فدعاه إبراهيم للجلوس فأبى، وقال: إني خارج لبعض شأني، ولينتظر سيدي قليلا.
وتركه وخرج وأغلق الباب عليه، فأوجس إبراهيم في نفسه خيفة، وأيقن أنه يمكر به وأنه ذاهب ليدل عليه العسكر ليفوز بجائزة المأمون، فقد جعل لمن دل عليه مائة ألف درهم! وما كان باستطاعة إبراهيم أن يفر من هذه الدار؛ فقد أغلق الأسود الباب إغلاقا محكما وأخذ معه مفتاحها، فزاد خوف إبراهيم. ومضت مدة يسيرة، ولكنها كانت طويلة بما فيها من فزع وأوهام.
وأقبل الأسود يحمل طبقا فوقه كل ما يشتهي من خبز ولحم، وقد جلب معه قدرا جديدة، وجرة وكيزانا نظيفة، وقال لإبراهيم: جعلني الله فداءك يا سيدي. إنني رجل حجام، وأعلم أنك تتقزز مما أتولاه من الحجامة، فشأنك بما لم أمسسه أو تقع عليه يدي لتصنع به طعامك.
فدهش إبراهيم لكرم هذا الرجل ومروءته، وقام فطهى طعامه، وكانت به حاجة إليه شديدة، وتناول منه ما اشتهى حتى إذا فرغ تقدم الأسود فقال له: هل لك ياسيدي في شيء من النبيذ؟
قال إبراهيم: ما أكره ذلك، جزيت خيرا.
فأتى بآنية نظيفة، وكأس نظيفة، وقدم له نبيذا حسنا، ثم انتحى ناحية أخرى وأتى بنبيذ آخر وقال: أتأذن لي يا سيدي - جعلني الله فداءك - أن أقعد ناحية منك فأشرب مسرورا بك؟!
فعجب الرجل من رقته وأدبه، وأجاب: نعم، وهنيئا لك، وطبت نفسا.
فأخذا يشربان، حتى إذا تناول الأسود ثلاثا قام فأخرج من خزانته عودا، وقال لإبراهيم: يا سيدي، ليس من قدري أن أسألك أن تغني، ولكن قد وجبت عليك حرمتي، فإن رأيت أن تشرف عبدك بأن تغنيه فعلت.
فبهت إبراهيم وقال له: وكيف توهمت أني أحسن الغناء؟
فابتسم الأسود وقال: يا سبحان الله، أهذا مبلغ ظنك بي؟ أفلم أعرفك يا سيدي إبراهيم، وأنت القمر لا يخفى على رائيه، والمسك لا يغيب شذاه عن عارفيه؟
Página desconocida