فقال: أنت تسيء الظن بي دائما، أنا أتمنى لك خدمة وأنت لا تثق في أبدا، ولو كان غيرك ما كنت أهتم أبدا ولكنك لا تصدق. السيد أحمد جلال يقدرك يا سيد أفندي ولو كان غيرك قال كلمة واحدة من كلامك في ليلة رمضان ... كان طار في ساعتها، هو يحبك بالتأكيد ويثق فيك وهو على حق، وهي أيضا بغير شك يا سيد أفندي.
وشعرت كأن حجرا صدمني وعجبت كيف ساقني هذا الخبيث إلى هذا المدى في الحديث، وتمنيت لو أنني انكمشت حتى أختفي من وجهه السمج أو أن أقوم مسرعا وأتركه ورائي ولكني مع ذلك بقيت جالسا مهتما بسماع كل ما عنده، كأن شيئا يمسكني برغمي، ولست أدري ما الذي سل مني الإرادة وعقد لساني فلم أتحرك ولم أتكلم بل نظرت إلى وجهه الغليظ جامدا كأني في كابوس ثقيل، وأعاد كلمته قائلا: قلت لك الدنيا حظوظ. دعنا نحن في بؤسنا.
ووجدت نفسي أندفع قائلا: اسمع أيها الوغد، أعرف أنك لا تريد إلا أن تملأ قلبي غيظا بهذا الحديث، وأحب أن أملأ قلبك الأسود غلا وحقدا، اعلم أني لا أهتم بشيء مما تقول ولا أعبأ بمحمود ولا بغير محمود، وأشعر بأني لا أقل عن أحد ولا يهمني ما تقول إن الدنيا حظوظ. قل عن نفسك ما تشاء ولكن لا تحشرني معك. هل تظن أني أقل من أحد؟
ما معنى حظوظ وغير حظوظ؟ لو كنت أريد ... وترددت فلم أنطق بما كنت أريد.
فقال مصطفى: الحق علي يا سيد أفندي. هذا جزاء المودة والإخلاص الحق علي يا سيدي والناصح دائما مكروه.
فقلت: ما الذي جعلك تتكلم عن محمود خلف؟ ولماذا تقول لي إن الدنيا حظوظ وإننا بؤساء، كن بائسا أنت إذا شئت ولكني لا أرى أني أقل من أحد، وهل يبعد أن أصير غنيا أنا الآخر؟ لماذا لا أكون غنيا مثل السيد أحمد نفسه.
فضحك ضحكة عالية وقال في وقاحة: قريبا يا سيد أفندي، لا مانع أبدا، تشجع وأسرع قبل فوات الوقت.
ولولا أني خشيت من لفت أنظار من في القهوة ومن تناقل الأحاديث الكاذبة وإثارة قصة طويلة في المدينة، لقمت إلى ذلك الوغد وأفرغت فيه غيظي بطريقة لا ينساها، ولكني بلعت شتائمي وكتمت حنقي وقمت من مجلسي مسرعا فلبست سترتي وخرجت بغير أن أنظر إليه، وكان المطر ما يزال يقطر فسرت في الطريق لا أحس بردا ولا أبالي المطر ولا الوحل وفي عقلي سؤال واحد متشعب وهو: «أحقا خطبها محمود خلف؟ وهل يرضى أبوها؟ هل ترضى هي؟ أهي جارية تباع من أجل ثروة الباشا؟»
ولما صرت في غرفتي أخرجت من جيبي قصاصة الورق التي بعثتها منى، وأخذت أقرؤها وأعيد قراءتها وأنا حزين بائس، ثم قبلتها ووضعتها مترفقا في ظرف وجعلتها في مصحف صغير أضعه في درج مكتبي.
وجاءت أمي تدعوني للغداء فكذبت عليها قائلا إني أكلت، وقمت إلى سريري فاستلقيت متعبا مضطربا في حالة بين النوم واليقظة تشبه الذهول أو الدوار، وأخذت الرؤى تتوالى علي كأنها حقائق، فرأيت كأني أعوم في بحر صاف أشق ماءه في رفق وهدوء، ثم كان البحر يتحول فجأة إلى هواء أسبح فيه مثل الطير ويملؤني شعور بالاستعلاء وأنا أشرف على الأودية والجبال في اطمئنان ثم تهب عاصفة فأجد نفسي أجاهد في موج عال له رءوس بيض تشبه أكوام القطن وتعلو في أنفي رائحة عطنة تشبه الروائح التي أعرفها في حارات دمنهور بعد نزول المطر، فأكاد أختنق وأقوم من غفوتي لاهثا، ولكني لا ألبث أن أرى كأني في براح واسع في آخره حديقة مزدهرة أريد أن أذهب إليها فإذا لصوص يخرجون علي ويهاجمونني ويتقدم مني أحدهم بوجه غليظ يريد أن يطعنني بخنجره، ويحاول أن يأخذ مني الورقة التي بعثتها منى، فأهجم عليه وأنزع منه الخنجر وأرفعه لأضربه فيصيح صيحة عالية بصوت مصطفى عجوة فأقوم منزعجا، ثم أعود مرة أخرى فتبدو لي منى من بعيد فأسرع نحوها لأعتذر إليها ولا أدري لماذا أعتذر، فأقف أمامها صامتا أمد إليها يدي، ولكنها تختفي فأشرد وراءها في اتجاهات شتى حتى أرى بابا مغلقا فارتد عنه حانقا، ولكني أجد الأرض زلقة فأحاول أن أقفز منها إلى سطح رخامي أسفل مني بنحو مترين فأرى كلابا غريبة الشكل مخيفة تنظر نحوي مهددة فأستيقظ وقلبي يخفق خفقانا شديدا، وكان المساء قد بدأ يهبط بظلامه فوثبت من سريري لأوقد المصباح وسمعت صوت أمي تناديني: أصحوت يا سيد؟
Página desconocida