فكل ما تذكرته قبل العاشرة فهو من ذكريات «الانتباه الأول» ... ومن نوع الحوادث التي تأتي وحدها متميزة بين غيرها، ولا تأتي مع حوادث «الوتيرة»، والسياق المتكرر المملول ...
في الثالثة من عمري
كنت في الثالثة يوم جربت رحلتي النيلية للمرة الأولى، وكانت السفينة تضطرب بين الشاطئين، ويضطرب معها الشراع الذي يحاول أن يستقبل مهب الريح على غير جدوى، وكان بيننا وبين ضريح ولي الله الذي نقصده لوفاء نذر الفدية، والزيارة أكثر من عشرة أميال، فوقفت السفينة على الشاطئ الشرقي، وخرج النواتية يطبخون طعامهم تحت نخلات هناك، وكانت لي في تلك الطبخة حصة القهوة التي تعودت أن أشربها ملونة بلون البن، مشبعة بالسكر، كأنها تعلة من تعلات الفطام.
ليس من استبداد الذاكرة - إذن - أن يثبت هذا المنظر في الثالثة، وأن تزول بعده عشرات المناظر من الرحلات النيلية أو البرية، التي تمر على وتيرتها مع تيار الحوادث والأخبار ...
وكنت في السابعة يوم عصف وباء الهيضة (الكولرا) بأسوان، وكاد الحي الذي نقيم فيه أن يخلو من سكانه بين مصاب وميت ومهاجر، ومعتكف يحاذر زبانية الحجر الصحي محاذرة السائر آجام السباع ...
ويرن في أذني إلى الساعة صياح النواتية إذ يعبرون النيل ويسألون: كم أسعار اليوم؟ فيجيبهم زميل من المرسى المهجور يفهم معنى السؤال، ويعلم أنهم يسألون بهذه الكناية وما شابهها عن عدد المصابين من أول النهار: جنيه مصري؛ أي مائة ...
بنتو ... أي ثمانين ...
بندقي ... أي خمسين ...
وهكذا حتى هبط السعر إلى الريال «الشنكو»، والريال المجيدي، «وأم خمسة»، أي القطعة ذات الخمسة قروش!
منظر آخر لا نظن أن الذاكرة تحابيه، ولا نظن محاباتها إياه - إن صحت الشبهة ضربا من الاستبداد.
Página desconocida