فأخذ الرجل النقود صامتا، ونظرت إلى وجهه فوجدته ينطق غضبا وغيظا.
فناديت في حنق: حمادة!
فتحرك وأراد القيام ولكنه لم يقدر، فأسرعت إليه لأساعده، وكان جسمه لا يكاد يتماسك، ثم استطاع آخر الأمر أن يقوم مستندا على كتفي وقال بصوت ضعيف: سيد أفندي؟
فقلت: أتقوى على السير؟
فهز رأسه ولم يجب وسار يجر رجليه وأنا أكاد أحمله، ووجدت صعوبة كبرى في أخذ أنفاسي؛ لأن رائحته الكريهة كانت تنفذ إلى خياشيمي.
وكان من حسن الحظ أن مرت بي عربة نقل مما يحمل القطن، فصحت أنادي السائق أن يقف ليساعدنا، ولم يخيب الرجل رجائي، فوقف وجاء يساعدني، وسألت حمادة: أين يقيم؟ فأجاب في صوت ضعيف ساخر: لا أعرف.
فقلت لصاحب العربة: على طول.
وعزمت على أن أذهب بذلك العبء المخزي إلى أقرب قهوة، وأتركه بها ما دام قد أفاق، ووصلنا بعد قليل إلى قهوة صغيرة، فأجلسته بها، وبعدت عنه قليلا؛ لأملأ صدري من الهواء، وفي نفسي مشاعر شتى من الرثاء والاشمئزاز والعطف والنفور، وجاء خادم القهوة فطلبت له فنجانا من الشاي وقطعة من الليمون، ووقفت حتى رأيته يشرب، وكان وجهه ما يزال مثل وجه الميت وعيناه غائرتين وشدقاه منطبقين وجلد وجهه مكرشا وعليه خطوط زرقاء عميقة، وتبسم لي شاكرا فبرزت أسنانه كأنها في جمجمة رمة بالية.
وقال بصوته الحاد: لا شك أني سببت لك تعبا شديدا، أنا منحوس كما قلت لك يا سيد أفندي، ولكني لم أقل لك أتعب نفسك. ما كان يضرني شيء لو بقيت في الطريق حتى أفيق، هكذا أفعل كلما سقطت، وهذا ما أستحق، لا تؤاخذني فإني لا أحب أن يرحمني أحد، أكنت تسألني: أين أسكن؟
ثم ضحك ضحكة عصبية واستمر يقول: أين تقيم الكلاب الضالة؟ أين تقيم الحشرات؟ أقيم مثلها حيث أجد جحرا يظلني، في هذه المواخير التي أجد فيها مأوى، أراك تدير وجهك عني، لست أخشى أن تحتقرني ولا أطلب منك ألا تحتقرني، افعل ما شئت فلست أقدر أن أحتقرك أنا الآخر. تفضل أنت يا سيد أفندي. هل دفعت ثمن الشاي؟ هات لي قرشين أولا.
Página desconocida