59

ونهضة الأمم أو ثورتها هما جيشان الحياة في نفوس الملايين، وسيرة الفرد العظيم معرض لحياة إنسان ممتاز بين سائر الناس.

وكلها أمواج تتلاقى في بحر واحد، وتخرج بنا من الجداول إلى المحيط الكبير.

ولم أكن أعرف حين هويت القراءة أنني أبحث عن هذا كله، أو أن هذه الهواية تصدر من هذه الرغبة.

ولكنني هويتها ونظرت في موضوعات ما أقرأ فلم أجد بينها من صلة غير هذه الصلة الجامعة، وهي التي تتقارب بها القراءة عن فراشة، والقراءة عن المعري وشكسبير.

لا أحب الكتب لأنني زاهد في الحياة.

ولكنني أحب الكتب لأن حياة واحدة لا تكفيني ... ومهما يأكل الإنسان فإنه لن يأكل بأكثر من معدة واحدة، ومهما يلبس فإنه لن يلبس على غير جسد واحد، ومهما يتنقل في البلاد فإنه لن يستطيع أن يحل في مكانين، ولكنه بزاد الفكر والشعور والخيال يستطيع أن يجمع الحيوات في عمر واحد، ويستطيع أن يضاعف فكره وشعوره وخياله كما يتضاعف الشعور بالحب المتبادل، وتتضاعف الصورة بين مرآتين. (3) الكتب المفضلة عندي

هذا موضوع جليل، ولكن هل تعرف أنني أفضل قراءة كتب فلسفة الدين، وكتب التاريخ الطبيعي، وتراجم العظماء، وكتب الشعر؟

إنني أقرأ هذه الكتب وأعتقد أن العلاقة بينها متينة، وإن كانت تفترق في الظاهر؛ لأنها ترجع إلى توسيع أفق الحياة أمام الإنسان ... فكتب فلسفة الدين تبين إلى أي حد تمتد الحياة قبل الولادة وبعد الموت. وكتب التاريخ الطبيعي تبحث في أشكال الحياة المختلفة وأنواعها المتعددة، وتراجم العظماء معرض لأصناف عالية من الحياة القوية البارزة، والشعر هو ترجمان العواطف، فإنني أفضل من الكتب كل ما له مساس بسر الحياة. •••

وتسألني ما هو سر الحياة، فأقول على الإجمال إنني أعتقد أن الحياة أعم من الكون، وأن ما يرى جامدا من هذه الأكوان أو مجردا من الحياة إن هو في نظري إلا أداة لإظهار الحياة في لون من الألوان أو قوة من القوى ... والحياة شيء دائم أبدي أزلي، لا بداية له ولا نهاية ...

فإذا كنت تستطيع أن تعرف سر الله عرفت سر الحياة، ولكننا مطالبون بأن نحفظ لأنفسنا في هذا المحيط الذي لا نهاية له أوسع دائرة يمتد إليها شعورنا وإدراكنا. والكتب هي وسائل الوصول إلى هذه الغاية، وهي النوافذ التي تطل على حقائق الحياة، ولا تغني النوافذ عن النظر.

Página desconocida