وقد تعوضت عن كل بمشبهه
فما وجدت لأيام الصبا عوضا
لأن الأداة هنا موجزة سريعة والمحصول مسهب باق، ولكنك لا تصل في القصة إلى مثل هذا المحصول إلا بعد مرحلة طويلة في التمهيد والتشعيب، وكأنها الخرنوب الذي قال التركي عنه - فيما زعم الرواة - إنه قنطار خشب ودرهم حلاوة! ... أما مقياس الطبقة التي يشيع بينها الفن فهو أقرب من هذا المقياس إلى أحكام الترتيب والتمييز، ولا خلاف في منزلة الطبقة التي تروج بينها القصة دون غيرها من فنون الأدب، سواء نظرنا إلى منزلة الفكر أو منزلة الذوق، أو منزلة السن، أو منزلة الأخلاق، فليس أشيع من ذوق القصة، ولا أندر من ذوق الشعر والطرائف البليغة، وليس أسهل من تحصيل ذوق القصة، ولا أصعب من تحصيل الذوق الشعري الرفيع حتى بين النخبة من المثقفين. •••
قال صاحبي: على أنهم قد أثاروا في أوائل هذا القرن ضجة حول القصة بالغوا فيها أيما مبالغة، وخيلوا إلى الناس أن فنون الأدب كلها عالة عليها، وأنه لا كتابة لمن ليست له قصة.
قلت: لقد فعلوها حقا ، وكان ذلك على أثر ضجة أخرى هي ضجة الكلام الكثير في الدراسات النفسية و«السيكولوجية» بأنواعها، فبدا لبعضهم أن القصة هي المعرض الوحيد لتطبيق هذه الدراسات في الكتابة الأدبية، وأنها هي الوسيلة القريبة لفهم العلاقات بين النفوس البشرية، وتفسير المواقف والمشكلات التي تنجم عن غرائب الطباع، ولم تخل ضجة القصة من أسباب قوية غير «السيكولوجية»، وكثرة الكلام فيها، فإن شيوع القراءة بين الدهماء قد أشاع معها القصة التي تفهمها الدهماء، وتؤثرها على غيرها من الفنون الأدبية، وجاء شيوع الصور المتحركة بعد شيوع القراءة، فأملى للدهماء في هذه النزعة أو هذه «الهواية» حتى غلبت عليهم، وسرت منهم إلى النقاد الذين يتبعون الجماهير، ويسمون نزواتها بروح العصر وهي نزوات بغير روح!
ونظرت إلى صاحبي فإذا هو يضم ما بين الخنصر والبنصر، ويقول: ها نحن أولاء نقلب صفحة جديدة، أو نفتح كتابا جديدا ... وها نحن أولاء نتكلم بالقول الصريح، وبالقول المستعار في وقت واحد، فما أبعد النقلة ما بين الخنصر والبنصر في عالم الكتب، ما أبعد النقلة بين الأرض والسماء، وبين المعاش والمعاد!
قلت: كلاهما يتصدى لعمل واحد، وهو تفسير الكون، وترتيب المعاش في هذه الدنيا على هذا التفسير. •••
وكان صاحبي قد انتقل كما قال، فيما بين الخنصر والبنصر إلى عالم السماء: عالم البحث في الله، وسر الوجود - وأصل الحياة، وما قبل الحياة، وما بعد الحياة ...
وكان على ديدن الكثيرين يرى أن هذا البحث فيما وراء الطبيعة من الوقت الضائع أو فضول القول، فسألني وهو يتحرج قليلا؛ لأنه يعلم أنني لا أستضيع وقتا أنفقه في بحث هذه الأمور، ما فائدة هذا كله وهو غموض في غموض، وفروض من وراء فروض؟!
ألا يمكن أن يعيش الإنسان على هذه الأرض وهو في غنى عن هذه الفلسفة التي يسمونها سر الوجود؟!
Página desconocida