كانت أصداء الصرخات الوحشية التي أرسلها الفتى المسكين في الليل ما تزال ترن في سمعي وتصدع قلبي، وتمنيت لو استطعت البكاء، ولكني كنت أختنق بغير دموع، وكانت الليلة التالية من تلك الليالي الحارة الراكدة التي يتعثر فيها الخريف في شهر سبتمبر، وزادها شدة لسع البعوض الصغيرة الذي كان ينتشر مثل سحابة في الغرفة، واستلقيت كأني ضال مجهد في غابة كثيفة لا ينفذ البصر فيها، ويتصاعد من خلالها زئير الوحوش، واجتذب نور المصباح بصري كما كان يجتذب أسراب البعوض الصغير، وكانت تنبعث منه إلى عيني خيوط ملونة من الضوء تنساب متراقصة وتختلط فيها الحمرة بالزرقة والخضرة، وتتشكل في رسوم هندسية بديعة، وكلما أغمضت عيني ثم فتحتها، خيل إلي أن صورا ملونة تتطاير حول الصباح وتسبح في بطء، وتتواثب كالفراشات ثم تخبو ألوانها شيئا فشيئا حتى تزول، فاستغرقت في النظر إليها، وتصورتها كائنات خفية من أرواح جاءت تسبح في جو الغرفة كالجنيات الصغيرة المرحة التي صورها شكسبير في القصة التي كنت أقرؤها في الليلة السابقة، ولم لا؟ إن الأوهام تخفف عن البؤساء كثيرا مما يعانونه من الأثقال ولو إلى حين، وما معنى الحقيقة التي نتحدث عنها؟ ألا تكون الحقائق حقائق إلا إذا لمسناها باليد أو ذقناها بالفم؟ وما زلت مستغرقا في تأمل هذه الصور حتى سري عني بعض الشيء، وبدأت أسأل نفسي: «إلى متى أبقى هنا سجينا؟»
ثم هبت نسمة خفيفة قبل الصباح، فلطفت من زمتة الحر، وأحسست بأجفاني تسترخي.
الفصل التاسع والعشرون
كان الصباح التالي ألطف هواء، وكانت الساعات التي نمتها كافية لإعادة النشاط إلى جسمي، فاستقبلت اليوم هادئا منشرحا، وما أعجب طبيعة الإنسان! إننا ننظر إلى العالم، ونحسب أننا نراه خارجنا، وما هو إلا في داخلنا نحن، كانت الغرفة الضيقة هي هي والنافذة الصغيرة ذات القضبان الحديدية والأرض الحجرية الغبراء والسقف الأسود المطأطئ، كل ذلك كان باقيا لم يتغير، ولكن شتان بين صورة ذلك كله في عيني في الليلة الماضية وصورتها عندما طلع الصباح.
ولما جاء حمادة لزيارتي في الساعة العاشرة، استقبلته مشتاقا مستأنسا؛ إذ لم أره منذ أيام، ولكنه كان على غير عادته فاترا حزينا، وبادرني قائلا: أراك في خير يا سيد أفندي.
فقلت في دهشة: خير إن شاء الله.
فأجاب منكسرا: مسافر! راجع لبلدي يا عم. كفاية مصر وما في مصر.
فقلت: ماذا حدث؟
فأجاب: لا يا عم! ما لي أنا وما لها؟ أنا من هنا وهي من هناك؛ حد الله يا سيد أفندي، كانت ليلة زفت. تصدق يا سيد أفندي أن فطومة تقول لي كل هذا؟ يا فلاح، يا دون، يا حمار، ولا مؤاخذة يا أستاذ سيد.
فقلت محاولا تخفيف الأمر: أهذا كل شيء؟
Página desconocida