان كما يلتقي العشاق ويبنيان الآمال ... وحين تحدث أصدقاء مصطفى إليه في أمر هذا التطور في حياته، بدأ يفكر جديا في المأساة، دون أن يخطر بباله أن ينقذ نفسه من شباكها. كان جوابه لكل من صارحه بخطئه أنه يحبها حبا قويا جارفا، لا يملك معه البعد عنها.
وقال سعيد، وهو أقدمنا عهدا بصداقة مصطفى: وأين كان هذا الحب من عشرة أعوام؟
وأجاب حامد: كان موجودا، ألا تعرف أنهما كانا حبيبين منذ الطفولة؟ - أعرف، ولهذا أسأل. - لا أفهم ما تعنيه؟ - هل قص عليك مصطفى كيف بدأ غرامه القديم، وكيف انتهى؟ - لقد انتهى بزواجها طبعا، إنني لا أعرف ما حدث بالضبط؛ فصلتي بمصطفى لا تعدو خمسة أعوام. - أما أنا فأعرف مصطفى منذ عرف الحب، منذ عشرين عاما! حين كان الطفلان يعبثان بالنظرات وهمسات الشفاه، وحين بدأت العيون تجد والشفاه تدفأ، فالطفل فتى والطفلة فتاة، والشفاه الدافئة تنطق كلمات الهوى في ألفاظ ساذجة، ثم تتشجع وتقوى فتصوغ الهوى آمالا، في الزواج، وفي المستقبل.
وراح سعيد يقص ما يعرف عن هذا الحب: إن هذا الحب الجارف طالما عبث بمصطفى، ففجر قلبه بالسعادة أحيانا، حين كانت تبسم له وتشاركه الآمال، وأغرق فراشه أحيانا أخرى بالدموع، حين كانت تثير في قلبه الشكوك والمخاوف، وما أكثر ما أثارت هذه الشكوك، وأوشكت أن تجسمها في خياله حقائق.
وذات يوم أقبل مصطفى على صديقه متجهم الوجه، توشك أن تطفر من عينيه الدموع، وأخذ يقص عليه كيف رأى حبيبته تساير شابا رقيعا، يعرفه تمام المعرفة، على شاطئ النيل قريبا من منزلها.
وقص سعيد علينا كيف هدأ من خاطره، وكيف علل له ما حدث بأنه لا يعدو مغازلة الشاب، وعجزها عن صد هذا الغزل، وكيف استطاع الحب الجارف - لا دفاع سعيد - أن يقلب الحقيقة وهما يضيفها إلى قائمة الشكوك الظالمة، واستراح مصطفى ومضى في حبه هادئ البال، يستعد لامتحان الليسانس.
ومرت الأيام وحل الامتحان.
لم يكن امتحان مصطفى، وإنما امتحان الحب القوي الجارف! حل في صورة رجل ثري، تسير أمامه رثبة أنيقة، وتمشي خلفه عدة فدادين، وبضعة ألوف من الجنيهات.
Página desconocida
وخر الحب صريعا على يد مأذون القرية في يوم أغبر!
وخر مصطفى صريع الحمى بضعة أيام، ثم عاودته العافية.
وأخذت ذكراه تنسحب رويدا رويدا، حتى ضاعت في أفراح ليلتين هائلتين، شملت مصطفى فيهما السعادة، واحتوته بين أحضانها، الليلة الأولى حين تزوج ثريا، والليلة الثانية حين أنجب أول أبنائه محمود.
وقال حامد متمما الحديث: ثم مرت الأعوام، وها هو الحب يعود أقوى مما كان ...
وثار سعيد قائلا: ألا زلت تسميه حبا؟! إن الحب الذي تصرعه محنة في عنفوان الشباب لا يعود! إنك واهم إن تصورت في قلبه متسعا للحب بعد أن ملأته زوجته وأولاده.
قال حامد: إنك لا تعرف ماذا يريد أن يفعل! إنه يريد أن يترك زوجته وأولاده ويتزوجها! - وهي؟! - المصيبة أنها تشاركه الرأي، وتريد أن تقدم على نفس التصرف! •••
ومضى الحديث بيننا، ولم يكن لدينا أهم من هذا الموضوع. لقد كان مصطفى حبيبا إلى قلوبنا جميعا، وكان يسوؤنا أن تتعرض حياته العائلية لمثل هذه الصدمة العنيفة. وما زلت أذكر إلى الآن كيف كان إصرار سعيد على أن ذلك التطور في حياة مصطفى لم يكن حبا، بل شيئا آخر، شيئا أقوى من الحب، حتى كان أمس، حين لقيت سعيد؛ كنت أعبر الشارع حين استوقفني صوته يسألني: أين أنت يا رجل؟ كنا في سيرتك أنا ومصطفى امبارح. - وكيف حاله؟ وحال زوجته الجديدة؟
وقال سعيد مدهوشا: لم تعرف ما حدث إذن؟! لقد طلقها منذ أيام، بعد شهرين من الزواج!
وقلت متأثرا: أكنت تتوقع هذا المصير؟
فأجاب مسرعا: بل لم أكن أتوقع غيره! أتذكر ماذا كان رأيي حين سمعنا بما حدث؟ إذا كنت تذكره فلعلك تدرك صدق فراستي؛ إن كل ما حدث أنه كان يريدها؛ يريدها لأنه الشيء الذي لم ينله يوم تمناه، لقد كانت رغبة جامحة، تسللت تحت ستار الحب، رغبة أقوى من الحب!
Página desconocida
مسكين مصطفى! ترى ماذا سيفعل الآن؟ - لا شيء، لا بد أنه ينظف ثوبه ليعود من جديد إلى العش الذي أوشك أن يتداعى!
ضباب على القرية
عد معي إلى الماضي القريب، إلى عشرين عاما، كانت القرية نائمة، والعيون الساهرة هي عيون الخفراء، قد انتشروا حولها يحفظونها من الأشرار، وامرأة واحدة تسهر إلى جانب فراش مريض قد أطبق المرض أجفانه.
وقالت المرأة وهي تسوي الغطاء، وتحكم إحاطته حول جسد المريض المتداعي: هل نمت يا عبد العال؟
وأجابها صوته الضعيف: لا!
وأشارت عيناه إلى الغرفة المجاورة، فقالت على الفور: لقد نام منذ ساعة، بعد خروج حسان.
وأغفى المريض وغلب عليه النعاس، وقهرها التعب، فاستلقت تحت قدميه. وأسدلت الأقدار سترها على الفصل الأول في الصباح، بعد أن قدمت من أبطال القصة أربعة شخوص: عبد العال المريض، الذي أسلم أنفاسه إلى نسائم الفجر، والطفل النائم في الغرفة المجاورة يصحو على صراخ أمه وعويلها، وحسان سيد القرية الثاني بعد عبد العال!
ونفض الأحياء أيديهم من الميت ، وعادوا إلى الدار، وولج حسان باب القاعة مستأذنا، وآخذا في أحضانه الطفل الصغير، وقال وهو يغالب دمع قلبه المرتعش: البقية في حياتك يا أم سيد! - حياتك الباقية! - عايز أقول لك حاجة. - اتفضل.
وانفرد لحظة، خرج حسان بعدها إلى داره، وعادت خضرة إلى القاعة لتبكي من جديد، لا على جثمان الراحل، لكن على حظ الحي؛ حظ هذا الطفل الراقد أمامها، ابن سيد القرية، عبد العال، الذي حمل معه إلى القبر السيادة والمال والهناء ...
لقد مات عبد العال عن دين لا يمكن سداده، وقد صارحها حسان بكل شيء، بأن أيام الحداد لن تنتهي حتى تنتهي معها إجراءات البيع، ولن تخرج سمعة عبد العال نقية إلا إذا ضاع كل شيء، حتى الدار!
Página desconocida
وقال لها حسان أيضا شيئا آخر، جعل دموعها الحزينة تخف حرارتها رويدا، فتصبح همهمة، ثم استسلاما.
وتلقت خضرة العزاء في دارها، وختمت هي وطفلها أيام الحداد في دار حسان.
وأصبح حسان أبا جديدا لسيد، وأخا لأمه ... شهدت داره الفسيحة عطفه وحنانه، وعندما ماتت خضرة بعد أعوام من زواجها لم تكن جازعة على مصير الطفل، وقد رأت بعينها حدب حسان وعنايته به ...
ويجلس حسان ذات يوم إلى نفسه وحيدا، وتزدحم على رأسه الخواطر والصور ... هذا عبد العال صديقه، ورب نعمته السابق يجرجر أكفانه، ويقبل عليه يسأله عن مصير ابنه الشاب، ماذا هو فاعل به؟ وهذه زوجته هو! زوجته الغالية التي أحبها ولم يحب سواها، ولم يتزوج إكراما لذكراها، ها هي بدورها تخطر له ساحبة أكفانها الحريرية تبحث عن زهرة - ابنتها - في أركان خياله، وتصرخ بأمنية طالما تمنتها، في حياتها، على الله؛ أن ترى زهرة عروسا تزف إلى سيد شريف!
وينهض حسان آخر الأمر، وقد انتهى إلى رأي، ولا تلبث الدار الحزينة، منذ ماتت الغالية، أن تكتسي حلة من النور والبهجة، وتدوي في أرجائها الزغاريد!
وهكذا يتزوج سيد زهرة، ويحمل عن أكتاف الشيخ عبء الإشراف على أرضه، بعزم ونشاط؛ فهو يخرج في الصباح الباكر نحو الحقل، ويعود ساعة الغروب، ويأخذ عليه العمل أحيانا أخرى كل وقته، فيقضي الأيام بعيدا عن الدار ...
وتكاد القصة أن تنتهي عند هذا الحد، وقد نعم القدر بمشاهدة منظر ساذج من حياة الريف ووفائه، لولا طرقة خفيفة على باب حجرة زهرة! إنه مصطفى صفي أبيها، ذلك الشاب الذي تعلم في مصر، وعاد يحمل في رأسه ضبابا، وعلى وجهه وسامة، وفي ملابسه أناقة، جاء ليلقاها جسدا بجسد، بعد أن لقيها بعينيه أكثر من مرة، ثم واعدها، ثم كان اللقاء.
حدث ذلك، وعميت عيون حسان عن أن ترى شيئا، وحسب سيد أن جدران الدار مكان أمين يصون جوهرته الغالية؛ فلا تراها العيون. ولكن الشيطان الذي لم يكن قد تسلل إلى نفس سيد، قد غافله وتسلل إلى جسد زوجته.
وطالت المأساة كثيرا، وتعمد الشيطان ذات يوم أن لا يغلق الأبواب! وترك السراج مشتعلا في خدر الفاسقة، وقاد قدمي سيد إلى الدار على غير عادته، وأخذ يتلهف على منظر الدماء تسيل على جوانب الشرف المهيض، وأخذ يدب كفيه ليصفق للواقعة الدامية، مقتل آثمين على فراش الخطيئة!
ولكن خاب فأل الشيطان؛ فلم يقتل سيد أحدا. لقد أسدل على الفضيحة ثوب الليل، وأطفأ السراج، ولم ينم إلى الصباح.
Página desconocida
وهب مع الفجر من فراش يقظته مهرولا، وأخذ يجمع ملابس زهرة بنفسه ويطويها في عناية، وحين انتصف النهار كان قد أوصلها إلى بيت أبيها مطلقة.
وكان عليه أن يفسر ما فعل لأبيها الشيخ ويرد على أسئلته، ولكنه لم يجب بغير جواب واحد: والله مش عارفين نعيش مع بعض يا عمي، ولا هي بتقبلني ولا أنا بأقبلها، الفراق أحسن. وعبثا حاول حسان أن يصدق هذا التعليل.
شاب طريد لا يملك شيئا، يلفظ هذه النعمة، ويسيء إلى من أحسن إليه؟
وقال مصطفى وقد جلسا في المساء: يا عم حسان! المسألة فيها سر، أصل سيد ماشي مع ... وذكر اسم امرأة؛ واحدة من قطط الريف الضالة التي تنسج حولها الأقاصيص!
وصدق حسان على مضض، وامتلأ قلبه بالكراهية لذلك الغادر الذي أحال جوهرته الغالية إلى قطعة من الزجاج لن يتحلى بها غير الفقراء.
وغدا الحقد ينمو مع الأيام على ربيب النعمة العاق، بدأت نقمة السيد الثري القادر على الشاب اليتيم المشرد، أخذت هذه النقمة شتى الصور، لم يجرؤ فلاح واحد على أن يفتح أبواب حقله للطريد، فلجأ إلى القرية المجاورة، هناك وجد حقلا يعمل فيه، ولاحقته نقمة حسان إلى هذا الحقل، فما لبث أن طرد منه!
وظل سيد ينتقل من حقل إلى حقل، حتى استقر بأرض مزارع كبير، وما لبث بها قليلا حتى وثق به صاحب الأرض؛ فجعله حارسا يرعاها ويسهر عليها!
ونشب ذات يوم خلاف بين سيد وناظر الزراعة، وتطور الخلاف إلى مشاحنة شديدة توعده فيها الناظر بالطرد في اليوم التالي.
وفي الصباح التالي وجد ناظر الزراعة مقتولا على حدود القرية، وفي الضحى كان سيد مكبلا بين يدي المحققين ينكر في حرارة أنه القاتل، ويرد على أسئلة النائب الحائر في حيرة وارتباك: ألم تتشاجر أمس مع الناظر؟ - بلى، تشاجرت! - ألم يتوعدك بالطرد في الصباح؟ - توعدني فعلا. - فطردته من الحياة قبل أن يطردك من الحقل؟ - أبدا، وأقسم بالله!
وتتملك الشاب حرارة الإنكار فتغلبه العبرات؛ عبرات البريء المظلوم، ويرق قلب المحقق، ويحس نسمة من العطف على الشاب تمر بقلبه، فيوشك أن يؤمن ببراءته، ولكن ...
Página desconocida