152

وكنت أستمع إلى دوي العاصفة وأنا خاشع لا أتحرك ولا أنطق، ومن العجيب أني لم أشعر بالإهانة، بل لعلي كنت أقرب إلى الاغتباط، وأردت إلى أن أهدئها فقمت عن الكرسي باسما وقلت في بساطة: أشكرك يا فطومة، أإلى هذا الحد تكرهينني؟ إلى هذا الحد بلغ غضبك علي؟ الحق علي يا فطومة وأنا آسف وأقر لك بأني مخطئ.

ولكن هذا الاعتذار لم يهدئ غضبها، بل زادت قسوة في تعبير وجهها، واستمرت تقذفني بهجمات أشد وأعنف حتى ختمت قولها بدفعة هستيرية من البكاء، وكانت تقول في بكائها: الذنب ذنبي أنا، فطومة التي تأتي إليك كل يوم بصينية الإفطار وتغني لك ونجلس على الأرض عند رجليك، فطومة التي تقطع أصابعها في مسح غرفتك وغسل ملابسك وترقيع جواربك، فطومة التي تتمنى رضاك وتعرض عليك الذهاب للسنما، لا تستحق أن تلتفت إليها، والآن فقط تعتذر بأنك مخطئ وتقول: «الحق علي يا فطومة!» وانتهى الأمر كأني طفلة، كلمة لا تكلفك أي تعب تمن بها علي كأني سائلة أطلب منك الإحسان، لا يا سي سيد، وفر الإحسان لغيري ووفر الاهتمام لفتاة أخرى تليق بمقامك.

وانصرفت مسرعة قبل أن أتمكن من التمسك بها والاعتذار إليها حتى ترضى، وتركتني واقفا مثل شخص تعرضت له جنية وتركته مخبولا، وتسلقت على أشعة القمر.

وعدت إلى مجلسي كاسف البال حائرا، وجثم على صدري ضيق أشد أضعافا مما كان فيه، وغمرني شعور بالخزي كأني ارتكبت جرما، وكانت ألفاظ فطومة ترن في سمعي كأنها ضربات سوط وتأبى إلا أن تعود إلى كلما حاولت أن أبعدها، وكان رنين ضحكتها الساخرة يجعل قلبي يغوص في صدري، وقولتها: «كذاب!» التي خرجت من حلقها كانت كالقذيفة، لست أدري كيف تمكنت هذه الفتاة أن تعرف ما كان يدور في نفسي عندما هممت أن أقول لها: «إنك ساحرة في هذه الزينة وهذا الحلق الكبير!» مع أني لم أستطع أن أجد الألفاظ التي أنطق بها، هل كانت تفتش في أعماق صدري حتى عرفت أني تعمدت الكذب والهروب من حسنها الرائع المخيف؟

وأخذت ألوم نفسي على الرهبة التي شلت حركتي عندما وقع نظري عليها، فهل كان ينبغي لي أن أنكمش هكذا عندما رأيتها؟ ماذا جعلني أنظر إليها مأخوذا كما ينظر الصوفي المتعبد إلى كأس من الشراب المثلج وهو صائم في يوم صائف؟ الصوفي يتحمل العطش والحر ويرفض الكأس الحلوة المثلجة من أجل الجنة التي يعيش من أجلها، وأما أنا فلم تكن لي جنة أعيش من أجلها!

لم أكن أكثر من بائس يستعبد نفسه من أجل العبودية، ويشقي نفسه من أجل الشقاء ولا يرجو من وراء ذلك كله جزاء.

وسنح لي من خلال حيرتي وحنقي خاطر كأنه صوت يهمس في أذني مترددا خيفة أن يسمعه أحد غيري، خطر لي أن أنزل من ساعتي إلى شقة فطومة فأقف عند بابها أرجوها وأستسمحها حتى ترضى عني، ونظرت إلى الساعة فوجدتها العاشرة إلا ربعا وكانت أنوار القاهرة تتصاعد من بعيد صاخبة حارة.

نعم فما يزال الوقت مناسبا والناس لا ينامون في الصيف في مثل هذه الساعة، ولكني لم أتحرك من مكاني كأن ذلك الخاطر لم يكن سوى فكرة مجردة لا يقصد من ورائها عمل، وأخذت أسأل نفسي لماذا لم أنفذ عزمي على الانتقال من هذا المسكن مع أني وكدت ذلك العزم في ضميري مرة بعد مرة، ولماذا تحملت الحياة في غرفتي هذه المسكينة مع كل ما عانيته من المشقة في خدمة نفسي بعد انقطاع فطومة عني؟ ولست أحب أن أخفي أنني أخذت أتبين في تلك الساعة حقيقة لم أستطع أن أكابر فيها؛ لأنها ظهرت لي واضحة بعد أن كانت خافية عني في المسارب العميقة من نفسي، وهكذا نحن جميعا لا نعرف من أنفسنا إلا ما نريد أن نعرف، حتى تتبين لنا فجأة بعض الحقائق التي كنا نجهلها إذا أثارتها هزة قوية من أعماقنا، والقليل منا من يستطيع أن يتخلى عن المكابرة ويقر بالحقيقة التي كان يجهلها، ولكني لم يكن لي بد من أن أعترف بأني كنت متعلقا بهذه الفتاة الجاهلة الحمقاء الوحشية السخيفة، كنت أتعلق بها بجانب واحد من طبعي، ولكن الجانب الآخر كان يعرف أنها لم تخلق لي ولم أخلق لها.

كنت أتداري وراء فكرة العطف عليها أو الرثاء لها أو الإحسان إليها، وكانت كل هذه المظاهر تخفي عني ما تحتها، وهو أني كنت متعلقا بها تعلق الطبيعة التي لا تبالي العقل في تصرفها.

عند ذلك فقط عرفت كيف أفرق بين الحب والميل الغريزي، بين الطبع الذي يختار والطبع الذي ينجذب، بين أفق الحياة العليا التي تجمع الكل إلى الكل أبد الدهر وبين أفق الحياة الدنيا التي تدفع البعض إلى البعض ما بقيت الدفعة، بين السلام الذي يسري بين روحين عند التقاء نصفين شقيقين وبين الاضطراب والقلق الذي يفضي إليه تدوال التجاذب والتنافر بين طرفين غير متوافقين، عند ذلك فقط عرفت كيف أفرق بين فطومة ومنى، كنت أنجذب إلى فطومة ومع ذلك كنت أخشاها وأنفر منها، كنت متعلقا بها ولكني كنت في الوقت عينه أنكمش عنها وأرهب صلتي بها، كانت فطومة أنثى ولكنها لم تكن حبيبة، وما أشد خطأ من يخلطون بين التعلق وبين المحبة الكاملة!

Página desconocida