ثم جعلت تتحدث معه وتروي له من الأدب والشعر ويروي لها كذلك، حتى امتد الحديث إلى ذكر أخيهما هارون الرشيد وأيامه، فقال إبراهيم: حججت مرة مع الرشيد، فبينا نحن في الطريق وقد انفردت وحدي وأنا على دابتي إذ حملتني عيناي، فسلكت بي الدابة غير الطريق، فانتبهت وأنا على غير الجادة، فاشتد بي الحر فعطشت عطشا شديدا، فارتفع لي خباء فقصدته، فإذا بقبة وبجانبها بئر ماء بقرب مزرعة، وذلك بين مكة والمدينة، فاطلعت في القبة، فإذا أنا بأسود نائم، فأحس بي ففتح عينيه ثم استوى جالسا، فإذا هو بشع الصورة، فقلت: يا أسود، اسقني من هذا الماء، فقال محاكيا: يا أسود اسقني من هذا الماء! ثم قال: إن كنت عطشان فانزل واشرب. وكان تحتي برذون خبيث نفور فخشيت أن أنزل عنه فينفر، فضربت رأس البرذون. وما نفعني يا علية الغناء قط كما نفعني في ذلك اليوم.
فقالت علية: «وكيف كان ذلك؟»
قال إبراهيم: لما أجابني الأسود بهذا الجواب سرت ورفعت عقيرتي وغنيت، فلحق بي، وقال: أيما أحب إليك: أن أسقيك ماء وحده، أو ماء وسويقا؟
قلت: الماء والسويق.
فأخرج قعبا له، فصب السويق في القدح، فسقاني، وأقبل يضرب بيده على رأسه وصدره ويقول: «وا حر قلباه يا مولاي، زدني وأنا أزيدك.» وشربت السويق والماء، ثم قال: «يا مولاي إن بينك وبين الطريق أميالا، ولست آمن عليك العطش، لكني أملأ قربتي هذه، وأحملها قدامك.» فقلت له: «افعل.» فملأ قربته وسار قدامي وهو يحجل في مشيته غير خارج عن الإيقاع، فإذا أمسكت لأستريح أقبل علي فقال: «يا مولاي عطشت.» فأغنيه، إلى أن أوقفني على الجادة من الطريق، ثم قال: «سر رعاك الله ولا سلبك ما كساك من هذه النعم.» فلحقت بالقافلة، والرشيد قد فقدني، وبث الخيل في البر لطلبي، فسر بي حين رآني، فأتيته فقصصت عليه الأمر، فقال: «علي بالأسود.» فما كان إلا يسير حتى مثل بين يديه، فقال له: ويلك ما حر قلبك؟
فقال: «يا مولاي، ميمونة.» قال: «ومن ميمونة؟» قال: «حبشية يا مولاي.» فأمر من يستفهمه، فإذا هي أمة لبعض أولاد الحسن بن علي، فاشتراها له، فأبى مواليها إلا أن تكون هدية للرشيد، فوهبها له.
فقالت علية لإبراهيم: رحم الله أخي الرشيد، فقد كان نبيل النفس، عظيم المروءة. لقد فعلها معي، فهذا «طل» الغلام وهبني إياه ليكون في خدمتي وركابي.
فقال إبراهيم:
فإن لم يصبها وابل فطل !
8
Página desconocida