كان جورج يحمل كراسي الحديقة القابلة للطي بناء على طلب فاليري لإحضارها، بينما تحمل روبرتا الحلوى، وكانت قالبا مستديرا من توت العليق المثلج، المصنوع من التوت الذي جمع من مزرعتهم الخاصة - مزرعة جورج - في وقت سابق من صيف ذلك العام. علبته روبرتا في مكعبات ثلج ولفته في مناشف الصحون، لكنها تتوق لوضعه في المجمد. وكانت أنجيلا وإيفا - ابنتا روبرتا - تحملان زجاجات النبيذ. وقد اتفقت روبرتا وزوجها على أن تمضي الفتاتان الصيف معها ومع جورج، والعام الدراسي معه في هاليفاكس. كان زوج روبرتا يعمل في البحرية. وتبلغ أنجيلا من العمر السابعة عشرة، وإيفا الثانية عشرة.
كان أربعتهم يرتدون ثيابا تشي بطريقة ما بأنهم بصدد الذهاب إلى حفلات عشاء مختلفة؛ فكان جورج ضخم الجثة، أسمر البشرة، عريض المنكبين - كانت له نظرة مهيبة احترافية تنم عن الثقة بالنفس ونفاد الصبر (وكان يعمل مدرسا) - يرتدي قميصا أنيقا وسروالا عاديا للغاية. أما روبرتا، فكانت ترتدي سروالا قطنيا حنطي اللون باهتا، وقميصا فضفاضا من الحرير الخام بلون الطوب اللبن، وهو اللون الذي يتماشى مع شعرها الداكن وبشرتها الشاحبة أيما تماش في أفضل حالاتها، لكنها لا تعيش أفضل حالاتها اليوم. عندما كانت تضع زينتها في الحمام، اعتقدت أن بشرتها بدت كقطعة من الورق المكسو بالشمع التي تجعدت فتحولت إلى كرة مشدودة ثم تراخت. عاشت لحظات سعادة مؤقتة بنحافتها، وكانت خطتها أن ترتدي صدرية نسائية فضية مثيرة تمتلكها - يا لها من مزحة ساحرة - لكنها غيرت رأيها في اللحظة الأخيرة. كانت ترتدي أيضا نظارة داكنة، والسبب هو أن دموعها قريبة ومتدفقة، لا في الأوقات البائسة حقا ولكن فيما بينها؛ وتفاجئها دموعها على حين غرة شأنها شأن العطس.
أما بالنسبة لأنجيلا وإيفا، فكانتا تلبسان ثيابا رائعة مستوحاة من صندوق ستائر قديمة عثر عليه بعلية بيت جورج؛ فترتدي أنجيلا ثوبا من الإستبرق الأخضر زمردي اللون، تتخلله خطوط طويلة أبهتتها الشمس، منسدلا عليها بحيث ينحسر عن كتف برونزية مكشوفة. وقصت أنجيلا قطعا على شكل أوراق العنب من الإستبرق وألصقتها على ورق مقوى، وزينت بها شعرها. تتمتع أنجيلا بقامة طويلة وشعر أشقر، وكانت تشعر بالحرج من الجمال الذي اكتسبه جسدها مؤخرا، وكانت تبذل جهدا خرافيا للتباهي به - كما هي حالها الآن - ثم تحمر خجلا وتعبس وتبدو كأنها أهينت كلما قال لها أحدهم إنها بارعة الجمال. أما إيفا، فترتدي طبقات عدة من الدانتيل المنسدل الرقيق المائل إلى الصفرة، مشبكة معا بدبابيس وأشرطة وأكاليل فلوكس بري متدلية ومتناثرة. وثمة نسيج من الدانتيل مربوط حول جبينها ومنسدل وراء ظهرها كطرحة عروس في عشرينيات القرن العشرين. وتحت الدانتيل ارتدت سروالها القصير خشية أن يستشف أحد ملابسها الداخلية عبر النسيج الرقيق؛ فهي متشددة وطائشة ومتقلبة المزاج وساخرة ومتفائلة ومثيرة للقلاقل. وتحت غطاء الوجه المثبت فوق رأسها، يزدان وجهها بظل عيون أخضر خليع، وأحمر شفاه غامق، ومسكرة داكنة. فعززت الألوان العنيفة من مظهرها الطفولي الذي يشي بالطيش والجرأة.
ركبت أنجيلا وإيفا في مؤخرة الشاحنة وصولا إلى هنا، حيث تجلسان باسترخاء على مقاعد الحديقة. يبعد بيت جورج عن بيت فاليري بخمسة كيلومترات تقريبا، لكن روبرتا لم تر الركوب في مؤخرة الشاحنة آمنا؛ كانت تريد أن تنزل الفتاتان وتجلسان على أرضية الشاحنة. ولدهشتها تكلم جورج بالنيابة عنهما قائلا إنه من المشين أن ترتميا على الأرضية وهما في أحسن زينتهما، وقال إنه سيقود ببطء وسيتجنب المطبات. وهكذا قاد شاحنته. كانت روبرتا متوترة بعض الشيء، لكنها ارتاحت لما وجدته متعاطفا ومتساهلا بشأن الأمور التي كانت تتوقع أن تزعجه؛ أي المبالغة والاستعراض. فقد تخلت هي نفسها عن ارتداء التنانير والثياب الطويلة بسبب ما صرح به بخصوص كراهيته للنساء اللائي يجرجرن ثيابهن على الأرض مما يوحي له بعدم رغبتهن في القيام بأي عمل جاد، بل وبرغبتهن الملحة في إعجاب الآخرين بهن وتوددهم إليهن، وهي الرغبة التي لا يطيقها جورج، بل وأمضى بعضا من وقته وبذل جهده طوال شبابه لقمعها.
ظنت روبرتا أنه بعد أن تكلم مع الفتاتين بهذه الطريقة الودودة، وبعد أن ساعدهما على ركوب الشاحنة، ربما سيتحدث إليها عندما تستقل الشاحنة، وربما حتى سيمسك بيدها، ويتغافل عن جرائرها غير المعروفة، لكن ذلك لم يحدث. خيم عليهما الصمت القاتل والشاحنة تتحرك بخطى وئيدة تكاد تكون جنائزية على الطرق الممهدة بالحصى الساخن. تشعر روبرتا وهي تقف على حافة الصمت وكأنها منكمشة كورقة شجر ذابلة. تعرف أن هذه صورة خيالية هستيرية. وفكرة الصياح وفتح باب الشاحنة وإلقاء نفسها منها على الحصى أيضا هستيرية. ينبغي أن تبذل جهدا كي لا تتمكن منها أفكارها الهستيرية وكي لا تبالغ. لكن الكراهية لا مراء - وماذا غيرها إذن؟ - هي التي يختلقها جورج ويصبها عليها بشكل مستمر، ولا شك أنها وقود قاتل. حاولت روبرتا أن تكسر حاجز الصمت بنفسها صانعة أصواتا تشي بالقلق أشبه بقرقرة الدجاج؛ إذ شدت قبضتها على المنشفات التي تلف توت العليق، تبعتها بتنهد مصطنع مزعج يراد به الدلالة على شعورها بالضجر وإن كان في الوقت نفسه يكشف عن شعورها بالسعادة والراحة. انطلقت الشاحنة بين نباتات الذرة العالية، وحدثت روبرتا نفسها كم هي قبيحة تلك النباتات؛ خالية من التنوع وأوراقها خشنة أشبه بجيش من الخرق. منذ متى وهما على هذه الحال؟ منذ صبيحة أمس. شعرت أن ثمة خطبا ما قبل أن يتركا فراشهما. خرجا وشربا حتى الثمالة ليلة أمس في محاولة لتحسين الأوضاع، لكن الارتياح لم يستمر.
قبل أن يقصدا منزل فاليري، كانت روبرتا في غرفة النوم تعقد ربطات صدريتها عندما دخل عليها جورج وقال: «أهذا ما سترتدينه؟» «نعم، هذا ما خطر لي أن أرتديه. ألا يبدو جميلا؟» «إبطاك مترهلان.» «فعلا؟ سأرتدي ثوبا بأكمام.»
في الشاحنة، وبعد أن أيقنت أنه لن يبادر بمصالحتها، أفسحت المجال لصدى كلماته يتردد في عقلها. كان ثمة حالة من الرضى في نبرة صوته؛ الرضى ببث اشمئزازه؛ فهو يشعر بالاشمئزاز من جسدها الذي لا يفتأ يشيخ، وكان بإمكانها أن تتوقع ذلك. فشرعت تطن بشيء ما، شاعرة بالبهجة والحرية، شاعرة بميزة تكتيكية عظيمة تتمثل في كونها الطرف المظلوم؛ لقد فرض عليها تحد بائس، وألقيت على مسامعها كلمات لا تغتفر.
لكن لنفترض أنه لا يعتقد أن كلماته لا تغتفر، لنفترض أنها هي التي لا تستحق المغفرة في رأيه؟ فهي دائما الملومة؛ والكوارث تلحق بها يوميا. جرى العرف على أنها فور أن تستشف تدهورا، تبادر بإصلاحه بكل ما أوتيت من قوة وعزم. والآن، أضحت محاولاتها لرأب الصدع تجلب المزيد من المشكلات؛ فهي تغطي تجاعيدها بالكريم بعصبية، فتطفح البقع على وجهها وكأنها مراهقة. ولما اتبعت حميات غذائية حتى نحل خصرها بالقدر الذي أسعدها، أصاب الهزال وجنتيها وعنقها. أما الإبطان المترهلان، فكيف يمكن ممارسة تمارين رياضية لهما؟ ما العمل؟ حان الوقت لدفع الثمن، ولكن ما المقابل؟ الخيلاء. ليت المقابل حتى الخيلاء. المقابل هو امتلاك هذه البشرة الجميلة ذات مرة، وتحدثها عنك؛ والسماح للتآلف بين الشعر والكتفين والثديين أن يكون لها الأثر الأنثوي المنشود. لا يسعك التوقف في الوقت المناسب، ولا تدرين ما يمكنك القيام به بدلا من ذلك؛ فتتركين نفسك عرضة للخزي. هكذا حدثت روبرتا نفسها مشفقة على ذاتها ومنغمسة في فيض من الحزن المرير.
يجب أن ترحل وتعيش وحيدة وترتدي ثيابا طويلة الأكمام. •••
تناديهم فاليري من وراء نافذة معتمة تحت أشجار العنب قائلة: «تفضلوا بالدخول. أنا أرتدي جواربي الطويلة وحسب.»
Página desconocida