قال تيد عندما قابلته في الردهة بعد الساعة الرابعة: «مرحبا، كيف حالك ؟» ثم قال في نبرة صوت خفيضة: «غرفة الإمدادات، سأكون هناك.»
قالت فرانسيس: «حسنا، حسنا.» ذهبت لتغلق الغرفة على بعض كتب الموسيقى وتغلق البيانو. أخذت تعبث وتتلكأ في الأرجاء إلى أن رحلت جميع الطالبات، ثم هرولت إلى الطابق العلوي، إلى فصل العلوم، ومنه إلى حجرة كبيرة بلا نوافذ، كانت الغرفة التي يحصل منها تيد على إمداداته. ولكنه لم يكن قد وصل بعد.
كانت هذه الحجرة تستخدم كخزانة تتراص فيها الأرفف التي تحمل زجاجات محتوية على مواد كيميائية متنوعة - وكانت كبريتات النحاس هي المادة الوحيدة التي استطاعت فرانسيس معرفتها دون وجود ملصق على الزجاجة؛ فهي تتذكر لونها الجميل - ومواقد بنزن، ودوارق، وأنابيب اختبار، وهيكلا عظميا بشريا وآخر لهرة، وبعض الأعضاء المعبأة في زجاجات، أو ربما كائنات حية، فهي لم تتأملها عن قرب، وكانت الغرفة مظلمة على أية حال.
كانت فرانسيس تخشى أن يدخل عامل النظافة، أو حتى بعض الطالبات اللاتي يعملن تحت إشراف تيد في مشروع ما يتمحور حول العفن أو بيض الضفادع (مع أنه ليس التوقيت المناسب من العام لذلك بالطبع). ماذا لو عادت الطالبات بحثا عن شيء؟ عندما سمعت وقع خطوات، بدأ قلبها يخفق بقوة، وبعدما أدركت أنها خطوات تيد لم يهدأ خفقان قلبها ولكن تغير سبب خفقانه، فأصبح يدق ليس فزعا، وإنما من قوة التوقعات المسيطرة عليها، التي - رغم متعتها - كانت ثقيلة الوطأة جسديا عليها كالشعور بالخوف؛ وكانت التوقعات كفيلة ببث الشعور بالضيق في صدرها.
سمعته يغلق الباب.
نظرت فرانسيس إلى تيد بطريقتين، وكلاهما خلال نفس اللحظة التي ظهر أمامها عند مدخل باب غرفة الإمدادات، ثم سحب الباب ليواربه فكادا يكونان في ظلام دامس. أولا، رأته كما كان الوضع منذ عام مضى، قبل أن يرتبط بها؛ رأته تيد ماكافالا مدرس العلوم الذي لم يشارك في الحرب، مع أنه لم يبلغ الأربعين. وكان لديه بالفعل زوجة وثلاثة أبناء، وربما كان قلبه يصدر صوتا غريبا ينم عن مشكلة به، أو شيئا من هذا القبيل، وكان يبدو مجهدا بالفعل. رأته رجلا طويل القامة، منحني الظهر قليلا، أسود الشعر، ذا بشرة سمراء وتعبيرات ساخرة ومضطربة، وعينين منهكتين ولامعتين. ويمكن افتراض أنه رآها بنفس النظرة، وهي واقفة هناك، تبدو مترددة وخائفة، ومعطفها على ذراعها وحذاؤها في يدها، إذ جال بخاطرها أنه لن يكون من الحكمة تركهما في غرفة إيداع ثياب المعلمين. كان ثمة احتمال لمدة لحظة ألا يمكنهما تغيير شعور أحدهما تجاه الآخر، ألا يرى كل منهما الآخر بصورة مختلفة، ألا يتذكرا كيف تغيرت نظرة كل منهما للآخر، ألا يمنحا هذه المشاعر. وإذا كان الأمر كذلك، فماذا كانا يفعلان في ذلك المكان؟
نظرت إليه تارة أخرى وهو يغلق الباب، رأت جانب وجهه وانحدار عظم وجنتيه، وكم كان انحدارا بديعا وحادا على بشرة ملساء. لاحظت أنه أغلق الباب خلسة وبطريقة تنم عن شيء من قسوة الطباع. وحينها عرفت أنه ما من فرصة ستحول دون وقوع التغير في مشاعر كل منهما تجاه الآخر. فقد حدث بالفعل.
ثم حدث المعتاد؛ لعقات وضغطات، ألسنة وأجساد، مداعبة وألم وطمأنينة، دعوات وتنبيهات. اعتادت أن تتساءل خلال الفترة التي قضتها مع بول عما إذا كانت العلاقة الحميمية كلها خدعة، محض وهم، وعما إذا كان أحد يشعر حقا بما يتظاهران بالشعور به، لأنها بالطبع هي وبول لم يشعرا بما كانا يتظاهران بالشعور به. كان بينهما شعور قابض أثناء العلاقة مليء بالاعتذارات والقيود والإحراج، وأسوأ ما في الأمر التأوهات والمغازلات ومحاولات بث الطمأنينة التي يجدان نفسيهما مضطرين لتقديمها. ولكن لا، لم تكن خدعة، بل كان كل شيء حقيقيا، وقد تخطى الحدود؛ كما أن دلالات حدوثه - العينين المغلقتين، والرعشة الشديدة وكل المشاعر الحمقاء البدائية - كلها كانت أيضا حقيقية.
قالت لتيد: «كم شخصا آخر يعرف بهذا الأمر؟» «ليسوا كثيرين، ربما عشرة أو أكثر.» «لا أعتقد أن الأمر سينتشر.» «حسنا، لن يكون مقبولا للناس.»
كانت المسافة بين الأرفف ضيقة، وكانت هناك معدات كثيرة قابلة للكسر. فلماذا لم تفكر قليلا في ترك حذائها ومعطفها ووضعهما في مكان ما على الأرض؟ الحقيقة أنها لم تتوقع أنهما سيتعانقان كثيرا ، أو بالأحرى أنه ينوي عناقها بهذه الطريقة، لقد اعتقدت أنه أراد إخبارها بشيء فحسب.
Página desconocida