فاطمأن بال السر هنري من هذا الحديث، وسلم أمره لله، وصرف الشيخ بعد أن ناوله صرة من النقود، وقام في اليوم التالي وعاد راجعا إلى بيروت.
الفصل الثلاثون
البحث والتحقيق
لم يكد السر هنري يصل إلى بيروت، حتى وصل إليها فؤاد باشا الصدر الأعظم، جاء ليصلح الحال من أقرب الطرق خوفا من مداخلة أوروبا، وقد فوض إليه أن يفعل ما يرى فعله لازما لاطمئنان الخواطر وإرجاع الأمن إلى البلاد، فقبض على والي بيروت وألقاه في السجن، وسجن معه بعض رجال الحكومة، لكنه لم يفعل ذلك إلا بعد أن جاءه كتاب قوي اللهجة من أميرال الأسطول الإنكليزي الذي كان راسيا تجاه بيروت، وصف له فيه الفظائع التي جرت، وأبان له أن الأمم الأوروبية لا تستطيع السكوت عنها، وأنه إذا لم تبادر الدولة إلى الاقتصاص من المرتكبين، فالدول الأوروبية متفقة على أن تتولى هي بنفسها الاقتصاص منهم وإرجاع الأمن إلى نصابه، وأشار في هذا الكتاب إلى أن اللوم الأكبر واقع على كبار رجال الحكومة الذين أمروا بهذه الفظائع وتولوا إجراءها.
فوقع هذا الكتاب وقعا شديدا في نفس الوزير، وصعد إلى دمشق وقبض على واليها وأمر بقتله، وقتل معه المأمور الذي كان في حاصبيا وثلاثة من ضباطه ومائة وسبعة عشر جنديا ونحو خمسين أو ستين من الأهالي، وكان الذين قتلوا من دمشق وضواحيها نحو ستة آلاف نفس.
وسئل أحد وجوه دمشق ليكتب محضرا يصف فيه ما جرى له، وكان قد نجا من المذبحة، فكتب ما خلاصته.
لما فشت الفتنة في لبنان والبلاد المجاورة له اضطربت الأفكار في دمشق، حتى إذا ورد الخبر بالاستيلاء على زحلة كان فرح عظيم وزينت الأسواق بالأنوار، فزاد الخوف وهرب كثيرون إلى دمشق من البلاد المجاورة لها فامتلأت بهم الكنائس والأزقة، وكانت الآمال معقودة بأن الأمير عبد القادر الجزائري يستطيع منع الفتنة، وقد بذل جهده في هذا السبيل، فاطمأنت الخواطر وعاد الناس إلى أعمالهم في السابع والثامن من شهر يوليو، وفي التاسع منه استبيحت الأرواح، ودخل الأشقياء البيوت والأديرة والكنائس، وقتلوا من فيها حتى العاجز والأعمى من السكان ومن اللاجئين إليهم، بل قتلوا المجذومين الذين يقصدون دمشق للتداوي فيها وحرقوا مكانهم.
وكما فعل هؤلاء الأشقياء المنكرات فعل الفضلاء الصالحات؛ فالأمير عبد القادر، والشريف أسعد حمزة، والشيخ سليم العطار، والشيخ عمر العابد، وأمثالهم؛ طافوا أحياء المدينة برجالهم ينقذون الناس، ويمنعون الاعتداء عليهم، فخمدت الفتنة في اليوم الثاني، ثم اشتدت في اليوم الثالث، ودامت الشدة إلى أن وصل إلى دمشق وال جديد وأمن من بقي حيا.
وأنا كنت نائما في بيتي فأيقظوني صباح الاثنين في 9 يوليو، وأخبروني أن الفتنة فشت في المدينة، فخرجت إلى باب داري لأتحقق الخبر، فرأيت الناس يتراكضون فأقفلت بابي منتظرا قدوم قواس من قنصلاتو الإنكليز؛ لأني تابع لها، وبعد قليل حضر قواس، فأرسلته إلى الأمير عبد القادر أطلب منه رجالا يوصلونني إليه، فرجع القواس وحده بعد برهة قائلا إن الأمير أعطاه ستة رجال، ولكن لم يمكنهم الوصول إلي؛ لشدة الازدحام ولأنهم غير مسلحين، فانتظرت آملا أن يتسلحوا ويعودوا إلي، وبينما أنا جالس في انتظارهم هجم جماعة على باب داري وكسروه بالبلطات ودخلوا الدار الخارجية، وجعلوا يطلقون الرصاص على غرف البيت، فخرجت من باب صغير خارجي ومعي ابني وعمره تسع سنوات وابنتي وعمرها ست سنوات والقواس، وأخذت معي مبلغا من النقود لأستعين به بدل السلاح، وكنت كلما التقيت بجمهور من الثائرين ورأيتهم هاجمين علي أرميهم بقبضة من النقود فيلتهون بها عني، إلى أن وصلت إلى زقاق ضيق ظننت أني لا أجد فيه أحدا فأصل منه إلى دار الأمير عبد القادر، ولكن خاب ظني وهجم علي رجاله ليقتلوني، وضرب واحد منهم ابنتي ببلطة على رأسها، فأسال دمها، وأطلق آخر علي الرصاص مرتين فأخطأني، وبادرني واحد ببلطة على رأسي فشق جبيني، وأصبت بضربات كثيرة في جنبي الأيمن، ولم يعد الذين حولي يستطيعون إطلاق الرصاص علي لئلا يصيب بعضهم بعضا، فقلت لهم: إني ذاهب لأقابل حضرة البك محافظ المحلة في شغل له فيه مصلحة كبيرة.
فقال بعضهم: هلم نأخذه إلى البك. فأخذوني إليه بعدما سلبوا مني ساعتي وكل ما معي من النقود، وبينما نحن سائرون لحقنا درويش بعمامة خضراء وشعر مسدول، وبيده عصا طويلة في رأسها منجل كبيرة، وكان يمدها من فوق رءوس الرجال لينخر بها رأسي، حتى إذا وصلت إلى بيت المحافظ أخذني بيده وصرف الناس عني ووضعني في بيت أحد أتباعه مع القواس، وكان قد صار العصر وليس في البيت إلا امرأة عجوز، والتفت فلم أر ولدي ولا كنت أعلم ماذا جرى لزوجتي وطفلها الرضيع ووالدتها وخالتها، وكنت قد فارقتهم في البيت، أما ولداي الكبيران فكان أولهما عند قنصل الإنكليز والثاني في مدرسة الروم البطريركية، ولم أكن أعلم أيضا ماذا جرى لهما ، وأصعدوني إلى غرفة عالية «قصر» تطل على الشارع، فرأيت منها المحافظ آتيا إلى بيته بأناس كثيرين وعيالهم، فاستغربت كيف يحمي هؤلاء في بيته ولا يحميني أنا فيه، بل يضعني في بيت أحد أتباعه، وترجح عندي أنه يقصد الإيقاع بي ليلا، ولا يريد أن يقتلني في بيته أمام الجمهور، فأخبرت القواس بذلك، وقلت له: الأجدر بك أن تنجو بنفسك. فقال: وأنت ماذا تفعل؟ فقلت له: إني أنتظر حتى يخيم الليل، وأدخل بيت المحافظ، فلا أظن أنه يتجاسر على قتلي في بيته وبيته مملوء بالناس. فقال: هذا هو الصواب ولكني لا أفارقك إلا بعد أن تصل إلى بيت المحافظ، وحينئذ أذهب وأخبر الأمير عبد القادر، فاستحسنت رأيه وانتظرنا إلى أن خيم الظلام.
Página desconocida