في الحانة
لم تفقد بغداد في ظلام هذه الفتنة شيئا من نورها وجمال العيش فيها وطيب الحياة بين أبنائها؛ فقد كانت هذه الأحداث تمر بها دون أن يعصف بها عاصف شديد؛ إذ كان النضال مقصورا على رجال السياسة، وأطماعهم في النفوذ والجاه والسلطان. وكانت بغداد عروس الشرق، وعاصمة الحضارة، وزعيمة البلدان، وكانت الأموال تنصب فيها انصبابا، فكثرت فيها مجالس الأنس والأدب والطرب.
وجلس جماعة من الأدباء والمغنين في حانة لرجل رومي في طرف من أطراف المدينة، وكانت تحيط بالحانة أغراس وبساتين، وفي جدرانها كوى كالجيوب فيها دنان الخمر، وفوق الكوى رفوف عليها أباريق وأقداح من الزجاج والخشب، وفي صدر الحانة بعض المعازف والأعواد والآلات. وأخذ هؤلاء الأدباء والمغنون يتسامرون ويحتسون كئوس الخمر، يدور بها السقاة من الغلمان الحسان.
وكان بينهم الحسين بن الضحاك
4
وعمرو بن الوراق شاعرا الأمين، ودعبل بن علي الخزاعي،
5
وأبو دلف قاسم العجلي أحد الشعراء والفرسان وأمراء العرب في ذلك العصر، وعقيد وعلوية وزلزل من المغنين؛ وابن نهيك من قواد الجند العباسي. وكان البعض يلعب النرد والبعض يلعب الشطرنج، والبعض الآخر يشرب ويتحدث. فقال ابن الضحاك لصديقه عمرو بن الوراق: هيه يا عمرو، رحم الله الأمين، وأيام الأمين، وسلام على مجالس أنسه، ومطالع سعده. أين ليالي قصر الخلد والرصافة، وأين المباهج والسرور في حدائق المنصور، والدهر ساج ساكن، والعيش ناعم باسم؟! فقال عمرو: أجل يا بن الضحاك، وأين فتنة البساتين، والحور العين، وملاعب الفرسان، ومغاني القيان، وبدائع الحراقات
6
والجواري المنشآت تخطر فوق دجلة والفرات في فخامتها النادرة وزينتها الساحرة؟ أين سفينة «الأسد» تفتك بالعباب والزبد، وأين «العقاب» تسبق في سيرها السحاب، وأين سفينة «الفيل» في حجمها الضخم وروائها الجميل، وأين «الدلفين» سيدة البحار ومليكة السفين؟!
Página desconocida