9
قامت دار التنوير اللبنانية بنشر رسالتي للماجستير في طبعتها الأولى سنة اثنتين وثمانين، تحت عنوان «الاتجاه العقلي في التفسير»، ونشرت سنة ثلاث وثمانين رسالتي للدكتوراه تحت عنوان «فلسفة التأويل»، وقد لاقى الكتابان استحسانا لهاتين الدراستين الأكاديميتين. ونشرت ترجمتي في مجلة «فصول» بمجلدها الثالث، العدد الثالث، لدراسة «إيكيناوم أو هنري» عن «نظرية القصة القصيرة». وكان الروائي «إلياس خوري» قد أصدر كتابه النقدي الثالث «الذاكرة المفقودة» عن مؤسسة الأبحاث العربية بلبنان، عام ثلاثة وثمانين، فقدمت عرضا نقديا للكتاب في مجلة «فصول» بمجلدها الرابع، العدد الأول، سنة أربع وثمانين. المؤلف يطرح قضيته في المقدمة ثم يترك القارئ يعاني البحث عن الإجابة وسط تفاصيل واهتمامات تغطي نشاط المؤلف عشرة أعوام في الصحف والدوريات؛ فيبدأ بتحديد معنى عنوان الكتاب «فقدان الذاكرة» من الواقع العربي المتجسد العيني؛ الحروب اللبنانية التي ليست إلا حالة عربية شاملة تنبئ عن انهيار المشروع الحداثي العربي؛ مشروع تحديث للدولة لا تحديث للمجتمع. وبين النموذج الغربي والنموذج العربي الإسلامي القديم، ضاع الحاضر. والمؤلف يتجاهل أن الثقافة وإن كانت في جوهرها انعكاسا للواقع، إلا أن لها استقلالها الخاص وحركتها الذاتية النابعة من قوانينها، وكذلك الأدب والإبداع.
معضلة المنهج عند «إلياس خوري» في المساواة بين مستويات الواقع/الثقافة/الأدب ، وتحليله لأزمة الثقافة، يتجاوز قوانين الثقافة وفعاليتها الخاصة، وتظهر جلية حين يتعرض لأزمة النقد، حيث يساوي بين الكتابة النقدية والكتابة الإبداعية، بل يتجاوز ذلك إلى نفي الوظيفة الثقافية الاجتماعية للنص الأدبي، كما نفاها عن الممارسة النقدية. كل شيء وصل في وعي المؤلف إلى حالة من الفوضى والعدمية عبر عنها على المستوى السياسي بسقوط النظام، وعلى المستوى الثقافي بفقدان الذاكرة، وعلى المستوى الأدبي بموت المؤلف. والحل الذي يطرحه علينا هو حل مستورد؛ فمفهوم موت المؤلف الغربي واستبقاء الشكل مرتبط بأيديولوجية تبريرية للنظام الرأسمالي الاستعماري. ومما يجعل استيراد هذا الحل وقوعا في أسر التبعية وتجاهلا متعمدا لمعطيات الواقع وظروفه - تكريسا للضياع والتشتت وفقدان الذاكرة الذي وعدنا المؤلف بتحليل أسبابه من أجل تجاوزه - يصعب الحديث عن أزمة واحدة في النقد العربي الحديث؛ فهناك تيارات ومناهج متعددة بتعدد القوى التي تتبنى وتقف خلفها، وحتى المنهج النقدي الواقعي الذي أتبناه يعاني أزمة لا يمكن توحيدها مع أزمة اتجاهات أخرى كالبنيوية مثلا؛ فأزمة منهجه تنبع من حاجته إلى التأصيل والتعميق الذي يمكنه من زيادة فعاليته في التعامل مع النصوص، إنما أزمة تيار البنيوية في غربته عن واقع الإبداع والثقافة العربيين.
فليس للتراث بمجالاته وجود مستقل خارج وعينا المعاصر. أما الوجود الفيزيقي العيني على رفوف المكتبات، فليس هو ما يعنينا، بل وجوده في معرفتنا وفي وعينا الثقافي. هذا الوجود غير مستقل. من هذا المنطلق كتبت دراسة لمجلة «فصول» في مجلدها الخامس، العدد الأول، عن مفهوم النظم عند إمام البلاغيين العرب «عبد القاهر الجرجاني»، المتوفى عام 471ه/1107م، في ضوء الأسلوبية، من خلال قراءة كتابيه «أسرار البلاغة» و«دلائل الإعجاز». في هذه القراءة أحاول ألا أغفل المنطق الداخلي الخاص بالتراث من جهة، ولا أتعامل معه بمعزل تام عن الوعي المعاصر من جهة أخرى؛ قراءة للبحث عن المغزى الذي يثرى من خلاله وعينا النقدي المعاصر، قراءة لا تقف فقط عند المعنى الذي كان كامنا في عقل «عبد القاهر». وهذا ما فعله «عبد القاهر» نفسه مع التراث البلاغي السابق عليه .
مدارس الأسلوبية تبحث عن خصائص النصوص الأدبية، و«عبد القاهر» قضيته التي تشغله في كتابيه المذكورين هي التفرقة بين مستويات الكلام، من الكلام العادي حتى الكلام المعجز، مرورا على الكلام الأدبي، فنجد دفاعه عن علم الشعر. لكن علينا أن ندرك أن المحرك ل «عبد القاهر» هو قضية إعجاز القرآن. وهو لا يقنع بأن إعجاز القرآن خارج النص ذاته، أو في صدق إخباره عن الماضي أو الحاضر أو المستقبل، أو الإعجاز في بعض خصائصه الأسلوبية والبلاغية . إعجاز القرآن عند «عبد القاهر» يكمن في النص ذاته؛ في آياته، ويمكن اكتشاف هذا الإعجاز والوصول إليه في كل عصر. ويبدأ «عبد القاهر» بالصفات المشتركة بين الشعر والكلام العادي بانتمائهما إلى مجال اللغة، واللغة مجموعة من القوانين الوضعية على مستوى المفردات (الألفاظ) أو على مستوى التركيب (الجملة). والألفاظ عند «عبد القاهر» دوال على معان جزئية لا تكتسب دلالتها الكاملة إلا إذا دخلت في علاقات تركيبية مع غيرها من الألفاظ. وبالتدقيق نجد عنده مفهوما ضمنيا للتفرقة المعاصرة بين اللغة والكلام؛ النظام اللغوي القار في وعي الجماعة الذي تقوم اللغة على أساسه بوظيفتها الاتصالية، أما الكلام فهو التحقق الفعلي لهذه القوانين في حدث كلامي بعينه. ومفهوم النظم عند «عبد القاهر» يقترب إلى حد كبير من مفهوم الأسلوب، ويصبح النظم الذي يضع علم النحو قواعده هو علم دراسة الأدب أو علم الشعر، وعلم الشعر عنده يقوم على أساس لغوي مكين.
و«عبد القاهر» لا يجعل قوانين النحو المعيارية، من الخطأ والصواب، هي القوانين التي تحدد الفصاحة والبلاغة؛ فالألفاظ هي الخيوط التي تتآلف وفق قواعد خاصة لتصنع ثوبا، وقوانين النحو هي الأصباغ التي تفرق بين ثوب وثوب. والمعنى عنده محصلة تفاعل دلالي بين معاني الألفاظ من ناحية، ومعاني النحو التي أقامها المتكلم بين الألفاظ من ناحية أخرى. مفهوم النظم عند «عبد القاهر» يماثل مفهوم العلاقات السياقية عند علماء اللغة المعاصرين، ومفهومه ل «المعنى» و«معنى المعنى» يماثل مفهوم العلاقات الاستبدالية. وإذا كان علماء اللغة المعاصرون لا يفصلون بين المستويين ، وينظرون إلى المعنى الدلالي للنص على أنه محصلة لتفاعل هذين النوعين من العلاقات، فإن «عبد القاهر» يفصل بينهما أحيانا، ويدرك ترابطهما أحيانا أخرى؛ فهو لم يكن ليستطيع - ولا تثريب عليه في ذلك - أن يتجاوز تجاوزا كاملا حدود ثقافته وعصره.
10
الخلافات بدأت تظهر بيني وبين «أحلام» بسبب طبيعة عملي، وبسبب احتفائي الدائم بطلابي والوقت الذي أقضيه معهم، فتشعر أني أفضل الطلاب عليها، وكنت أحاول بقدر الإمكان أن أشركها فيما أعمل وما أهتم به. اقترب مني أحد أساتذة الكلية في تردد، سألني إن كنت أقبل السفر إلى اليابان لتدريس اللغة العربية بجامعة أوساكا. لم أتردد أو حتى أفكر؛ فربما لن تتيح لي الظروف السفر إلى اليابان على نفقتي الخاصة. وكان الأستاذ مستغربا من موافقتي السريعة، في الوقت الذي كان السفر إلى الخليج أفضل لجمع المال. وكانت اليابان قد افتتحت قسما للغة اليابانية بجامعة القاهرة سنة أربع وسبعين، وعلى أثره افتتح قسم للغة العربية بجامعة أوساكا على سبيل التعاون بين الجامعتين. وكان الدكتور «عبد المنعم تليمة» هو أول من ذهب، وبعده أستاذ آخر قرر العودة فورا. كنت أريد أن أتعرف على تجربة الشرق بعد تعرفي على تجربة الغرب في رحلتي إلى أمريكا.
سافرت أنا وأحلام في مارس سنة خمس وثمانين. وأول شيء فعلته هناك هو أن بحثت عن صديقي وزميلي الياباني «محسن أوجاسا وارا» الذي قضى سبع سنوات في القاهرة يدرس اللغة العربية، وجدته يدرس في إحدى الجامعات اليابانية: كيف حالك يا «محسن»؟ - أنا بخير يا «نصر»، كيف حال الأسرة الكريمة، وحال الست أم نصر؟ - لقد توفيت منذ ثلاثة أعوام. - أنا آسف، لم أعرف، كانت ست عظيمة، أنا فاكر زيارتنا لقريتكم، وحزنها الشديد لبعدي عن أهلي. كانت تعاملني كأم. ما رأيك أن نذهب معا إلى قريتي لترى الريف الياباني؟ - الريف الياباني! طبعا دا أنا أتمنى أن أرى اليابان على حقيقتها في الريف.
لم أشعر في اليابان بنفس الغربة التي شعرت بها في المجتمع الأمريكي، على الرغم من حاجز اللغة التي فشلت تماما في تعلمها؛ فالجلوس على الأرض مثل طريقتنا في القرية، وقاعدة الحمام التي تشبه حماماتنا، عجز اللغة جعلني أهتم بالعلامات ودورها في الثقافة اليابانية؛ طقوس الأكل وألوانه الساحرة الجميلة، لكني لم أستسغ الطعم، فتشبع العين وتجوع البطن، لمن اعتاد الأكلات المصرية التي نتذوقها بكل حواسنا. التقاليد اليابانية في البيت. أما الجامعة فعالم غربي كامل. كان عندي وقت كبير للانخراط في أبحاثي وكتاباتي، والنظر إلى أحوال مصر من بعيد؛ فالبعد يجعل الصورة الكلية أكثر وضوحا، بعيدا عن تقلبات وضجيج ما هو يومي وآني.
Página desconocida