أَغَارَ عمرُو بن كُلْثُومٍ، في جَمْعٍ من بني تَغْلِبَ، على بني ذُبْيَانَ، بموضِع يقال له خَوٌّ، والذَّنائِب، فقاتَلوه قِتالًا شديدًا، ثم إِنّ بني ذُبيان انهَزَمتْ، وحَمَل عَمْرٌو على حُذَيفةَ بنِ بَدْرٍ فأَسَرهُ، وأَصابوا أَسْرى، ونَعَمًا كثيرًا، وسَبَايَا، فلمّا وَافَى بِهِ بني تَغلِبَ نَاشدوه في قَتْل حُذيفة، وأَشارُوا عليه بذلِك، فأَبَى عَمْرٌو، وقال حُذيفة أَنا أَشتَرِي نَفْسي منك بأَلْفِ ناقَةٍ حمراءَ، سَوْدَاءِ، المُقْلةِ، فقال عَمْرٌو: أَنتَ سَيّدٌ من ساداتِ مُضَر، وأَنا أُحِبُّ الاصطناعَ، إِلى مِثلِك، فأَطْلَقَه، وجَزَّ نَاصِيَتَهُ، ورَدَّهُ إِلى قَوْمه، وقال في ذلك عمرٌو:
أَلَمْ تَرَ أَنّني رَجُلٌ صبورٌ ... إِذا ما المَرْءُ لم يَهْمُمْ بصَبْرِ
وأَنِّي بالذَّنائِبِ يَوْمَ خَوٍّ ... مَننْتُ على حُذَيفَةَ بَعْدَ أَسْرِ
ولَوْ غَيْرِي يَجِيءُ به أَسيرًا ... لَنَالَ بهِ رَغيبةَ ذُخْرِ دَهْرِ
ولكنّي مَنَنْتُ وكان أَهْلًا ... لِما أَوْلَيْتُ في حَمَل بن بَدْرِ
وقال حُذَيفةُ يشكُر عَمرَو بن كُلْثومٍ:
إِنّي لمُثْنٍ وإِنْ كانَتْ عَشِيرتُهُ ... خُزْرَ العُيُونِ عَلى عَمْرِو بنِ كُلْثُومِ
المُطْلِقِ الغُلَّ عَنِّي بَعْدَ ما شَنَجَتْ ... كَفِّي وما ذَاكَ مِنْ عَمْرٍو بمَكْتُومِ
إِذْ قَامَ من جُشَمٍ عُزْلٌ تُناشِدُهُ ... قَتْلِي وتَأْمُرُهُ بالذّمِّ واللُّومِ
فاخْتَارَ مِنَّتَه عِنْدِي وقال لَهُمْ ... كُفُّوا فَمَا مَنْ رَجَا عَفْوِي بمَحْرُومِ
أَمْسَى حُذيفةُ مَوْسُومًا وأُسْرَتُه ... بالشُّكْرِ ما اسْتنَّ آلٌ في الدَّيَامِيمِ
إِنْ يَشْكُرُوكَ فإِنَّ الشُّكْرَ مَكْرُمَةٌ ... أَوْ يَكْفُرُوك فما شُكرِي بمَذْمُومِ
يَومُ وَادِي الأَخْرَمَينِ
لبني تَغلِبَ على صُدَاء وهي جُمْجُمةُ مَذْحِج خَرجَ عَمْرُو بن كُلثوم في ليلةٍ مَطِيرة، فسمعَ رَجُلًا يَتغنَّى ويقول:
أَلا قُلْ لعَمْرٍو ضلَّل اللهُ سَعْيَهُ ... وعَمْرٌو مَتى مَا يُمْنحِ النُّصْحَ يَلْجَجِ
أَتُنْحِي على أَحْيَاءِ قيْس وخِنْدِفٍ ... وتَعْدِلُ عَنْ شُمِّ العَرَانِينِ مَذْحِجِ
وتَخْشَى ابنَ لَيْلَى أَنْ تَنَالَ رِمَاحُهمْفَوَارِسَكَ الأَدْنَيْنَ يا عَمْرُو فاهْتَجِ
فتَبيَّنهُ عَمْروٌ، فإِذا هو شَيخٌ من بني جُشَم، وأَخْوالُه صُدَاء من مَذْحِج. فحَلَف عَمْرٌو لا يَغْسِلُ رأَْسَه حتَّى يَغْزوَ صُدَاء، وهم يومَئذٍ هَامَةُ مَذْحِج، قد اتَّقاهَا النّاسُ، فخرج في عِدَّةٍ من بني تَغلِبَ، وكان الطريقُ بَعِيدًا فكَلَّتْ خيْلُه، وصَبَحهم بوَادِي الأخْرَمَيْنِ، وخَرَجتْ إِليه صُدَاء، ورَأْسُها جَحْشٌ الصُّدَائيُّ، وهو شيخٌ كبيرٌ قد انحنَى وكان يُفضَّلُ على سائرِ فُرْسَانِ مَذْحِجِ، فنادَى جَحْشٌ: أَيْن عَمْرُو بن كُلثوم؟ فقال عَمْرٌو: إِلي يا جَحْشُ، فقال جَحْشٌ:
يا عَمْرُو يا عَمْرُو أَقِمْ لي صَدْرَكَا
يا عَمْرُو يا عَمْرُو أَبِنْ لي أَمَركا
لعَلَّ ما أَبْصَرْت مِنّي سَرَّكَا
يا طالَ ما غَرَّك ما قدْ غَرَّكَا
فحمَل عليه عَمرو بن كُلثوم وهو يقول:
يا جحْشُ يا جَحْشُ مَنَتْكَ الأَسْبابْ
إِنْ تَكُ وَثَّابًا فإِنِّي وَثّابْ
والنّاسُ أَذْنابٌ ونحن أَرْبابْ
أَنا ابْنُ كُلْثومٍ وجَدِّي عَتّابْ
واختلفَا طَعْنَتْين، فَطَعَنْه جَحشٌ فصرعَهُ، وحَمَاه الأِودُ بن عمرٍو في فَوارِسَ من بني جُشَمَ فلما استوَى عَمْرٌو على ظهْرِ فرشِه عَاوَدَ القِتال، فدَامَتِ الحَربُ، واشتدَّت بَقيَّةَ يَومهم، ثمّ إِنّ عَمْرًا حَمَل على جَحْشٍ فطعَنه فقتلهُ وقُتِل على دَمِهِ سَبعون رجُلًا. وأَصَابَتْ بنو تغلِبَ الأَسْرى والنّساءَ والنَّعَم، فقال عَمرو بنُ كُلثوم في ذلك:
ليْجزِ اللهُ من جُشَمَ بنِ بَكْرٍ ... فَوَارِسَ نَجْدةٍ خَيرَ الجَزَاءِ
1 / 26