عصابة بلاد جبيل
حبيس1 مار عبدا الحرش
سياسة الخوري بطرس
عيد مار روحانا
على طريق المنفى
دير القطين
قهوة الأمير الأحمر
وقعة الأمير قاسم
هواجس1 المير بشير
جوقة النور
حيلة الشدياق سركيس
عصابة بلاد جبيل
حبيس1 مار عبدا الحرش
سياسة الخوري بطرس
عيد مار روحانا
على طريق المنفى
دير القطين
قهوة الأمير الأحمر
وقعة الأمير قاسم
هواجس1 المير بشير
جوقة النور
حيلة الشدياق سركيس
الأمير الأحمر
الأمير الأحمر
قصة لبنانية
تأليف
مارون عبود
المؤلف (1886-1962).
عصابة بلاد جبيل
متى رأيت أبا ناصيف عائدا من حقله، في أخريات أماسي أيلول المغبرة السماء، تذكرت قول الشاعر: «ما للجمال مشيها وئيدا»!
1
ولكن صاحبنا لا يحمل جندلا
2
ولا حديدا، بلا سلا
3
من التين المشرح،
4
يشده إلى صدره بحبل من الشعر؛ ليحمل في يده اليمنى قفة
5
فيها الزبيب ونوع آخر من التين المجفف. فالتين والدبس والجوز والزبيب حلاوة الفلاح اللبناني ونقله
6
شاتيا، ومتربعا. ويأكل بعضها ويدخر البعض الآخر لقرى
7
الضيوف وسلوى السامرين عنده في ليالي الشتاء المعربدة.
على هذا درج اللبنانيون القدامى الذين جعلوا من هذه الجبال حصونا لهم منيعة، وأحبوا أرضهم بقلوبهم وسواعدهم، فما تغنوا بها، بل استنبتوها مواسم وخيرات، وجعلوها أما يفيض حنانها لبنا وعسلا وزيتا، فتمتلئ الخوابي
8
وتكتمل المؤن، وإذا بالقروي سلطان في بيته الصغير، يهزأ بالأزمات والأعاصير.
9
كان أبو ناصيف يمشي متثاقلا تحت حملين: حمل واقعي، وهو نحو ربع قنطار، وحمل معنوي، وهو التفكير بما عساه يبقى له ولأولاده من تلك الغلة التي سقى أشجارها بعرق الجبين و«زوم»
10
العينين.
كان يفكر بالمير وضرائبه السخنة ... وها هو يمشي ويردد بصوت مسموع: «في كل يوم جباة وعسكر، خيالة وأغوات
11
يثقلون على الناس ويكبسون البيوت، كل مدة نسمع بضريبة جديدة: هذي اسمها ميري، وواحدة اسمها شاشية، وثالثة اسمها بزرية».
12
ثم حط السل على حائط ليستريح قليلا وصاح: «ورابعة اسمها ضربة تفك رقابهم من كبيرهم إلى صغيرهم! ما خبرنا أحد من جدودنا بمثل ظلم المير بشير قاسم. الله لا يرده!»
ونظر أبو ناصيف إلى التينات الخضر المشققة الأفواه، فخالها تضحك له ولأهله، فهز رأسه بحسرة وقال: «ما أكرم الأرض وما أوفاها! أطعمها تطعمك.»
ورأى الهواء يتغير، فحمل سله ومشى وهو يقول: «أيلول طرفه بالشتا مبلول.
13
نشكر الله، سلم التين هذه السنة، وما حمض منه شيء ولا اسود. الموسم مليح هذه السنة، ولكن من يشبع سيدنا المير؟ ... أفظع من حوت مار جرجس!»
14
وما بلغ المصطبة
15
حتى كانت امرأته في انتظاره، فهرولت نحوه لتعاونه على حط الحمل عن ظهره، فقال لها وهو يطحر:
16 «هذه أكلة تين مشبعة! ودعوا الصيف ...»
فضحكت لولو للتينات المنثورة على وجه السل متعجبة كيف وجدها زوجها، مع أن التين ساب
17
منذ منتصف أيلول. والمثل يقول: «بعد عيد الصليب كل أخضر يسيب».
18
وقعد أبو ناصيف بعدما أرسل زفرة مديدة، وانطوى على شرواله
19
ينقي القطرب
20
والشوك العالق بأذياله، ثم خلع عباءته القصيرة الأكمام، ونظر إلى ساقه التي هشمها العليق والقندول ولم يبال، بل قال لزوجته بصوت المفجوع بعزيز: «صحيح قول المثل يا لولو، لو كان للصيف أم كانت تبكي عليه.»
فاستضحكت أم ناصيف وقالت: «لولا الشتاء يا ابن عمي، ما كان الربيع، ولولا الربيع ما كان الصيف ...»، ثم تناولت الإبريق والصابونة وأخذت تصب الماء على رأس زوجها.
وخطرت على بال أبي ناصيف السياسة، فحول وجهه الممرغ
21
بالصابون صوب امرأته وقال: «أيش الأخبار اليوم؟»
فصاحت الزوجة: «ما أفضى بالك! غسل! الصابون على رأسك ووجهك، وتسأل عن الأخبار؟»
فحرن
22
الرجل وقال: «قلت لك هاتي الأخبار ... احكي واسكبي.»
فهزت المرأة برأسها، فرفع وجهه نحوها، وأغمض عينيه ليقيهما لذع الصابون، وأخذ ينتظر قص الأخبار ...
وراحت المرأة تتأمل زوجها، والصابون يكسو وجهه ورأسه، رأت شاربي الزناتي خليفة
23
نائمين تحت أنفه الأفطس، وقد بانت أذناه بوضوح حين نام الشعر تحت الماء والصابون، فخالتهما مروحتين صغيرتين ... وبلا وعي صبت الماء بغتة، فانتفض أبو ناصيف بعنف، وشتم شتائم تعود أن يجود بها في مثل تلك الساعة. وإذ رأت لولو أن لا بد من سرد حوادث النهار، وإلا علق الشر، قالت لزوجها: «أخبار سودا يا رجل! رجع المير بشير، والضيعة قائمة قاعدة! ...»
فانتفض الرجل وقال: «رجع المير بشير! يا للقرد! من خبرك؟ من حمل هذه البشاير المنحوسة؟ كيف رجع لوسيفوروس
24
بعدما قلنا: راح واسترحنا منه؟»
فهزت المرأة كتفها اليسرى هزات عنيفة وقالت بنبرة: «أنا عارفة؟ رجع!»
فصاح الرجل: «وإيش يهم المرأة، إن نزل بشير أو ركب حسن؟» وطفق يسمعها من أحماض
25
الكلام، لعلها ترد عليه بكلمة فيضربها كفين وينفش؛ ولكنها سكتت لأنها تعرف طباع زوجها.
واشتد عليه لذع الصابون فصرخ: «اسكبي، اسكبي ... غضب الله عليك وعلى أخبارك.»
فاحمر وجهها حتى كاد يزرق، وصبت الماء بنزق،
26
فصرخ بها: على مهلك! ... فرحت برجعة المير يا مستورة؟ رجع الزنبور للوكر ... قبل الصباح تملأ خيالته البلاد، وينتشر العسكر، ويأكل الأخضر واليابس. ما على ضرس هذا الباغي
27
مر ... من يرد ظلمه عنا؟ الشعب ميت. قتل أولاد باز، وأعمى أولاد عمه، وقهر عامية
28
أنطلياس، وأشبع رجال عامية لحفد قتلا. راح وقلنا استرحنا من شره، فما ترقينا
29
شيئا. المير عباس كان أبشع منه. الله يرحمك يا مير يوسف! هذاك أبو الفلاحين، هذا حبيب قلبنا نحن أهل بلاد جبيل. يدبرها الله. اسكبي يا مرة.»
وتناول فوطة نشف بها الماء عن وجهه ورأسه، ثم أخذ يقلع ثيابه بنزق وحمية،
30
فقالت له زوجته: «سألوا عنك.» - وأين كان عقلك يا ذكية؟ كنت خبرتيني لما وصلت. ما هو السبب؟ قولي، عجلي، من سأل عني؟ - الشدياق سركيس، وكل من على «الغرض».
31 - وأين راحوا؟ - قالوا لي: إلى الاجتماع في الكنيسة. - ومن معهم؟ عمي الخوري معهم؟ - لا، غائب عن الضيعة. - هذا خوري جبان، ضعيف، خزى الله أمثاله! ... عرفت أين هو؟ - قال لي إذا سألك إلياس عني قولي له: أنا رائح إلى حاقل.
32
ولما ابتعد عن البيت قليلا وقف وقال لي: لا تنسي يا بنت أن تقولي له: عمك ما نسي الخوري نهرا المتيني، دمه ما زال طريا! ...
فصاح أبو ناصيف: «لا بارك الله بلحيتك يا عمي، هتكت
33
سبيلنا ... خائف على دمك؟»
فوقعت كلمته في أذن عمه، فرد عليه وهو داخل: «سلم بوزك،
34
لحية الخوري ترد عنه ضربات كثيرة ...»
فصاح أبو ناصيف: «كيف تركت الحزب يجتمع وحده؟ هذا عيب يا عمي!»
فقال الخوري: «سماع يا ابني، أنا من اليوم وطالعا، مع الأمير بشير، وأنت تكون مع أخصامه، فإذا تغلب المير بشير تشفعت فيك، وإن دارت الدائرة عليه تتشفع أنت في، وهكذا نمسك الحبل من طرفيه.»
فوجم الرجل، فظن عمه أنه أقنعه، ولكنه ما لبث أن انتفض بعد هنيهة وقال: «أنا لا أرجع عن «غرض» المير يوسف، ولو طار رأسي.»
فأجابه عمه بهدوء: «الموت قدامك يا مجنون!»
ثم ابتسم وقبض على لحيته ذات الفلقتين
35
بيديه الثنتين وقال: «اسمع من عمك يا صبي، أكبر منك بيوم أخبر منك بسنة. اعمل برأيي يا ابني، كن أنت مع حزب المير يوسف، وأنا أكون مع حزب المير بشير، ونعمل كما قلنا.»
فانتفض أبو ناصيف وقال: «والله، ثم والله، ثم والله، إن رفقنا يا عمي أكون أنا أول من يبل
36
يده فيك ... لا تكون السياسة هكذا ... فإما معنا وإما علينا ...»
فقال الخوري: «إن نجحت سياسة المير، فأنا أول من يدخلك في رضاه. لا تتهوس ... خل عقلك برأسك يا ولدي.»
فحملق أبو ناصيف بعمه بعينين كنافذتين، وقال له: «وأين الاجتماع؟» - بالكنيسة طبعا. - أية كنيسة؟ - كم كنيسة عندنا؟ - جماعتنا وحدهم؟ - آه! معهم ناس من كل الجوار. - إذن الحديدة حامية. - معلوم. وآخر الأخبار أن المطران يوسف اسطفان اختفى، والشيخ زعيتر راشد الخازن هرب. قلوب جميع الناس تدق. مرعي الدحداح مسجون بغزير، والقصاصات
37
ماشية. حلاقة على الناشف ... - ليطبخ المير بشير أحمض ما عنده. أنا رايح إلى الاجتماع.
ولم يعد أبو ناصيف إلا قرب منتصف الليل، فوجد عمه الخوري وزوجته في انتظاره ...
دخل البيت بلا حيا الله ولا سلم الله، وأخذ غدارته
38
وطبنجته
39
وخنجره ومجهريته،
40
ولبس عباءته الجديدة، وتلثم بكوفيته، وأغرق ساقيه في جزمته وقال: «عمي، بحياتك، لا تتخل عن لولو في غيابي.» - إلى أين يا ولد؟ حط عقلك براسك. - ما قدامنا غير الموت، بعد ثورتنا في لحفد، وبعد تظاهرنا مع المير حسن والمير سلمان ، فالأحسن أن نموت مرفوعين الرأس ولا نموت مثل الغنم. راح الجزار وجاء جزار ألعن وأبشع. - سلم يا صبي، وعلي أنا رضا المير. - ما أقل عقلك يا عمي، هذا رجل غدار. من سلم له وسلم؟
فقبض الخوري على لحيته ثانية وقال لابن أخيه: خذها من هذه اللحية. - لا تتعب يا عمي، هكذا قررنا. أنا مع الشدياق سركيس. وراسي وراسه، فإما أن نموت وإما أن نعيش. - قلت لك: اعقل يا صبي. الفلاح لا يقدر على مير. العين لا تقاوم المخرز،
41
اسمع مني وابق في بيتك ... البارحة تزوجت. حرام عليك تترك هذي البنت!»
وكانت المرأة غاصة بالبكاء، فصاح أبو ناصيف: «أتركها! من قال إني أتركها؟ كل ليلة أنا عندك يا لولو. لا تبكي ولا تتأسفي. كل ليلة، أسقط على البيت مثل الصقر.
42
قررنا أن نقلق راحة المير بشير، وألا نقدم رقابنا، برضانا، للنير. خاطركم!»
ووقفت زوجته بالباب تشيعه بعين دامعة، ولما انقطع صدى وقع خطاه انفتلت
43
إلى البيت واستدارت في قرنته تتفجع وتتوجع، وعمها الخوري يعزيها ويصبرها.
وبعد أيام أطلت عساكر المير تطلب الثائرين المتوارين عن الأنظار. بلغ «سعادته» أن عصابة تعيث في بلاد جبيل ولا تعتدي إلا على من هم على «الغرض»، أي رجال حزبه، وقد هاجموا ولده المير قاسما في قلعة جبيل، فقتلوا واحدا من رجاله، وقالوا لأحد الحراس عند فرارهم: «قل للمير قاسم: خبر والدك أنه ربما ملك بلاد جبيل بالقوة، ولكنه لا يملك قلوبها مهما عمل. نحن عليه ولا نكون معه أبدا. بداية الظلم معروفة ونهايته لا يعلمها غير الله ... إذا راقت له الأيام فقريبا يتعكر صفوها. إن عين الله لا تنام، وما للعبد المظلوم غير ربه.»
حبيس1 مار عبدا الحرش
تهلل الذين على «غرض» المير بشير، وهم أقلية، أو بضعة أشخاص في كل ضيعة من بلاد جبيل، فكان الفرح عندهم أياما.
أحيوا ليالي القول
2
و«العتابا»
3
والزغردة
4
ابتهاجا، ورقصوا ودبكوا، وهزجوا
5
وحدوا.
6
كانوا يتحدون خصومهم، حينا بإحراق البلان
7
والقندول
8
على سطوح البيوت، وتارة بقرع الجرس وأغاني «الجفا».
9
وأخيرا طفح الكيل فأدت هذه التظاهرات إلى مناوشات واشتباكات بين الحزبين أسفرت عن جرحى كثيرين وبضعة قتلى.
وكانت حكومة المير تعضد من لها فتقبض على خصومهم، محقين كانوا أو محقوقين، فاستفزت هذه النكاية الشدياق سركيس وجماعته، فنفروا من بيوتهم، وشرعوا يكبسون كل ليلة، بيوت الموالين انتقاما من حكومة المير التي كانت تضرب بيد من حديد على مناوئيها
10
ثم تفاقم
11
شر هذه العصابة في قرى بلاد جبيل، فتمادت في طغيانها حتى سولت لها النفس أن تهاجم الأمير قاسم ابن الأمير بشير في عقر عاصمته جبيل، فرعبته وأحنقت والده.
كان الشعب في هذه الحقبة يقاسي من الأمير الأمرين: مرارة العصبية
12
المتغلغلة في عظام اللبناني، فلاحا وعاملا، وملاكا، وشيخا، ومرارة الجباية والأموال الأميرية.
ثقل المير على خصومه في كل أنحاء ولايته، وخصوصا في بلاد جبيل، بؤرة المعارضة، حيث اضطرمت نار «عامية» لحفد التي تحدت الأمير بقتلها بعض رجاله.
كانت هذه العامية - نسبة إلى العوام - جامعة لرجال البلاد على اختلاف طبقاتهم ومللهم، وأقاليمهم. فيها الجبيليون، والبترونيون، والكسروانيون، وأهل جبة بشراي، ومتاولة بلاد جبيل، فأقضوا مضجع الأمير زمنا، ومن هنا جاء المثل اللبناني القائل: العامية عمى.
فتقلبات آراء ولاية صيدا كانت تشجع الأهالي وتقويهم وتدفعهم إلى الثورة، فباشا صيدا أخذ عن الجزار درس خلعة
13
الولاية، فكان يكسوها من يغلي ثمنها.
سمع شكوى «عامية أنطلياس» وكتب لهم ألا يؤدوا للمير بشير إلا مالا واحدا
14
كعادتهم. بينا هو كان قد طلب من المير بشير «ألف ربع ذهب فندقلي
15
خرج جيب»، فاضطر الأمير إلى مغادرة البلاد، ثم رضي عليه حين دفع المبلغ المرقوم، فعاد المير بشير إلى ولايته وأمعن في الضغط على الرعية ليجمع مالا يسد به فم ذلك الوالي، ويدعم الكرسي، فضج الأهلون وكانت «عامية لحفد» في العام نفسه، فقتل من الأهالي ثمانون رجلا.
ظن الأمير أنه خنق صوت الشعب الضعيف المظلوم؛ وإذا بريح السياسة تجري بما لا تشتهي سفن الأمير، ففر من البلاد وقويت شوكة خصومه.
وبعد حين رقع ما تمزق من فروة ولايته، وعاد يسعى لقهر خصومه ، ففر أعداؤه متوارين من وجهه خوفا على رءوسهم، وهذا ما حمل الشدياق سركيس على تأليف عصابة «الثورة الدائمة» على حكومة المير، وكان أبو ناصيف من أشد أعوانه ضغنا
16
وحقدا.
أما حياة هذه العصابة وسيرورتها في البلاد، فكانت مطبوعة على غرار جميع العصابات. لا تكاد تظهر في قرية حتى تختفي ويذر قرنها
17
في ضيعة أخرى. حصونها تلك الكهوف
18
المنيعة المنتشرة في أودية بلاد جبيل، وأهمها دير القطين
19
وواديه الرهيب.
وهكذا أصبح شعب بلاد جبيل كالحجر بين مهدتين:
20
العصابة الأهلية وعسكر المير، فلا يخرج أحدهما من قرية حتى يجيء الآخر على أثره. أما العصابة الشدياق سركيس، فكانت أرأف بالأهلين من عسكر المير الذي تعود التنكيل
21
وألف الانتقام.
ولما انتهت جباية الأموال وأدى الشعب عن يد ما فرضه عليه الحاكم، وانكسرت شوكة غضب الأمير لانشغاله بدفع الخطر الخارجي، كان يسمع شكايات حزبه في بلاد جبيل ويرسل عسكرا يتعقب الأشقياء، ولكن الشئون الأخرى الجلى
22
كانت لا تسمح له دائما بتلبية طلب هؤلاء، فمل رجال حزب الأمير، ورأوا إجابة مطالب عصابة الشدياق خيرا وأبقى، فطايبوها اتقاء لشرها، وهكذا عاشت في «وادي القطين» كأنها حكومة في قلب حكومة، إلا أنها لم تكن تبلص
23
الأهالي كالأمير، فما طمعت بغير القوت، ولا مدت يدها إلى معجن فقير.
وفي تلك الأثناء حل محل حديث العصابة خبر ناسك
24
جديد ظهر في دير مار عبدا الحرش، القائم على مقربة من دير القطين.
فهذا الدير المكفهر
25
الوجه، الملثم ببرقع
26
من شجر السنديان، لا يصلح حصنا لعصابة كدير القطين، ولكن موقعه الطبيعي صالح لإشعاع الفضيلة والتقوى.
أعجب أهالي القرى المجاورة أن يحل بينهم هذا «الحبيس» الجديد المتكل على الله في معاشه ... فمن عادة الحبساء في لبنان أن يمونهم دير ما، أما هذا الناسك فحل في هذا الدير المهجور منذ عشرات السنين، ولا معين له غير كاهن آخر مثله، ولكنه أفتى منه.
كان يروح هذا الكاهن الشاب ويجيء ليقوم بخدمة معلمه وتموينه، أما الحبيس، وهو كهل، فلا يبرح الدير أبدا. تجده إما على سطح الدير مصليا، أو في داخله راكعا ساجدا، أو نائما على صفة
27
من حجر، قائمة في قبو، قدام باب الكنيسة.
تزين جدران هذا الدير الجوانية والبرانية
28
أعشاب مختلفة، منها ما يتدلى، ومنها ما ينكمش على ذاته كالشعب حين يغلب على أمره.
كثيرا ما مر الناس بهذا الحبيس فولاهم
29
ظهره ثم توارى عن أبصارهم. تلك تقاليد الحبساء، ولكن المحترم تغالى
30
فيها.
كان يزعجه جدا ذاك الطريق المار حد الدير، القائم على كتف غابة من السنديان فنسب إليها.
لا يبدو اليوم لعين الناظر من هذا الدير العتيق
31
إلا القليل، فكأن بابيه عينان تحدقان إلى دير معاد الجاثم قبالته على الرابية المناوحة.
32
تنبسط تحت أقدام هذا المنسك بطحاء
33
عين كفاع التي يسمونها «الوطا».
تكاد تكون هذه البطحاء بستانا، ففيها التين والزيتون والعنب والأشجار المختلفة من سفرجل وإجاص وتفاح، وحواليها من الجهات الأربع تقوم قمم رائعة المنظر، فكأن تلك الجبال المختلفة الأشكال حيطان رفعتها يد الطبيعة لصون هذه الجنة الأرضية.
أما الدير فتدل بقايا آثاره على كبر شأنه يوم أحدث، وإن لم تبق منه الأيام غير كنيستين صغيرتين متلاصقتين، واحدة منهما على اسم مار عبدا، وهي هيكل صغير بني على الطراز اللبناني في القرون الوسطى، وأمامه قبو
34
فيه صفة من حجر، وإلى جانبه كنيسة أخرى على اسم مار سمعان العمودي، وهي أكبر من هيكل مار عبدا؛ لأنه لم يبن أمامها قبو مثل تلك.
وإلى جانب الدير آبار عميقة لجميع مياه الشتاء، وبقايا حجارة معاصر وغيرها، تدل على أن هذا المكان كان مأهولا.
يتناقل الأهالي بالتقليد أنه كان فيما مضى ديرا للراهبات. أما ما حول الدير اليوم من عقارات فأصبح منذ عهد بعيد ملكا خاصا لا وقفا، شأن كل بيت قديم تدور عليه الدوائر.
35
وعلى رمية حجر من الدير تشق البطحاء - الوطا - سكة سلطانية
36
لا ينقطع فيها حس البشر، ولا تنفك أصواتهم تقع في أذن «الحبيس» ليلا ونهارا. ضوضى قائمة قاعدة، فإذا نام في الليلة الباردة على الصفة خفت رنين أجراس البغال وجلاجلها، وسباب
37
المكارين
38
وأحاديثهم الماجنة. وإذا كانت الليلة حارة ونام الكاهن على سطح الكنيسة في عرزاله،
39
كما اعتاد، فقليلا ما يستطيع مناجاة ربه ومحاسبة نفسه، فهو لا يكاد ينصرف إلى تذكر ماضيه حتى تتعالى الضجة حوله من الجهات الأربع.
قرى متجاورة متلاصقة، وسكة سلطانية تشق الوطا ولا تهدأ الرجل فيها لا ليلا ونهارا. والناس هنا وهناك في خيامهم وعرازيلهم ينطرون كرومهم، ويسهرون على زيتونهم وسفرجلهم وتينهم.
نواطير تروح وتجيء، تسعل وتتنحنح ليعلم السارق أن الناطور سهران ... وهناك فريق من الشباب يعقدون حلقات السمر على التلال والرجامي،
40
شاربين مغنين.
وفي ليلة كثيرة البرغش، ذاك الخصم الضعيف القوي، قلق الكاهن فجثا
41
يصلي.
وقع في أذنيه حديث عائلة تنام في خيمة قبالة الدير، ناطرة كرمها وتينها.
سمعهم يذكرونه فأصغى إليهم. وتذكر أنه يصلي فحول أذنه عنهم، ولكنه لم يستطع التغلب على إرادته.
سمع الابن الصغير يقول لأمه: فزعت منه يا أمي، طويل، طويل، طويل!
فقال الأب: قل مثل المارد.
فضحك الابن وقال: أطول يابا، لحيته ذراع، مروسة تصل إلى زناره. حسبته بلا بوز
42
قبلما تكلم. الشرار يطير من عينيه. ما تطلعت صوبه حتى رجفت عظامي.
فقاطعه الأب وقال: ومثل الحشيش يبست.
فاغتبط الولد وقال: هذي من «المزامير»
43
حفظتها اليوم.
فقال الأب: أنت شجاع يا فارس، تصلح للخدمة في عسكر المير.
ثم تطاول الحديث واشتبك، فهام الحبيس في أودية الذكريات ... فإذا به يسمع مكاريا يطوي «الوطا»، وهو يرتل
44
خدمة القداس، ويؤازره رفاقه فألفوا جوقة، حتى خيل إلى السامع أن القداس
45
قائم ...
أطرب صوت المكاري الرخيم زمرة الشباب الساهرين على البيادر، فأصغوا إليه متعجبين من صفاء صوته وليانه. وما سكت حين انتهت الترنيمة حتى صاح به شاب من فوق ذروة:
46
عشت، عشت! سمعنا. سكتنا حتى نسمعك، فلا تسكت أنت.
فقال الحبيس في نفسه: ليتكم تظلون ساكتين، ما أغانيكم إلا فشار،
47
أما هذا المكاري فيرتل كلام الله الذي يهز النفوس ويلين القلوب، وإن كانت أصلب من قلب الحكام الظالمين.
وسكت المكاري. وتلك خصلة
48
أصحاب الأصوات الرخيمة؛ ولذلك قيل: لا تقل للمغني غن.
ويئس الشباب من المكاري، فاستأنفوا أغانيهم من عتابا وميجانا ومواليا. أغاني عشق وغرام كان يتمرمر الحبيس من سماعها، ويتمنى أن يسكت هؤلاء السكيرون ويرفض اجتماعهم.
وأخيرا غلبه النوم فرقد، ثم استيقظ ففتح عينيه على ضوء الفجر الكاذب،
49
وسمع خيالا يجد السير في الوطا وهو يقول لرفيقه: يقولون إن المطران يوسف اسطفان هرب من وجه المير بشير، وإنه متخف في هذه النواحي.
فأجابه رفيقه: ربما، ولكن من يعلم أين هو. قالوا إنه متكل على الشيخ يعقوب البيطار ليدخله في خاطر المير.
ففرك الحبيس جبهته وقال في نفسه: شعور رءوسكم محصاة لا تخافوا ... الله ينجيك يا مطران يوسف. اتكل على يسوع الذي قال: لا تخافوا ممن يقتلون الجسد ... إذا قدر المير أن يقتل جسد المطران يوسف، فلا يقدر أن يقتل نفسه. لا يقدر أن يخنق روحه وتعاليمه مهما عمل.
وما انتهى من معالجة هذه الفكرة حتى تناول سبحته الطويلة من جيبه الرهباني البعيد القعر، وصلب يده على وجهه، وشرع يصلي وظل حتى انبلج الصبح.
50
ولما استضاء فتح «شحيمته»
51
وأخذ يتلو فرضه. وبعد ساعة استيقظ خادمه فدخلا الكنيسة معا وأقام القداس.
وفيما هو يبخر الشعب تعجب من تبكير الناس إلى حضور قداسه. وما حانت تلاوة الإنجيل حتى رأى رجلا يقرب ولدا من المذبح راجيا أن يتلى الإنجيل على رأسه، ففعل. وما حانت الدورة بالكأس حتى كانت امرأة واقفة بباب «الخورس»
52
وعلى زندها طفل ترجو أن يكبس رأسه بالكأس ليشفى من علته. وكان أن شفي المريضان، كما زعم ذووهما، فطارت أخبار معجزات
53
الحبيس في الجوار، فتقاطر الناس إليه من كل صوب، حتى أقلقوا راحته وهو يريد الابتعاد عن الناس.
وفي غد أحد الأيام، جاءه أناس كثيرون يسألونه الصلاة للمرضى، وكثيرا ما كانوا يكلفونه الصلاة على الماء لطرد الفئران والجرذان والنمل من بيوتهم فيفعل، وهو واثق أنه عبد خاطي ... لوث كهنوته ولطخه بأوحال الدنيا وسياستها، والتقوى والسياسة لا يجتمعان. ومن زعم غير ذلك؟ كان الأمير بشير يعترف
54
ويتناول
55
سرا، ويصلي ويحضر القداس، ثم يسفك دماء خصومه ولا يتحرج ولا يتحوب.
56
وكثر عليه طلب الماء المكرس
57
لطرد الحيات، حين شاع أن حية مار عبدا الدهرية، التي يزعم الأهلون أنهم رأوا لها قرونا، قد اختفت منذ سنة تقريبا، فما رآها أحد بعد مجيء الحبيس. فلا صياد ولا معاز، ولا فلاح، ولا أحد من أصحاب الأملاك المجاورة لحرش مار عبدا، حيث تقيم هذه الحية المؤلفة،
58
زعم أنه رآها.
وبلغت هذه التخرصات
59
والمزاعم مسامع الحبيس، فكان يعلن لزواره أنه ليس ممن يجترحون العجائب، وهو ليس من المتقشفين
60
القدامى، ولا الزهاد
61
الذين صفت أنفسهم، فلينتظروا قليلا ريثما يعتق في هذه المهنة ...
ولكن الناس، متى آمنوا، لا يصدقون كل ما يقال ضد إيمانهم، ولو كان ظاهرا مثل عين الشمس. ففكر الحبيس آنذاك أن يفتش عن دير آخر ينزوي فيه ولكن ...
سياسة الخوري بطرس
وجاء عيد مار روحانا،
1
وهو خاتمة فصل الصيف، وشاء وكيل وقف عين كفاع أن يكون عيد الضيعة ممتازا بحضور الحبيس، فعرض رأيه على الأهالي في أثناء تجمعهم كعادتهم، تحت سنديانة الكنيسة، لمعالجة شئون الساعة، وطال الأخذ والرد حول موضوع الحبيس.
2
وأخيرا أقروا دعوته، وكلفوا خوري الرعية ووكيل الوقف أن يأتياه في خلوته، ويكلفاه أن يشرف الضيعة في يوم عيدها الأعظم ويحتفل بالذبيحة الإلهية.
وعصارى نهار الأحد، قبل العيد بيومين ثلاثة، ذهب خوري الرعية، وكان وكيل الوقف يريد من كل قلبه أن يقيم الحبيس قداس عيد مار روحانا، فيذكر تقليد القرية، بعد عشرات السنين، أن الحبيس أقام قداس العيد على عهد الوكيل فلان!
أما خوري فكان يقول في نفسه وهو يصعد في عقبة
3
مار عبدا:
4
هذه إهانة لي. معناتها أن الحبيس أفضل مني! صح فينا قول المثل: الكنيسة القريبة لا تشفي.
5
وفي تلك الهنيهة تذكر «الصينية» وما تجمعه من فلوس، فثار واهتاج حتى نسي أن وكيل الوقف يرافقه في هذه الرحلة المشئومة، فنبر قائلا: الأوفق أن نعرقلها ...
فصاح به الوكيل: ما هي يا خوري بطرس؟
فانتبه الخوري وخاف أن يفتضح سره، فقال : ماش. ماش.
6
فضحك الوكيل وقال : لا ماش ولا لاش. أنا سامع يا بونا.
وكان الخوري في هذه الفترة قد استعد على مخرج ينقذه من المضيق الذي حشر فيه، فقال للوكيل: أنت عارف أن ابني إبراهيم طلب مني أن يكون في خدمة المير، وأنا مثل جميع أهل بلادي نطيع الأمير غصبا عنا، وننتظر الساعة التي نتغلب عليه فيها. هذي هي القضية.
وكان الحبيس وراء شجرة فوق الطريق يتفحص أمر القادمين، فعرف أنهما من الغائصين في السياسة الحزبية إلى الأذقان، فأسرع وتوارى في كنيسة مار سمعان، وقال لرفيقه: اصرفهما عنا، ولكن بعد أن تعرف ما يريدان ...
وقعد واضعا أذنه على نافذة صغيرة يلتقط الحديث، ولما انجلت له الغاية، ورآها دينية رعائية
7
خرج إليهم.
وبعد السلام والكلام طفق يعتذر عن تعذر مخالطة الناس عليه، بعدما نذر الوحدة والانقطاع.
فقال له وكيل الوقف: الدعوة يا بونا لقداس لا لعرس. رح وارجع الدرب الدرب. هذا عيد تتجمع فيه ألوف مؤلفة من المؤمنين بشفاعة قديسنا. قديسنا عظيم، عجائبه ما لها حد ولا طرف. لا بد من أنك قرأت «سنكساره».
8
كتبه لنا، مع صلاة المساء والستار
9
والليل والصبح، الشدياق
10
جبرائيل آصاف العرموني. كذلك كتب لنا صلاة مار عبدا، هذا الدير الذي أنت فيه.
فتبسم الحبيس وقال: بيت آصاف عندهم مار روحانا وعندهم مار عبدا.
فقال الخوري: أنت تعرفهم، يظهر أنك كسرواني. - أنا عبد من عبيد الله يا ابني، كل بلد لي فيه إخوان بالرب أنا منه.
فقال الخوري: ه ء ... أنت كسرواني، عرفتك من لهجتك.
فقال وكيل الوقف: خوري بطرس! ما لك وما لضيعته! الحبيس لجميع المؤمنين. وخاطب الحبيس قائلا: يا محترم أرجو منك أن تقدس لنا يوم العيد، فأهل الضيعة جميعا يلتمسون بركتك ودعاك، لا يحق لك أن ترفض دعوة ربانية لوجه الله، ربما كان بين الناس رجل ما اعترف ولا تناول منذ سنين، يلهمه ربه بوجودك فيعترف ويتوب على يدك.
فقال خوري الرعية، وهو بين ضاحك وعابس: يعني أنهم يعترفون له ولا يعترفون لي؟
فقال وكيل الوقف: أقصد يا معلمي ، أن غرباء كثيرين يحضرون العيد، أشكال وألوان، ومع ذلك كثيرون لا يعترفون لك؛ لأنك تعرفهم ...
ابنك، مثلا، لا يعترف لك، الإنسان إنسان، يستحي حتى في كرسي الاعتراف.
فسكت الخوري وهو يقول: طيب طيب، الحق معك ...
وكان الحبيس مطرقا، فيظن الناظر إليه أنه يتأمل لحيته، مع أنه كان يتخيل لحية الأمير بشير الذي عاد مظفرا فشرد خصومه.
وطال السكوت فقال وكيل الوقف: وعدتنا يا محترم؟
11 - نعم يا ابني، ولكن أنتم مغشوشون بقداستي، أنا أحقر عبيد الله. أنا عبد خاطي.
فضحك وكيل الوقف وقال وهو يتهيأ لتقبيل يد الحبيس: ليت كل الخاطئين مثل حضرتك.
قال هذا وودع وانصرف، ولما وصلا إلى سنديانة كنيسة الضيعة، قعدا يستريحان تحتها، فقال خوري الرعية لوكيل الوقف: حقيقة إنك فصيح يا جنا.
فضحك الوكيل وقال: تعيش وتفيق يا خوري بطرس! يقول المثل: لا يقطع الشجرة إلا فرع منها،
12
ومع ذلك ما ساعدتني على إقناع الحبيس مع أنه من طغمتك.
13
ثم سفق
14
صلعته
15
سفقة رددت الكنيسة صداها وقال: الآن فهمت. هذه هي التي قلت إنك تريد أن تعرقلها. لكل ساقطة لاقطة
16
يا خوري بطرس.
فتضاحك الخوري وقال: إذا كنا لا نعرف أصله وفصله، فكيف يجوز أن نحترمه هذا الاحترام؟ ومن يدرينا ما هو؟ ومع ذلك لكل شيء وقت. ما أتت الساعة بعد.
هذا ما كان يدور من حديث بين الوكيل وخوري الضيعة. أما الحبيس فكان في الأيام التي سبقت العيد يحاسب نفسه ويتذكر ماضيه، يتذكر كيف كان عائشا ناعم البال مستريحا في مدرسته الكبرى عين ورقة، يعلم الناس ويهذب العقول، يبث في الناشئة مبادئ الحرية الصحيحة عملا بقول الإنجيل: تعرفون الحق والحق يحرركم.
تذكر كيف كان يسوس شبابا من أبناء الشعب ليخلق منهم ثوارا على الاستعباد.
تذكر كيف كان يحدثهم عن الثورة الفرنسية، كيف تغلب الشعب الفرنسي على مستعبديه الإقطاعيين، وقد كانوا أفظع جرائم من إقطاعيي لبنان وأشد قوة.
وتذكر كيف اقتلعه المير من محيطه، محيط مدرسة عين ورقة؛ ليجعل منه قاضيا يتستر خلف أحكامه وينتقم من الناس .
وتذكر كم كان ينصح المير ليكف عن ظلم الشعب، وأن الشعب خير له من الإقطاعيين الذين يستعين بهم على تدويخ
17
الرعية وإذلالها، ثم كيف كان الأمير لا يعمل بهذه النصائح، ولا يبالي إلا بالكراسي، ولا يهمه إلا استرضاء هذا الزعيم وذلك، يشركهم في المنافع
18
والحكم لتظل له الكلمة الأولى.
ثم تذكر كيف أنه عيل صبره ولم يستطع أن يظل في منصب القضاء؛ لأنه رثى للشعب المسكين الذي رآه يساق كالغنم، ويضرب كالبقر، ويطوع كالخيل؛ لتكمل مشيئة الأمير. وإذا بان حق في غير الجانب الذي يؤيده المير، فذلك الحق محكوم عليه بالإعدام.
إن الشريعة في فم الأمير، وما القاضي إلا منفذ لإرادته. فما استطاع الخضوع لهذا الطغيان، ولا التغلب على صوت ضميره الذي كان يدعوه إلى مناصرة الحق، والعمل بروح العدالة.
ثم تنهد وقال: نحن أبناء بيت كان ضحية الإقطاعية، كادوا لعمي من قبلي فحطوه عن البطركية، ولكنه صبر فظفر.
قد يكونون هم الذين أوصلوني إلى ما وصلت إليه من شقاء وتعاسة وتعب بال. أما كنت أميرا في ظل المير؟
أما كنت صاحب الكلمة الأولى بعد سعادته؟
ثم زفر زفرة حرى وقال: ضاعت ...
وكأن الحقيقة التي انتدبته للنضال عنها قد تراءت له في تلك الساعة العصيبة فصاح: لا لا لا. إن راحة الضمير خير من راحة الجسم.
نعم غلبنا وشتتنا في العاميتين، في عامية انطلياس وفي عامية لحفد، إلا أننا نظل نجاهد حتى نقضي على سياسته الغاشمة، على حبه السيادة الذي هون عنده امتصاص دم الشعب. كل حال يزول، حتى حكم المير بشير بالرغم من جبروته
19
وطغيانه ... لا بأس بهذا الأمير لولا جشعه
20
وطمعه. مليح هذا الأمير لولا بغيه وقسوة قلبه. مليح هو لولا مطحنته
21
ومصبنته
22 ... مليح لولا احتكاره كل مرافق
23
لبنان. يظل هذا الأمير حيا حتى تصطدم الناس بالكرسي، فإذا كان ذلك يقتل ويبيد، ويسمل
24
العيون ويقطع الأيدي، وينفي ويشرد ويبعد، ويصير سفك الدماء عنده مثل شربة ماء.
يا ترى، ماذا ينفعه الاعتراف والمناولة وسماع القداس؟
أريد رحمة لا ذبيحة ، هكذا علمنا سيدنا يسوع المسيح.
عفوا يا أمناء الكنيسة ... أأنا شككت؟ حالة تحير. ذهب المير بشير وتولى الحكم أميران، وظلت الحكاية كما هي.
يظهر أن الداء في صيدا وعكا، وحكاية المير مع الشعب تنطبق على هذه الحكاية الوجيزة. قيل سأل الحيط الوتد:
25
لماذا تشقني؟ فقال له: اسأل من يدقني.
الولاية سلعة تباع بالمزاد عند ولاة صيدا. ترجينا أن نلتف حول المير بشير ونصون حريتنا واستقلالنا، فإذا به يراعي مصلحته قبل كل شيء، وما يتفق مع مصلحته فهو مصلحة البلاد.
والأميران اللذان وليا الحكم لم يكونا أرأف بالشعب من بشير. إذن كان يستطاع إصلاحه لو أسعفت الأيام ورضي.
ولكنه أحقد من جمل، يتحين الساعة المواتية ليبطش وينتقم، لا يدعها تفلت منه متى قدر ...
ومع ذلك فالأمير ذاهب، أما الشعب فباق، فلنعمل لصد الظلم عنه، ولا بأس إن مات الراعي لأجل الرعية.
إن أسرة قد تصير أمة، فلا عكس الله الآية لتصير الأمة أسرة ... والإقطاعي ابن عم الإقطاعي مهما تباعد بينهما النسب، ومهما فرق الدين. والعامي أخو العامي حيث كانا. فلنسع لتوحيد إخوتنا.
الفرصة سانحة بعد غد. قالوا إنه عيد عظيم تجتمع فيه الناس من بني وبني، فلنهيئ عظة نثير بها الشعب ولا نؤاخذ عليها، فالكلمة للشعب أخيرا، مهما طال عمر المستبدين. فالأمير الخير هو من يحبه شعبه ويحب هو شعبه.
يقول الكتاب المقدس: لا سلطة إلا من الله. لقد شككت بذلك حين رأيت الظلم بعيني ولمسته بيدي. فكيف تكون السلطة من الله وهي تشترى من الجزار
26
ومن عبد الله باشا؟
27
كيف تكون السلطة من الله ويتولاها من زاد في ثمنها وأغلاها؟ أليست مطروحة بالمزاد؟ فكيف تكون من الله؟
قال هذا الكلام بصوت عال، فسمعه خوريه فقال له: سيدنا ماذا تقول؟
فتنهد الحبيس وقال: استرنا، ستر الله عليك. رأيت أهوالا تشيب الرأس وتشكك من لم يشك في عمره.
سامحني يا الله، أما قلت أنت: إن يد الله مع الجماعة؟
28
واحدة بواحدة إن كنت أخطأت. ها أنا أتحمل عذابات وآلاما في سبيل شعبك . نصحت الأمير فما سمع، ونهضت بالشعب فرزح،
29
وها أنا أقاسي الهوان
30
راضيا قائلا: فلتكن مشيئتك ...
عيد مار روحانا
ما جاء «بعد غد» حتى قرع جرس مار روحانا
1
عين كفاع عند الضحى.
كان الدق، أولا، غير عنيف وغير متزن، يدل على أنه قرع صبيان يستعجلون العيد فتعلقوا بحبل الجرس جماعات، فطن طنات ضعيفة متقطعة. إن حبل الجرس في القرى مباح للجميع ليلة العيد ونهاره، ومن شاء فليجرب باعه وذراعه. فأنشودة الجرس، تردد أصداءها الأودية، هي صوت العيد، صوته الأعلى في القرية اللبنانية، فلا بهجة بلا صلاة جماعية
2
ولا فرح بلا قرع أجراس.
وسمع الحبيس دقات الجرس، فأخذ يعد موعظة العيد مستعرضا الأفكار الرئيسية التي يريد أن يعالجها.
الموضوع جاهز معد، إلا أنه لم يوفق إلى آية يجعلها حجر أساس يبني عليه عظته.
واشتد قرع الجرس وانتظم، فعلم أنه قرب الظهر، وبعد هنيهة دق دير معاد
3
جرس التبشير،
4
فأخرج من زناره ساعته الفضية وفتحها، فإذا عقربها يشير إلى أن الساعة الحادية عشرة والدقيقة العشرين، ففتح بابها الآخر وشرع يشد زنجيرها بالمفتاح حتى بلغ الغاية، ثم نقل المفتاح إلى منزلة العقارب، فقدمها خمس دقائق كعادته كل يوم، ثم أعادها إلى زناره الأحمر، وأحكم وضع بندها
5
الأسود الذي تضمه في الوسط حلقة صفراء.
وشرع يتمشى في الساحة قدام باب الكنيسة.
تذكر في رواحه ومجيئه أن المحتفى به، القديس روحانا، قد امتحن كثيرا ولكنه فاز أخيرا، فخطرت في باله إذ ذاك الآية الإنجيلية القائلة: من يصبر إلى المنتهى يخلص.
رأى أنها مصاقبة كل المصاقبة، فبش وقال: توفقنا، أصبنا عصفورين بحجر واحد.
وظل يفكر ويفتش لعله يقع على آية أكثر وضوحا وملاءمة؛ لأن الشعب غليظ العقل غالبا، فدخل الكنيسة وفتح الإنجيل، إنجيل اليوم التاسع والعشرين في أيلول، وهو يوم عيد مار روحانا، فما وجد شيئا أحسن.
ودق الظهر في دير معاد فحسر
6
قلنسوته
7
عن رأسه وركع يبشر.
ذكرته الساعة، ساعة الظهر، تلك الموائد السخية التي كانت تعد له في المدرسة، وفي قصر الأمير بشير، فتنهد وقال : من يصبر إلى المنتهى يخلص.
أعجبته الآية جدا، وفكر بإيضاحها كل الإيضاح في القداس الكبير الذي يقيمه في الغد، فنبه رفيقه الخوري ألا يقول في خدمة القدس: «بارخ مور ريش كهنه»، أي: «بارك يا سيدنا رئيس الكهنة»، فأومأ الخوري برأسه أن نعم، وصلب
8
الحبيس على تلك المائدة الحقيرة، وصلى عليها شاكرا، كأنها العشاء السري
9
أو مائدة المير بشير، ثم جلس ورفيقه يأكلان.
وأخذت وفود العيد تكر من الجرد، فريق يمر من خلف الدير، وفريق من قدامه، فتوارى الحبيس وخوريه وراء سنديانة عانس
10
لا شيخة، فكانا يسمعان حديث المارة ولا يراهما أحد.
وقعد وفد من نساء ورجال وفتيان وصبيان على حجارة مرصوفة في ساحة الدير، واستقلوا من بئر مار عبدا العميق ماء باردا. شربوا جميعا إلا واحدا، فقال له رفيقه: اشرب، هذا ماء صلى عليه الحبيس.
فضحك ذاك وقال: ليس في بطني فأر، ولا حيات، ولا نمل، حتى تطردها صلاة الحبيس.
فوبخته زوجته على قلة إيمانه، وقالت له: ماذا يفيدك قداسه غدا إن كان هذا إيمانك؟ ...
فوجه أحد الرفقاء الحديث توجيها آخر وقال: من أين يأكل هذا الحبيس؟ فلا دير يطعمه، ولا وقف ينفق عليه. يقولون إنه مكتف، ما طلب رغيف خبز من أحد.
فقالت المرأة: من يدريكم؟ ربما يأتيه غراب برغيف خبز، مثل القديس بولا أول الحبساء.
فهمهم
11
زوجها وقال، إذا رأى غرابا فردا: اسكتوا قد يكون هذا الغراب يخبي رغيفا في عبه، فخاف أن نلتقطه أو استحى منا، فما رماه للحبيس، قوموا نذهب.
وما انصرفوا حتى نهض الحبيس من مجثمه والتفت صوب طريق «الصليب»،
12
فرأى جماهير مقبلة على القرية صاحبة العيد، مالئة طول الطريق وعرضها، مشاة وخيالة، خيل وبغال وحمير، كلهم يثرثرون ويلغطون
13
فلا يفهم شيء من كلامهم.
وما انتهى عجب الحبيس من وفود الشرق والجنوب، حتى التفت نحو الغرب فرأى الناس قادمة مثل النمل على طريق «معاد» الضيقة. سلسلة طويلة، أشخاصها تمشي واحدا خلف واحد؛ لأنها طريق رجل لا طريق حافر.
14
ثم حول نظره شمالا فرأى طريق «صغار »
15
غاصة بوفود المعيدين، فتعجب كيف لا تضيق قرية صغيرة مثل عين كفاع بمثل هذه الجماهير التي بدت طلائعها.
أما أهالي الضيعة فكانوا قد استعدوا لهذا اليوم السعيد.
إنه يوم يكرم فيه الضيف والضيفن،
16
والقريب والغريب. يقبل الناس فيه من بني وبني
17
على القرية ليحظوا ببركة العيد وزيارة الأقارب والأصحاب.
لكل قرية في لبنان عيد، ولكل ضيعة يوم. أما مار روحانا فيومه أعظم الأيام؛ لأن عجائب قديس عين كفاع كثيرة. هو اختصاصي بشفاء المغص، ومشهور في القرية والجوار بسرعة الغضب والاقتصاص المعجل.
فالذي يعتدي على أملاكه وأشيائه يصاب «بالفتق» حالا، ولا يعصمه منه عاصم، لا حزام بارير
18
ولا جد جده. إنه لا يشفي ما لم يعوض أو يرد المسلوب.
واستعدوا لهذا اليوم المحجل،
19
فغسل بياض الفرش، ونظفت البيوت ورتبت أحسن ترتيب، وهرم التبغ الجبيلي - كان يعرفه التجار المصريون بالكوراني - ليقدم للضيوف، وعين كفاع أشهر قرية بهذا الإنتاج، وفي ذلك قال الزجال في ذلك الزمان:
خد عملك سيكاره
تتنات رفاع
من دارة حنا بشاره
في عين كفاع
وكان الحبيس واعدا نفسه بأن يذوق دخان عين كفاع يوم العيد، ولكن حادثا خطيرا جرى فلم تتحقق أمنيته تلك.
وأشرفت الشمس على الغروب فامتلأت الضيعة ناسا حتى كادت تضيق. وقعد الحبيس على سطح مار عبدا، قدام خيمته يتأمل ويفكر بغفلة الشعب، وبماذا يوقظ شعوره في غده.
وارتفع الغناء فسكت الجرس، واشتدت العربدة.
20
حلقات حلقات على «الرجامي»
21
وعلى مصاطب
22
البيوت، النبيذ والعرق يصبان كالماء، ورائحة اللحم المشوي تملأ الأنوف، وقرع مدقات الكبة يصم الآذان.
ذبح في تلك الليلة نحو تسعين رأسا من الغنم والمعزى، وفرغت خوابي القرية من العرق والخمور العتيقة، فشرب الزائرون المسطار.
23
واشتد الرقص حول الكنيسة على وقع التصفيق والزمر والغناء، فاختلط كل ذلك حتى ألف وحدة لا تتجزأ. وكان أبرز شيء رقصتنا البلدية - الدبكة - شباب وفتيات، بجانب كل فتاة فتى يمسك يدها بأطراف أنامله. يكرون ويفرون، يقبلون ويدبرون، يشرئبون وينكمشون، والزامرون تنتفخ بطونهم كالقرب
24
من شدة النفخ.
وفي الكنيسة كثيرون من الأتقياء حاملي النذور من زيت وشمع وبخور ونقود يغطون في نومهم الثقيل.
أعد وكيل الوقف فرشا كثيرة لمن نذروا أن يناموا ليلتها في الكنيسة. أما جاءوا ليفوا نذرهم للقديس الذي استجاب طلباتهم؟
كان يرى في صحن الكنيسة عشرات النائمين والنائمات من رجال ونساء، صبيان وصبايا ممن نجوا من الآفات والعاهات بشفاعة القديس روحانا، التي لا تتراجع دون معضلة مهما عظمت وضخمت.
كان أكثر هؤلاء يتجمعون حول محادل صغيرة موضوعة في الكنيسة حد خوابي
25
الزيت منتظرين نوبتهم.
26
فهذه امرأة تمر المحدلة اللطيفة على صدرها لتدر لطفلها، وذاك يدلك بها بطنه، وهاتيك ظهرها حيث الألم.
لست ترى إلا محادل تدحرج على بطون تقرقر،
27
وكل يشكر للقديس استجابة طلبه.
أما البيوت فتستحيل خانات يحتلها كل زائر رافعا الكلفة، يأكل ويشرب وينام.
وبعد انقضاء هذا اليوم الأغر، يفتخر كل واحد من أهل الضيعة بكثرة ضيوفه ليلة العيد.
أما من لم يكن يجد فراشا فكان يضطجع في ساحة الكنيسة أو على رجامي الضيعة، أو يسهر الليل كله مع كثير من الشباب الذين لا يذوقون طعم النوم.
لا ضيق ولا عناء، المصاطب قدام كل بيت، والسطوح كلها ممهدة مطينة ...
لم يكن في ذلك الزمان سطوح قرميد لا يستفيد منها الناس؛ ولذلك قالوا: بساط الصيف واسع.
وكنت ترى «الثريات»
28
المصنوعة من القش والقطن والعجين والزيت محمولة على أكف نساء القرية وبناتها؛ لتشعل عند أقدام المذبح أو عليه، إكراما للقديس، فتبدو المهابة على كنيسته حين تذهب عتمتها.
وقصارى الكلام أن الناس في العيد فريقان: فريق يجيء ليغني ويأكل ويشرب ويرقص ويصطاد ... وفريق، وهو قليل، إنما جاء لاستمداد شفاعة القديس العظيم والتماس بركته ودعاه.
لم يغمض لعين كفاع جفن في تلك الليلة، وكذلك أصاب الحبيس؛ أزعجه عياطهم
29
ومياطهم،
30
وشكر ربه على أنه فكر بخطبة العيد قبل تلك الليلة الصاخبة، فما طلعت الشمس حتى كان في ساحة كنيسة مار روحانا، حيث التفت حلقة قوالة
31
تحت سنديانة الكنيسة الدهرية. عقدت جلستهم تلك منذ منتصف الليل، ولا يزال أبطالها ، وقد طلع الصبح، ثابتين في ميدان القول، ينتقلون من موضوع إلى موضوع، لم يتركوا غرضا من أغراض شعرهم إلا عالجوه مرتجلين
32
القرادي والمعنى، والعتابا والميجانا، والمواليا وكل ضروب الغناء، حتى إذا ما سكروا راحوا يبوحون بمكنونات صدورهم، ويصرحون بميولهم وآرائهم في شئون الوقت.
ووافق ذلك قدوم الحبيس، فسمع أحد هؤلاء الشعراء يقول:
حكمك يا مولانا المير
ما فيه غير بلص
33
وتعتير
34
شربت الدم وخنت العم
وحرقت دين الفقير
فسد الحبيس أذنيه حين سمع سب الدين، ولكن الشاعر الثمل
35
أتم غير مبال، فأصغى الحبيس إلى بيانه:
شربت الدم وخنت العم
بغير «الخلعة»
36
ما بتهتم
كيفما ملت بتضرب كم
وديوانك وادي الحرير
تقشيط
37
وسخره
38
وتقنين
تا تعمر بيت بتدين
يا ويل الشعب المسكين
إن غير صابون المير
إن غير الله يعينو
من بلصاتو وصابونو
وأكبر بلوي طاحونو
الله يا بشير كبير
فتعالى الصياح من هنا وهناك: - اسكت يا وحش. - سد بوزك يا دب. - خربت بيوتنا الله يخرب بيتك. - يقطع لسانك يا سفيه.
فصاح القوال: ما لكم يا جماعة، قولوا لي أيش صار.
فتقدم واحد منه، وبعدما انتزع الدف
39
من يده وقال له: ما صار شي ... المير رجع! - ها ها ... قولوا لي رجع. طيب رجع يا سيدي. الله يبشركم بالخير.
هات الدف. فأبى الرجل أن يعيد إليه الدف، فاشرأب ومد يده صارخا: اسمح لي.
فصاحت الناس من كل جهة: أعطه الدف.
وتعالى الصياح: الدف ... أعطوه الدف، وكاد يعلق الشر، لو لم يتقدم الحبيس ويأخذ الدف، ويسلمه للقوال الذي صرخ على الفور:
عاد البشير عالقصر الله يكون معو
وعين العناية باللطافة تقشعو
يا رب هونها علينا برحمتك
ساد الأمان يا ناس كدوا وازرعوا
ساد الأمان يا ناس والغيم انقشع
لمن حسامك يا بشير حدو
40
لمع
بشفاعتك يا مار روحانا
41
عن كفاع
تنظر إلى حكم البشير وترفعو
فصاح الجميع متغامزين: وترفعو ... وترفعو!
فهز الحبيس رأسه ودخل الكنيسة وتبعه الجميع، إلا أناسا لم يجدوا مكانا يقفون فيه داخل الهيكل، فتجمعوا حول الأبواب والشبابيك.
وبلغ الحبيس الخورس .
42
وبعدما أدى واجب السجود والركوع تقدم من المذبح، وما هم بارتداء ثياب التقديس حتى انطوى خوري الضيعة عليه يوشوشه، فاضطرب الحبيس وأدخل يده في عبه، ثم أخرجها وأومأ خوري الرعية، فسار خلفه إلى ما وراء المذبح، وهناك أراه شهادة سيامته
43
فتأكد من كهنوته.
44
ثم خرجا، وإذا بخوري الرعية أصفر الوجه مضطرب مذعور.
وارتدى الحبيس «الغفارة»
45
وتقدم من المذبح الكبير بجلال وخشوع وشرع في قداسه «الكبير».
وعندما بلغ الشمامسة
46
قولهم: «بار خمور»،
47
صاح بهم خوري الرعية منددا: «ريش كهنة».
48
ولكن الحبيس أنشد بصوته الجهوري: «الحي الذي مات ثم قام»، فأخفى صوته كلمة الخوري، وأتم الشماسة النشيد.
والتفت الحبيس نحو الخوري غامزا إياه بعضة على شفته المتوارية خلف لحيته، ففهم ما أراد ...
وبلغ الحبيس الإنجيل فتلا بخشوع عظيم: «سراج جسدك عينك، فإن كانت عينك بسيطة كان جسدك كله نيرا، وإن كانت عينك شريرة كان جسدك كله ظلاما ... إلخ.»
ولما انتهى من تلاوة هذا الفصل المعين ليوم العيد، قبل الإنجيل وأعاده إلى مكانه، ثم التفت صوب الشعب يعظهم مبتدئا بالآية: «من يصبر إلى المنتهى يخلص».
واستطرد قائلا: «ما أشبه الحياة، يا إخوتي المباركين، بالطريق الضيق، تعترضنا فيه عقبات وصخور لا بد لنا من إزاحتها أو تحطيمها لنعبر بسلام، ونأمن شر الذئاب والوحوش المنتشرة في الغابات التي تحدق بالطريق من هنا وهنالك، فإذا كنا غير مسلحين بالصبر لا نبلغ المقر الذي نقصده ونطمع بالاستراحة فيه.» «الرجل الصابر يشبه السندان، فإنه لا يخور
49
ولا يسقط مهما اشتد عليه الضرب. كل شعب تمر عليه أهوال وبلايا، فإذا لم يثبت لها ولم يحتملها، فإنه لا يبلغ يوما يقول فيه: ها أنا استرحت؛ لأني ثبت في وجه العاصفة فلم تقتلعني.» «رأيت في أصابع كثيرين من إخوتنا بالرب خواتم محفورة عليها هذه الكلمة: «يزول». إنهم ينقشون هذه الكلمة على خواتمهم ليتذكروا دائما أننا، نحن البشر، زائلون، بل عابرو سبيل. أما أنا العبد الحقير الخاطي فلهذه الكلمة عندي معنى آخر وهو: اصبر أيها الإنسان، فكل ما يسوءك يزول؛ ولذلك أقول : اصبر أيها الشعب، فالذي يظلمك يزول، إنه يذهب وأنت تبقى إن صبرت.» «قد نرى من رؤسائنا رجال الدين والدنيا أشياء لا تنطبق على الشريعة والناموس، فنظن أن عين الله نائمة، وأنه - سبحانه وتعالى - غافل عن كل ما جرى ويجري، فيشك بعضنا ويلج
50
فيكفر، ويصبر الآخرون منتظرين عمل الله فيكون جزاءهم الفوز والظفر. إن الله يطول الحبل كما نقول في كلامنا، وكما يقول - عز وجل - بلسان نبيه داود: الله فاحص الكلى والقلوب، طويل البال شديد العقاب. فلا تيأسوا يا إخوتي، فمثل هذه الأحوال الشاذة لا تدوم، وما ترك الله شعبه في زمن من الأزمان حتى يترككم أنتم. أليس هو القائل: «من يصبر إلى المنتهى يخلص؟» «لا تشبهوا الروحانيات بالزمنيات لئلا تشكوا وتدخلوا التجارب.» «تذكروا ما مر على رءوس جدودكم من اضطهادات وظلم، وكيف قابلوها بالصبر حتى تغلبوا عليها. إن الصليب يعلمكم التضحية، فتأملوا به دائما، وتذكروا أبدا أن يد الله على قلب الجماعة.»
وكان خوري الضيعة يهز برأسه عند كل جملة، ويلتفت صوب الشعب معلنا استحسانه كلام الحبيس مؤمنا عليه ... ثم ينتفض وكأنه يريد أن يقول للحبيس: «صرح ولا تخف، كلنا معك!»
ولكن عين الحبيس كانت دائما على الخوري.
كان خائفا من إفشائه السر الذي قضت الضرورة أن يعرفه. ولما رأى الحبيس تساقط الخوري تحت حمل السر خاف عليه من الانهيار، وختم عظته بالثناء على القديس المحتفى بعيده، مانحا المؤمنين «البركة»، فخر الخوري إلى لحيته ساجدا لاقتبالها، ثم تذكر أنه لم يصب في عمله، فنهض في الحال متداركا ما بدر منه.
وانتهى القداس على خير، وخرج الناس متخشعين، إلا واحدا يعرفه الناس أنه من المتشردين، ويتهمونه بحوادث كثيرة لم تثبت عليه واحدة منها. فهذا الرجل، وهو الفتى القوال الذي هجا المير، اقترب من خوري الضيعة وقال له: «قل للحبيس أني أريد أن أعترف، إذا كان يتفضل ويسمع اعترافي.»
فتقدم الخوري من الحبيس بخضوع يبديه الكاهن لمن هو فوقه رتبة.
ثم تذكر الموقف فالتفت إلى صحن
51
الكنيسة، وإذ لم يجد إلا بضع عجائز وأطفال، قال للحبيس: «لا تخف، هؤلاء لا يفهمون شيئا.»
والتمس منه سماع اعتراف الرجل، فخف الحبيس للخلوة بالمعترف وراء المذبح حيث تعود الكاهن أن يسمع اعتراف الرجال.
وما كان أشد عجب الحبيس حين بادره الرجل بعد تلاوة «فعل الاعتراف» بقوله: أنا تلميذك القديم، عرفتني؟ - تلميذي القديم! ...
قالها الحبيس وهو يهز برأسه، ثم قال بلا اكتراث: «كل من يعترف عندي هو تلميذي، وأنا معلم اعترافه.» - لا يا سيدنا.
فقطب الحبيس وجهه، وأتم المعترف حديثه: أنا تلميذك في عين ورقة. - تل ... ميذ ... ي في عين ورقة؟ من أنت؟ ومن أنا؟ لا تغلط يا ابني. الناس تتشابه كثيرا. - أنت المطران يوسف اسطفان، زرتك مرات في دير مار عبدا الحرش، وما عرفتك ولا عرفتني. أنا الذي كان يزورك في الدير في ثياب شحاذ ولا تعرفه ولا يعرفك، الآن عرفتك، عرفتك من لهجتك في الوعظ، ومن روح موضوعك. يا الله! كيف غبيت علينا؟ أنا هارب مثلك، وأنا أقول مثلك: من يصبر إلى المنتهى يخلص. - أنت عرفتني، وأنا ما عرفتك بعد. عرفني بحالك. - يه، يه، يه! ما عرفتني بعد يا مطران يوسف؟ أنا الشدياق سركيس.
وعانق المعلم تلميذه، فسمع خوري الضيعة نشيجا
52
وبكاء، فدخل عليهما، فحتم الأسقف
53
على الخوري أن يكتم السر، وانتظر المعيدون الحبيس ليفوزوا ببركة دعائه، ولكنهم رأوه يصعد في عقبة
54
قرية صغار ومعه القوال.
وتناسى الناس ما كان في الحال، ووضعوا «الجرن»
55
في ساحة الكنيسة، والتفوا حوله حلقة واسعة، فانبرى له الشباب، وشرعت كل قرية تنخي
56
شبابها، فرفعه شاب فوق رأسه مقوما زنده أحسن تقويم، فهاهى
57
له أهل ضيعته ورفعوه على الأكتاف، فاحمرت عيون منازليه، ولكن الشر وقف عند هذا الحد.
ثم نزلت الخيل إلى الميدان، وكان رمي الجريد، ثم المنافسة في ضرب السيف، فكانوا يجعلون العصا الغليظة على فم قنينتين، ثم تضرب فتقطع دون أن تتحرك القنينتان.
واختتم ذلك النهار الأغر المحجل
58
بلعب السيف والترس - الحكم - فأظهر الكثيرون من الشباب خفة وتفوقا، وعند العصر ودعوا الضيعة، فعاد إليها هدوءها وسكينتها.
على طريق المنفى
- العين لا تقاوم المخرز، اسمع مني يا شدياق، الزم بيتك.
قالها المطران يوسف اسطفان لتلميذه الشدياق سركيس، وهو يحاول القعود للاستراحة تحت خروبة في ضهر صغار.
1
وقبل أن يجيب الشدياق، قال المطران بتحسر: صغار لفظة سريانية ومعناها السكرة - القفل - فهل معنى ذلك أن بلادنا تسكر بوجهنا؟ العلم عند الله وحده. هذي آخر نظرة نلقيها على آخر حدودك يا كسروان.
وبان في وجه المطران وخوريه حزن عميق، ثم التفت المطران إلى الخوري، وقال له: ترجع أنت من كفيفان،
2
فأنا صرت في غنى عن شقائك معي. أنا دائر على باب الله بعد اليوم، أما وجهتي فإلى خارج لبنان. قوموا امشوا.
وما صاروا في فم الوادي حتى التفت المطران إلى تلميذه القديم الشدياق سركيس وقال له: هذا وادي حربا يا شدياق.
فتنحنح الشدياق وقال: ونحن في حرب يا سيدنا، نحن نحارب الظلم والاستبداد، كما علمتنا، حتى نموت. - لا يا ابني، رجوعك إلى بيتك أحسن لك. إذا كانت عامية لحفد ما ثبتت في وجه المير، فكيف تتأمل، وأنتم جماعة قليلة، أن تقاوموا حاكما عنده المال والرجال؟ الأفضل أن تقعد في بيتك تنتظر الساعة ... ربما أتت. - إذا أنا قعدت في بيتي، وأنت قعدت في ديرك، فمن يبقى في الميدان؟ لا بد من المقاومة، لا بد من الموت لمن يطلب الحياة.
فالتفت المطران إلى تلميذه التفاتة مجنونة، وتعجب من هذه الصلابة.
استعرض حياته المدرسية، فتذكر أنه كان لا يسكت عن استبداد معلميه، فالتفت إلى الخوري معاونه في عين ورقة التفاتة وقال له: نسيت حين هاج الشدياق التلاميذ عليك لاستبدادك، ها هو يفعل ذلك اليوم.
فالتفت الشدياق إلى الخوري واستجمع ذاكرته، فما ذكر شيئا عن هذا الخوري، فقال في نفسه: فمن هو يا ترى؟
ورأى المطران والخوري يبتسمان لهذه الذكرى، فتضاحك وقال: تقول لي ارجع إلى بيتك، وأنت عازم على مبارحة لبنان! اعمل، يا سيدنا، ما تريد أن أعمله أنا.
فصاح المطران: هيهات!
وأجاب الشدياق: أنت هيهات، وأنا هيهات.
والتفت الأسقف إلى صخر قائم على جانب مدخل الوادي الشمالي وقال : أتعرف ما كتب على هذا الصخر؟ هذا اسم قائد يوناني افتتح بلادنا لدولته. - وأين هي دولته اليوم؟ - راحت ...
فصاح الشدياق، كأنه يرى ساعة النصر العتيدة
3
أمام عينيه: مثلما راحت دولة اليونان والرومان والدول الأخرى، كذلك يروح حكم الشهابيين، وتمحى الإقطاعية إذا قاومنا وصبرنا. أما قلت في وعظتك اليوم: من يصبر إلى المنتهى يخلص؟ فأنا صابر، وأظل صابرا حتى تعود أنت كما أنت، تقضي بالعدل بملء حريتك، لا يقول لك مير أو شيخ أحكم على هذا، وبرئ هذاك. هذا ما أنا ثائر لأجله، وما دام يحلم برأسك ورأسي، ورأس غيري من المقاومين، فالأفضل أن نموت ولا نستسلم له ليتشفى بقتلنا. وإذا سمعت مني يا سيدنا بقيت في بلادنا متخفيا. هنا علينا أن نقاوم، هنا يجب أن نصلح. ما لك وموارنة أضاليا؟
4
سواء عندنا أضلوا أم اهتدوا!
وما بلغوا نهاية «وادي حربا» وأطلوا على «الكراسي»
5
حتى قال المطران للشدياق: تأمل كيف تدور الأيام، فبنو حماده حكام هذه البقعة غلبهم المير يوسف وانتزع الحكم من أيديهم، وأعطى الرهبان أملاكهم بعدما شنقهم. ودير كفيفان الذي تقصده الآن وعقاراته كلها كانت لهم. وزيتون وطاعين كفاع، ووطا كفيفان هو منهم، أبقاه المير يوسف له فصار اليوم ملك المير بشير. تأمل كيف كان بنو حماده يحكمون هذه الأرض وكيف صاروا اليوم. - وما زلت تعرف دورات الزمان، فلأي سبب تأمرني بالخضوع والتسليم؟
وقف الشدياق عند هذا الحد حين رأى بضعة أشخاص مقبلين نحوهم. عرفهم أنهم من رجال المير؛ لأنه التقاهم منذ أيام في ترتج،
6
حيث كانوا يحبون الأموال الأميرية. وبدأ المطران يتحدث عن «خلاص النفس» حين غمزه الشدياق، وظل ماضيا في كلامه حتى بلغا المفرق، فاتجه ورفيقاه شرقا، وظلت شرذمة
7
الخيالة مجدة في وجهتها قبلة، وبعد مسير نصف ساعة كان المطران والخوري والشدياق في دير كفيفان القائم شرقي القرية.
وفي ذلك الدير المنفرد، في رقعة حمراء التربة، قليلة الشجر، صرفوا نهارهم آمنين، وما أمسوا حتى رقدوا. أتعبهم السير والسهر ليلة العيد. والمطران كان يشهده من بعيد، ويسمع بعض ما يقال.
والشدياق كان يغني ويحاول إثارة الخواطر وإهاجة الشعب على الحكومة، كما مر.
واستيقظ المطران مع الفجر وأيقظ الشدياق وخوريه، ثم استدعى رئيس الدير وقص عليه خبره، وسأله أن يعد له ثوبا من ثياب شركاء الدير، وترك للدير صليبه وخاتمه وثيابه، ثم أخبر الرئيس أنه وهب «كأس التقديس»
8
إلى كاهن من بني صقر في بجة،
9
وأنه لا يحق لأحد أن يطالب به أو يسترده؛ لأنه ملكه الخاص ولا علاقة لوقف عين ورقة به.
وبعد ربع ساعة استحال المطران شحاذا، وودع الشدياق سركيس طالبا منه الإخلاد إلى السكينة، وانتظار مشيئة الله الكائنة لا محالة، ولا تكون إلا خيرا.
فأخذ الخوري يبكي لفراق سيده. أما الشدياق فوقف ومد يده اليمنى نحو كنيسة الدير وقال: وحقك يا مار قبريانوس كفيفان، يشهد علي ربي وجميع القديسين أني لا أكف شري عن المير وجماعته حتى تعود، يا سيدنا، إلى ما كنت عليه. فإن رضي عليك المير وأجاب مطالب الشعب الذي قدته سيادتك، رضيت أنا ولزمت بيتي، وإن بقيت هكذا مشردا فلا يردني إلا الموت.
وكان موقف الانصراف مؤثرا جدا. ذهب المطران شمالا ورجع الخوري والشدياق على أعقابهما، وفي الطريق كان الخوري يوسف حائرا بأمره لا يدري أن يذهب، فقال له الشدياق: ما افتكرت أن تعمل؟
فأجاب الخوري: كنت مع سيدنا خاليا من الهم، والآن أنا متحير. - ماذا يحيرك؟ كما كنت أنت في خدمة المطران، نكون نحن في خدمتك وتكون معنا. لا بد لنا من سماع القداس يوم الأحد والعيد، لا بد لنا من الاعتراف والمناولة. إذا كنا ثائرين على المير فنحن ما زلنا عبيد الله، وإذا قتلنا خصومنا فنيتنا سليمة وغايتنا طيبة. غايتنا نصرة الشعب المظلوم. نحن يا محترم - وأنت طبعا تعرف اللاهوت
10
أكثر مني، في موقف الدفاع عن النفس - اشتهينا العضة من الرغيف
11
في أيام سعادته. نحن نزرع وهو يحصد. نحن نجمع وهو يأخذ ما نجمع بزرية وشاشية وفردة وشونة!
12
يدعونا إلى القتال فنلبي، ومتى انتصر يحاربنا إذا لم نعطه ما يطلب. يشد عليه الباشا الزيار
13
فينهب بيوتنا ليرضيه، ويدفع ثمن الخلعة المطروحة بالمزاد. فأحسن عمل تعمله، يا محترم، هو أن تكون معنا، يصيبك ما يصيبنا. ما أنت خير منا ولا أحسن. إذا سمعنا القداس كل أحد وعيد يوفقنا الله ونقهر أعداءنا ...
والتفت إليه الشدياق سركيس ليرى فعل كلامه فيه، فرآه يبتسم. - ما لك تبتسم؟ أعجبك هذا الرأي؟ إذا كنتم أنتم الخوارنة لا تؤيدون ثورتنا فمن يؤيدها؟ أتظن أن الثوار لا يحتاجون إلى الوعظ وسماع كلام الله؟ إن لكلام الله قوة عظيمة؟ فهو ينخي
14
الرجال ويقويها.
فلو قلت مثلا للعصابة: إن يد الله مع الجماعة، كما قال سيدنا أمس، ولو قلت لهم: أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله، فإنهم يتشددون ويعرفون أنهم يعملون إرادة الله. فإذا رأوا خيالة المير يبلصون الشعب هاجموهم ببسالة وقتلوهم، وما خافوا أن تهلك نفوسهم ويعذبوا في جهنم.
والتفت إلى الخوري فرآه يضحك، فتعجب كيف لا يعرف هذا الخوري إلا الضحك.
ولما دخلوا قرية «تولا» قطع الشدياق حديثه، وأخذ يتحدث عن أسعار البقر والمعزى والحمير ليوهم السامعين أنهما يرغبان في شراء هذه الحيوانات. وقبل أن يصلوا إلى ساحة الكنيسة أقبلت عجوز مسلمة على الخوري فقبلت يده بكل احترام، فالتفت إليه الشدياق فرآه يبتسم. وسألت العجوز الخوري أن يسمع اعتراف زوجها المريض؛ لأن خوري الضيعة غائب، والمريض في حالة خطرة، فامتنع الخوري وقال لها: نحن مستعجلون يا بنتي.
فقال له الشدياق: هذا لا يجوز يا محترم.
فضحك الخوري، فقال الشدياق في نفسه: هذا الخوري لا يعرف غير الضحك. قصته عجيبة والله!
وكانت المرأة تتضرع إليه وتلح فقال لها: يا أختي أنا خوري جديد، ما فوض إلي البطرك بعد أن أسمع الاعتراف.
فحملق الشدياق سركيس قائلا: يا بونا!
15
الضرورة تحل من الناموس.
16
مريض ينازع تقدر أن تسمع اعترافه وتحله من جميع خطاياه. يظهر أنك لا تحب عمل الخير، أو أنك لم تدرس اللاهوت على معلم ماهر. هكذا علمنا المطران يوسف الذي ودعناه منذ ساعة.
فبهت الخوري، فأخذه الشدياق بطرف جبته وقاده إلى البيت، وهو يقول له: ادخل. لا تترك الرجل يهلك، وفي مكنتك أن تخلص نفسه.
ودخل الكاهن والشدياق على المريض، فمات لافظا روحه مع «الحلة».
17
وبينما كان الشدياق والخوري سائرين في طريقهما كان الجرس يقرع حزنا، معلنا وفاة مؤمن مات على رجاء القيامة، وإيمان بطرس إيمانه.
ودخلا في مضيق بين جبلين، فكان الخوري ينظر إلى الطريق متعجبا من وعورتها، فقال له الشدياق: هذه طريق سهلة، قدامنا أبشع منها. شد حيلك
18
يا محترم.
فضحك الخوري، فتعجب الشدياق لضحك بلا سبب. ولما ابتدأت طريق «القطين» وانسكبا فيه انسكابا، قال الشدياق: هذه هي طريق الحق والحياة التي سمعنا الكلام عنها في إنجيل الأحد الماضي. إن طريق الدفاع عن الحرية وعرة وصعبة، ولا بد من قطعها لشعب يريد أن يعيش ويقاوم الحكام الظالمين، فاعتمد على مساعدتنا وابق معنا. أما رأيت كيف أنك عملت اليوم أعظم عمل وربحت أكبر أجر؟
فالتفت إليه متعجبا جاهلا أنه أتى عملا. فقال له الشدياق: ما لك تشير بيديك متجاهلا؟ نسيت أنك خلصت نفسا كانت هلكت لولاك؟
فضحك الخوري ضحكة فاقت جميع الضحكات السابقة، فكاد الشدياق يجن من هذا الضحك، وأراد أن يستفهم عن أسبابه، ولكنه سكت.
وسارا في طريقهما فكان الخوري يكوكي
19
فيها خائفا، تارة تصطك ركبتاه، وحينا يكبو،
20
وكثيرا ما يفقد توازنه فيسنده الشدياق، وما صدق أنهما وصلا النهر، فزفر زفرة حرى وارتمى على «بلاطة الشالوق»
21
حيث استراحا نحو نصف ساعة.
وسأل الخوري رفيقه: إلى أين بعد هذا؟
فأخذه الشدياق من كتفيه وحول نظره إلى مغارة لم ير الخوري مثلها في حياته، وقال له: إلى هنا الدير، دير القطين.
فقال الخوري: هذا دير؟ إنها مغارة تتسع لحيوانات نوح كلها! أي شغل لي في هذا الدير؟
فأجاب الشدياق: نلتجئ إليه، ونحاصر فيه ساعة الشدة فلا يقوى علينا أحد. وفي هذه المغارة كل ما يحتاج إليه الخوري، حتى المذبح. فهو على اسم «السيدة» عليها السلام. هناك تقدس لنا كل أحد وعيد.
فضحك الخوري ضحكة كبيرة، فتعجب الشدياق، ولكنه صبر عليه منتظرا دخول المغارة، ثم نهضا وصعدا في تلك العقبة التي لا تقطع إلا بصعوبة عظيمة، ولما بلغا مدخلها قال الشدياق للخوري، وكلاهما يلهث ككلب صيد تعب من المطاردة: هذا هو الباب الضيق، الذي تحدث عنه المسيح في إنجيله الطاهر، ووصانا بدخوله، وإذا كنا نحن العلمانيين نحاول دخوله، فكيف الكهنة مثلك!
فقال الخوري: آه! ... وضحك.
ولما قعدا على حجرين قبالة مذبح السيدة قال له الشدياق: بعد غد أحد «الوردية الكبيرة»
22
ستقدس لنا وتزيح،
23
ونعترف جميعا ونتناول من يدك الطاهرة ...
فاستغرق الخوري في الضحك، ثم شال
24
قاووقه
25
عن رأسه، ووضعه حده قائلا: اقعد يا خوري! ثم حسر
26
جبته فبان خنجره وغدارته
27
وطبنجته
28
من تحتها، وقال: قم يا خير الله. أنا يا شدياق، لست خوريا. ما سمعت بخير الله اسطفان؟
فالتفت إليه الشدياق مشدوها، وأومأ برأسه أن نعم. وبعد هنيهة انحلت عقدة لسانه فقال: أنت خير الله؟ ما عرفتك يا خير الله، تغيرت يا رفيقي.
فأجاب خير الله: أنا هو ... كنت في حراسة عمي؛ وسأبقى معكم لأن المير يطلبني كما يطلبكم، دمي يعجبه مثل دم عمي ودمكم.
وكانت عصابة الشدياق متخفية في تعاريج
29
الكهف وثناياه، فعندما رأوا رجلا يكشف عن سلاحه المخبأ، ظنوه جاسوسا فهجموا هامين
30
به، فصاح بهم الشدياق: وراءكم! هذا منا وفينا.
وبينا كانوا يتحدثون ويدبرون أمرهم، عاد رجل منهم وكان قد ذهب يتجسس ليعرف ما عمل المير قاسم حين بلغه ما قيل في العيد سبا
31
بأبيه، فخبرهم أن الشيخ يعقوب البيطار جاء خلف المطران يوسف ليخبره أن المير رضي عليه، فقالوا له: إنه غادر دير مار عبدا، متجها شمالا، فجد في إثره.
فقال خير الله اسطفان: خاطركم يا شباب، لا بد من اللحاق بعمي. فالشيخ يعقوب يكون الليلة في «بسبينا».
32
لا بد لي من الاجتماع به، فرجت إن شاء الله.
فضحك الشدياق وقال له: قل لعمك عن لساني، لا يغره عفو المير، هذا غدار، قلبه أقسى من الصوان. قل لعمك عن لساني أن يأخذ حذره منه، فقلب المير لا يصفو. يظهر الطيبة
33
لكنه مكار. قل لعمك أن يراجع تاريخ حياة المير بشير، وهو أعرف الناس به؛ لأنه كان قاضي الجبل عنده. المير لا دين له، ما له مذهب ولا مركع. مذهبه السلطة ودينه الخلعة. قل له أن يتذكر كم قتل من الناس. إن رص
34
البصلة أصعب على المير من رص هامة
35
إنسان! وبالاختصار أنا خائف على عمك.
فأجاب خير الله: تغير الموقف، لا بد لي من اللحاق بالشيخ وعمي.
فقال الشدياق: سلم عليه وقل له إني باق على العهد، فإن صفت له الأيام فليذكرنا في ملكوته ... وإن تحقق ظني وغدر به المير فأنا باق على عهدي، لا أحول ولا أزول، فإما أن أموت وإما أن ينتصر الشعب. أظل على عهدي حتى آخذ بثأر الثمانين الذين قتلوا في عامية لحفد. يا بطرس، يا خالد، يا إلياس، قوموا رافقوا خير الله إلى مدخل وادي حربا. يا خير الله، بسبينا حد كفيفان
36
خذ عن شمالك. ولكن تغد قبل الرواح.
فاعتذر خير الله عن الأكل وقال الشدياق: زودوه، ربما جاع في الطريق، يا خير الله تغد على عين شمونا. نبع ماؤه أطيب من العسل.
فقال خير الله: وأين عين شمونا؟ - على كتف وطاجران، على شمالك قبل أن تصل إلى كفيفان.
ومشى خير الله بخفارة
37
رجال الشدياق حتى دخل وادي حربا، أما الشدياق فاجتمع إلى أبي ناصيف وقال له: الليلة نهاجم «حاقل»
38
ننهب ما ننهب ونقتل ما نقتل. أهل حاقل هم الذين خانوا رجال عامية لحفد، وأظهروا الإخلاص والطاعة للمير حينما نزل بعسكره على العين.
وما أقبل المساء حتى كان الشدياق ورجاله يسيرون في النهر صعودا. وفي أول السهرة بلغوا «الخاربة»
39
ومنها ارتقوا إلى السبيل،
40
ثم هبطوا حاقل، وكانت وقعة بينهم وبين فصيلة من عسكر المير جعلت مركزها حاقل لثقتها بأهاليها.
وانجلت المعركة عن مقتل رجل من العصابة، قطع رأسه قائد العسكر وبعث به إلى المير قاسم على أنه رأس الشدياق سركيس، وقاسم أرسله إلى والده اكتسابا لرضاه، وشفاء لنفسه المتعطشة إلى دم خصومه ، ولكن أحد رجال المير بشير نفى أن يكون ذلك الرأس رأس الشدياق؛ لأنه يعرفه حق المعرفة.
أما «أبو ناصيف» فشاع عنه أنه هو الذي قتل في شر حاقل، فاحتفل ذووه بمأتمه احتفالا صارخا، وبلغ المير قاسم موته فصدقه واستراحت الضيعة وزوجته الفتاة من ضغط العسكر، وطالت أعمار البقر والمعزى والغنم والدجاج ...
دير القطين
دير القطين كهف لا أخ له في لبنان. بناه قدماء الرهبان الجبابرة في أحشاء جبل تطاول قمته أسمى القمم المناوحة
1
جبل معاد. ومعنى القطين في لغة العوام: الكهف العظيم؛ ولهذا سمي الدير باسمه، ولعله كان نحو ثمانين مترا طولا في ثلاثين ونيف علوا واتساعا، تنبئنا عن هذا العلو تلك الغرفة الباقية، معلقة كالحرز
2
في عنق الجبل، ويسميها أهل القرى المجاورة «أوضة الريس»؛
3
لأننا كما يقول مثلنا: نحب العلى ولو على الخازوق.
فإذا جئت هذا الدير - الكهف اليوم - رأيت في طرفه الشرقي معبدا ذا حنيتين،
4
تحتل «السيدة» إحداهن حتى الساعة، وهي معروفة باسم سيدة البزاز، تزورها الأم القليلة الحليب فترجع من عندها وأقل ما يقال فيها: لله درها
5 ... والمظنون أن السيدة قد اكتسبت هذا اللقب من رواسب متحجرة مدلاة في سقف تلك المغارة على شكل الثدي أي: البز.
تزعم الناذرات
6
أنهن إذا بخرن هذي الثدي المتحلبة
7
ينقط منها الماء، ومتى حصل ذلك تؤمن المرأة أن نذرها قد قبل، وطلبتها استجيبت وستدر لولدها.
وإذا سرت في اتجاه الغربي قاطعا الكهف، رأيت عند نهايته بناء ما يزال قائما، وشاهدت في هذا الجدار الكثيف منافذ واسعة من الداخل، ضيقة من الخارج، تشبه المرامي
8
التي في القلاع القديمة.
كان الرهبان يرصدون منها حركات الأعداء، ويرمونهم بالحجارة وغيرها ليصدوهم عن ديرهم. فالصعود إلى هذا الدير صعب جدا، حتى كأن الإمام علي عناه بقوله: ينحدر عني السيل ولا يرقى إلي الطير.
تقوم فوق هذا الدير صخور عالية جدا، وهي ملساء كأنها نشرت بمنشار، فلا يستطيع حتى الطير التعلق بها. يعيش في نخاريبها نحل كثير آمنا إغارة البشر على عسله ، وتعشش كواسر الطير في شماريخها مطمئنة إلى فراخها.
يحسب الناظر، من بعيد، هذه الصخور جدارا قائما، وفوق هذا الجدار صخور مرصوفة، من عهد نوح، صفوفا صفوفا، وأدراجا أدراجا. وعند انتهاء هذه الأدراج تطبق على القمة صخور تشبه - مجتمعة - السلحفاة الجاثمة.
إن الذين يعتصمون بهذا الكهف لا يؤخذون إلا بالتجويع والعطش. أما في غير هذا فلا يمكن أن يدركهم أحد إذا كانوا مستعدين، فإنهم يقتلونه بما يدهدون
9
عليه من صخور كانوا يعدونها في مغارتهم كعتاد حربي - في ذلك الزمان - لا بد منه في الملمات.
أما من يجرؤ من الأعداء على الهبوط إلى النهر ليقتحم الدير ويأخذه عنوة، فإنه ينام هناك تحت الردم نومة الأبد ... حصار تعجز عن فكه طائرات اليوم وقنابلها ذوات الأطنان. فالدير جبل حقا، ويا جبل ما تهزك ريح.
منظر وعر
10
يخافه أشجع الناس في وضح النهار، فإذا قعدت في ذلك الكهف وتأملت قليلا الجبال المطبقة عليك، بدت لعينك المغاور أشكالا وألوانا، بعضها كالعيون تنظر إليك نظرات تفزع وتخيف، ومنها ما هو كأشداق الحيتان، تخالها مفتحة لتزدردك،
11
وبعضها كالصدور المنحنية كأنها تريد أن تضمك فتعصرك.
وفوق هذه صخور كالشيوخ المحدودبة، تخاف منها أن تنطوي عليك فتهرسك.
12
وهناك مغارة ذات بابين يسمونها مغارة العينين، تزعم أساطير الضيعة أن فيها وفي جاراتها «الرصد»،
13
وأن المكان كان مأهولا بالجن قبل أن استعمرت المكان «السيدة» وأجلتهم عنه.
وإذا تأملت رأيت شماريخ الصخور تمثل لعينك أشياء عديدة من مخلوقات الله، وإذا نظرت في سقف الدير رأيت أعشابا تتدلى كأنها زينة أقامتها يد الخراب، وفي الجدران نبات مختلفة أسماؤه، منه العطري كالقويسة، والصعتر، ومنه الكريه الرائحة كالفيجم، أما الأشجار النابتة في الصخور، حيث وجدت لها غذاء، فهي في الغار والبطم والسنديان والعفص.
لا يمكن الناس أن يدخلوا هذا الدير إلا واحدا واحدا، متعلقين بالصخور تعلقا، وإذا زلت بأحدهم قدمه لقي حتفه في النهر. والقدماء والمحدثون يسمون هذا المكان «العاصي»، وقد تدهور هناك أناس كثيرون فقتلوا، والتقليد يحفظ أسماءهم الكثيرة.
هذا هو الوادي الذي يقي حقا لفحة الرمضاء،
14
ويحنو على ضيفه حنو المرضعات على الفطيم. فإذا قعدت فيه فلا ترى من السماء إلا مقدارا يسيرا، وإذا جئته في كانون ترى النجوم صلاة الظهر.
15
إن أول ما يواجه الداخل إليه مذبح السيدة القائم قرب فم مغارة لم يدرك آخرها رجل بعد. إذا توغلت فيها قليلا تسمع هديرا
16
فتفزع وتعود على عقبيك، وإذا تمشيت لتقطع الكهف طولا تسترعي انتباهك أشياء من صنع يد البشر، يظن أنها آثار معاصر عنب أو غيرها.
لا يدركك السأم في ذلك المكان، على وحشيته ووعورته. الأطيار المختلفة الأصوات والأشكال تغنيك، فهناك الحجل، والغراب، والترغل، وأبو زريق، والحسون، وكل الأطيار التي تألف لبنان ...
وإذا سكتت الطيور فالقرقضون - السنجاب - يناجيك، ويترنم لك ليلفت نظرك ويغريك جماله الفتان. أما الماء ففي مجرى النهر الشتوي يطمه
17
في الشتاء ما يجرفه السيل من تراب وحصى، ويكشفه الرعاة المضطرون إلى الماء في آخر الصيف، فيروون غليل قطعانهم.
في الهيكل قنديل قديم جدا قلاووني الشكل، ما زال الناذرون والناذرات يمدونه بالزيت.
يعلوا موقع هذا الكهف عن الأرض نحو مئتي متر، والجبل الذي يقوم فوقه قياما عموديا لا يقل ارتفاعه عن أربع مئة متر.
وقصارى الكلام كان هذا الدير حصنا حصينا يتوارى فيه الشعب اللبناني هاربا من وجه حكامه الظالمين، الذين كانوا يكتفون بنهب البيوت إذا لم يجدوا السكان. أما كيف خرب هذا الدير، ففي المحيط أسطورة تروي حكاية عن سكانه لا محل لها هنا.
قهوة الأمير الأحمر
ما وجد الشدياق سركيس وعصابته حصنا أمنع من دير القطين فلجئوا إليه.
كان الدير مخوفا في كل حين، لا يأمن زائره غدر قطاع الطرق اللاجئين إليه، أما الآن فصار مقر عصابة منظمة عجز المير بشير عن تذليلها وإخضاعها. ففي سرداب
1
المرامي كان يتناوب رجال الشدياق سركيس الرصد
2
والسهر، حتى إذا أحسوا بعدو كثير العدد، انسلوا صوب الشرق واختفوا في جيوب الوادي، وإن كان العدو قليلا ثبتوا له وأرهبوه، فيعود على أعقابه.
ولزيادة الحذر والاطمئنان كان الشدياق يجعل أحد رجاله على «شير الكروم»
3
فيرصد الطرق جميعها، وهكذا تأمن العصابة الغدر من كل ناحية.
وبعد غارة «حاقل» الآنفة الذكر، استقرت عصابة الشدياق في دير القطين، وكانت كلما سمعت بجباة الأمير نهضت للتنكيل
4
بهم، فيقطعون عليهم الطريق ويشلحونهم ما جمعوا، وكثيرا ما كانت تسفر هذه المناوشات عن قتلى وجرحى من الطرفين.
وفي يوم صافي الأديم
5
من أيام تشرين الثاني، بينما كان الناس يزرعون في الجبل المناوح
6
للدير، وفي الأرض الممهدة فوق ظهر الدير، وتحت أقدامه وحوله وحواليه، كنت ترى تلك الأرض القفراء كأنها بلد آهل بالسكان.
وكان الشدياق سركيس جالسا في فم الكهف قبالة زميل له يلعبان «الدريس»، يلعبان ويتحدثان ويدخنان الشبق - الغليون - فينعقد الدخان في الفضاء حلقات حلقات، وتنبعث رائحة التبغ الزكية، فالأهالي كانوا يهدون إليهم أجود التتن وأطيبه، تشجيعا لهم من جهة، وخوفا من سطوتهم واعتدائهم عليهم إذا لم يقوموا بالواجب ...
فكان الناظر إلى الشدياق سركيس، إذا رآه قابضا بيده على ماسورة الغليون التي تتجاوز الذراع طولا، وشاهد الدخان منبعثا من فمه ومنخريه، ومن بين شعرات شاربيه ولحيته، يخال أن هنالك «حريقة» تستدعي استقدام الإطفائية.
وما أخذ زميله بحصة - حصاة - حتى قال له: ما لك حق، ردها. لا «تزعبر».
7
صرت مثل سيدنا المير لا يهمك إلا أن تغلب وتأكل ... - طيب ... رجعتها يا سيدي. - العب. - لعبت.
قال هذا ونقل بحصة. فأكل الشدياق سركيس، وواتى اللعب رفيقه فأكل أيضا.
وفيما هما يلعبان ويتنادران، بدا لهما هر في الجبل، وراء النهر، فصاح رفيق الشدياق: تأمل يا شدياق تأمل. هذا بسيننا حيمور، قالوا لي إنه ترك البيت يوم تركته وتبعتك.
فضحك الشدياق سركيس بملء فكيه، وقال: ربما كان في البسينات أوادم وثوار مثلنا. - العب. انقل بحصتك. الدق لي ... - الدق لك؟ من قال؟ - أنا قلت ...
وحانت من الشدياق التفاتة فوقعت عيناه على وحش فصاح: ضبع! فأطلق رجاله بندقياتهم فاقشعر جلد
8
الوادي، وظن الفلاحون أن الواقعة وقعت بين رجال المير والعصابة، ففكوا
9
بقرهم وسربوا،
10
فكان حظ البقر راحة ساعة زمان.
وقدم أبو ناصيف من مرقبه وعلى وجهه كآبة وحزن، فأشار الشدياق سركيس برأسه مستفهما، فقال أبو ناصيف: خبر منحوس. جاء خبر المطران يوسف. - المطران يوسف؟ لا! - بلى. - وكيف مات؟ - تسأل كيف مات وعند المير بن وسكر؟
فقال الشدياق بحزن وأسف: مسكين معلمنا! نصحته وما انتصح. قلت له: خذ حذرك، لا يغرك وعد المير، وعفو المير، هذا جبار. حليم عند عدم المقدرة. رحمة الله عليك يا مطران يوسف، يا عدو الظالمين، ويا حبيب قلب الشعب المظلوم.
قال هذا ثم نهض من مكانه ونفض ما علق في أذيال غنبازه من هشيم وتراب، ونادى: شباب اتبعوني. أين هو الرقيب؟ امشوا كلكم.
وسار أمامهم حتى وقفوا أمام مذبح السيدة، وهناك غمس الشدياق أصبعه بالماء المقدس، ومسح جبهته بزيت قنديلها، راسما عليها شكل صليب، ثم وضع يده على الصورة وقال: وحقك يا سيدة البزاز، لا أرجع عن مقاومة المير ما بقي لي رجل تحملني.
والتفت إلى عصابته وقال: عاهدوني.
فصاحوا جميعا: عاهدناك ونعاهدك.
وكان قد انتصف النهار، فسمعوا جرس عين كفاع يدق الظهر، فحسروا
11
عن رءوسهم و«بشروا»
12
وأكلوا.
وبعد الغداء قر رأيهم على مهاجمة المير قاسم في جبيل، فإن قدروا كان خيرا، وإلا كان عملهم هذا ردا على غدر والده بالمطران اسطفان، مستشار عاميتي انطلياس ولحفد.
وفي ليلة عيد رأس السنة كانت العصابة على أبواب جبيل، ولكنها ارتدت خاسرة. قتل من رجالها ثلاثة، ومن عسكر المير قاسم واحد، فتفرق رجالها في البلاد تاركين حصنهم إلى حين.
وبلغ الأمير اعتداؤهم المتواصل، ورأى أن ابنه عاجز عن القبض عليهم وكسر شوكتهم، فأرسل خيالته ليتعقبوهم في البلاد، فكان الخيالة يحتلون كل قرية مر بها العصاة، آكلين مئونة الأهالي، ذابحين الدجاج والغنم والمعزى والبقر. فضجت البلاد، واستصرخت البطرك الجديد الحبيشي، فكتب إلى سعادة المير يلتمس منه كف شره عن الأهالي، فلا يؤخد البريء بجريرة
13
الجاني، وتعهد صاحب الغبطة لسعادة المير بإعلان الحرم
14
الكبير في قرى بلاد جبيل، ومن يجسر بعد ذلك على إيواء الثوار ومدهم بالذخائر؟
وكان الشدياق إذ ذاك معتصما في اللقلوق مع من بقي حوله من رجاله، فقال حين بلغه هذا الخبر: الآن صرنا كما قال المثل: مثل الحجر بين شاقوفين. حاكم إقطاعي، وبطرك إقطاعي، كلاهما من غزير. انخلي يا ليلى واعجني يا زمرد.
حكم إقطاعي دينا ودنيا. الشعب المسكين يتنكر لنا خوفا من «الحرم» فأين نهرب؟ لا بد من الصبر. السياسة تخلق ما لا نعلم.
ثم قال لرجاله: ما العمل يا شباب؟
فأجاب أحدهم: الموت حاصل في الحالين، نظل نجاهد حتى تفرج.
فقال الشدياق: وهذا رأيي، فلنغب مدة عن البلاد كما غاب «سعادته»، ولعلنا نعود كما عاد.
فقال آخر: هو غلط، والأوفق أن نتخفى في البلاد فيظنوا أنهم استراحوا منا، ثم نهاجمهم متى أتت الساعة.
وبعد مناقشة دامت ساعات أجمعوا أمرهم وتفرقوا في البلاد متنكرين، فصار الشدياق سركيس معلما في قرطبا، يدرس الأولاد العربية والسريانية والحساب، ويعلمهم الخط بالقلمين: العربي والسرياني. واستحال رجاله فلاحين وبنائين وأجراء، وكلهم ينتظرون الساعة التي يطفح فيها الكيل ليشعلوا نار الثورة.
وحدثت في البلاد، أثناء ذلك، أحداث جسام، فاستراح الأمير قليلا من مناهضة
15
بلاد جبيل، ولكنه لم يسترح من مقاومة خصومه في الشوف.
اشتد النزاع بينه وبين «المناصب»
16
فتألبوا عليه. وكان الشدياق يعلم ويستقي الأحداث، ينتظر بين ساعة وأخرى حدثا جسيما ولا يدري على من تدور الدائرة فيه.
وكان الأمير بشير يحوك شراك الدسائس، وينصب الفخاخ لخصومه، والناس في البلاد فريقان: واحد مع المير بشير، وآخر مع سميه الشيخ الجنبلاطي. وكما تكون الحالة في الشوف كذلك تكون في بلاد جبيل، فهي حزبان أيضا، حزبان سياسيان لا يهمهما الدين والطائفة. يجمع حزب المال ليشتري الخلعة لزعيمه، فيدفع كل واحد من الحزب ما يقدر عليه دونما نظر إلى الملة والمعتقد.
ورأى الشدياق سركيس أن الوقت قد دنا، فلم شمل عصابته، وعاد إلى وكره دير القطين، حصنه الحصين.
عادت العصابة في أوائل الصيف، تظهر الفئوس والمعاول والمناجل، وتخفي الغدارات والطبنجات والمجهريات والخناجر.
وها هي مغارة القطين - الدير المذكور - حافلة برجال من جرود كسروان يقطعون الأشجار ويصنعون الفحم. ها هم يعملون نهارا، ويغنون ويزمرون ويرقصون ويدبكون ليلا، فأصبح ذلك الوادي ساهرا طروبا. صار ذلك الكهف الموعر حافلا بالمسرات واللهو كبيوت الوجهاء العظام، ناهيك أنه صار بندرا
17
تجاريا تأتيه المكارون كل يوم، ناقلة الفحم إلى المدن ...
وقعة الأمير قاسم
وأهدى الأمير بشير إلى ولده قاسم، نائبه في بلاد جبيل، «جفتا» جديدا بمناسبة موسم صيد الحجل. وكان قاسم قد أمن شر عصابة الشدياق سركيس، واستراح من غاراتها على مقاطعته، فخرج صباح يوم من منتصف آب يطارد حجال المنطقة الساحلية في بلاد جبيل، بعد أن طارد الرعية عند قطف الشرانق وجبى ما جبى من الأموال، وأدى لوالده «الأكياس» كاملة غير منقوصة ...
خرج من بعشتا
1
مصعدا في ذلك النهر الشتوي، وتفرقت رجاله في الجبلين من عن يمينه ومن عن شماله، وظل الموكب مصعدا حتى بلغ طريق السكة عن نهر غلبون، فانعطف صوب «الصليب» يقصد وادي عين كفاع، حيث تكثر الحجال في تلك الأرض الحمراء التربة، الصوانية الحصى.
مر موكب الأمير متفرقا في «الوطا»
2
حيث تملك الإمارة كثيرا من أشجار الزيتون، ولا يزال يعرف عند حكومة اليوم باسم زيتون الميري أو البكليك، فذهب بعض نزولا، وراح فريق طلوعا، واتبعت جماعة الطريق العام، حتى بلغت النهر الذي هو التخم
3
الشمالي لمقاطعة بلاد جبيل التي يحكمها المير قاسم.
لم تكن تلك أول مرة يجيء فيها الأمير قاسم هذه المنطقة، فأكثر الناس يعرفونه؛ لأنهم إليه يرجعون في قضاياهم كلها.
وكان قد سرى خبر قدوم المير للصيد فتحسبوا، ظنوا تلك الزيارة خدعة فاستعدوا. الملسوع يخاف من جرة الحبل، ومن يدري ما ينوي الأمير، فقد يتظاهر بصيد الطيور وتكون غايته صيد الناس، أو محصولاتهم وأموالهم على الأقل، فوقف الشعب حذرا، وتذكرت عصابة الشدياق سركيس، وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر ...
وكان أبو ناصيف في مرصاده على «شير الكروم»
4
يتظاهر بأنه يقطع الحطب، ولكنه يراقب الرائح والجائي.
ولما ظهر المير عند غبالين،
5
انحدر أبو ناصيف إلى الوطا، ووقف في قارعة الطريق ليرى أين يتوجه سعادة المير الصغير، ولكي يتأكد إذا كان هو، أو أن هناك أحدا غيره من هذه السلالة المباركة ...
رأى رجلا أدكن
6
اللون، قصير القامة، ممتلئ الجسم، ضخم الشفتين، فقال في نفسه: هذا هو. - تفضلوا يا إخوان، حولوا، كلوا عنبا وتينا ...
هكذا ابتدرهم أبو ناصيف ببساطة أعجب بها المير قاسم الكريم الوديع، فشكر هذا الفلاح على كرمه الطبيعي، فهو يعرف عادات البلاد وكرم أهليها. والبلاد تعرف من أمثالها، والمثل عندهم يقول: فلان كرم على درب.
ابتسم المير قاسم لبو ناصيف وقال له: زاد فضلك يا عم. أكلنا من خيرك. كيف حالكم؟ - العفو، كله من خير سيدنا المير، اللحم الذي على أكتافنا من خير سعادته ... فلولا حكمه العادل ما بقي عندنا غلة، ولكنه - طول الله عمره - ربى القمل في رءوس
7
عصابة الشدياق سركيس، وأراحنا من شرها. - إذن أنتم في راحة؟ - الحمد لله، الحمد لله ألف مرة. تأمل هذا الكرم. كرم على درب، وعناقيده ما قطف منها واحد، هذا كله من الأمن والحكم العادل.
فالتفت الأمير قاسم إلى أحد مرافقيه وقال له: فلاح نبيه، يصلح خطيبا في قاعة العمود.
8
فأجابه ذاك: ليست الفصاحة وقفا على المتعلمين، ففي الأميين من هو أبرع وألسن.
وهرول أبو ناصيف وقطف بضعة عناقيد وقدمها بيديه الثنتين للأمير على أنه لا يعرفه، فأخذ الأمير حبتين وأكلها ثم قال: الله يفيض رزقك.
فأجاب أبو ناصيف بوداعة وسذاجة: حلت البركة.
وانحدر المير نحو النهر، وراح أبو ناصيف صوب القطين. سار فوق الطريق يرافق الموكب عن كثب،
9
ينتظر المفرق ليرى هل يذهب الأمير قاسم طلوعا أو نزولا، ولما سمعه يقول لرفيقه: «اليوم تتفرج
10
على دير القطين. ما أوعر واديه!»
11
عرف وجهة الأمير قاسم، فلم يعد ينتظر وأسرع إلى الشدياق سركيس، الفحام الجديد، ينبئه بتشريف سعادته.
وكان الشدياق سركيس يمهد تراب المشحرة،
12
فتابع عمله وهو يردد بكل برودة: أهلا وسهلا بسعادة المير، يا هلا هلا. اليوم يومك يا سيدنا المير.
وبعد ساعة كان المير يصعد في عقبة
13
الدير، فلا تستقر قدمه حتى يزحل عن عتب
14
الطريق ...
وبعد تعب عظيم دخل في الباب الضيق وهو يقول: شباب ، الله يعطيكم العافية.
فأجابه الشدياق سركيس، بعد أن التفت إليه، وعاد إلى عمله: العافية تجيك. تفضل خذ راحتك. يا طنوس هات الإبريق، ربما كان العم عطشانا. - معي رفيقان. ها هما. - أهلا وسهلا، عندنا ماء يسقي خمسين. - ومن أين لكم الماء في هذه الجبال الجرداء؟ - وعدنا المير، الله يطول عمره، عندما كنا نجر له نبع الصفا، أنه سيجر لنا المياه من الجرد.
فقال الأمير قاسم: ربما صح فيكم قول المثل: أسقيك بالوعد يا كمون.
15 - لو لم تكن ضيفنا سمعت ما لا يرضيك، ميرنا، الله يحفظه، إذا قال فعل. وما يحوجه إلى وعد بلا وفا لتكون عداوة بلا سبب؟ وابنه المير قاسم نسانا رحمة المير يوسف وحبه للفلاحين.
وأقبل الإبريق على يد رجل تخاله زنجيا لكثرة ما عليه من الفحم والتراب وغيره، فقال للمير، وهو يقدم له الإبريق: غض النظر ... لا تؤاخذنا يا سيدنا، إبريق الفحامين وسخ ظاهرا، ولكنه نظيف باطنا.
فابتسم المير، وقال، وهو يتهيأ للشرب: مثل قلوبكم. صحة البدن
16
يا مهذب. - بدنك صح، الله يطول عمرك.
وهم الفحامون بالأكل فتربعوا
17
على الأرض، ثم صلبوا والتفتوا إلى المير ورفيقيه وقالوا لهم بصوت واحد تقريبا: تفضلوا شاركونا.
فقال المير: صحة وعافية، سبق الفضل. - تفضلوا. انطحوا الزاد.
18 - صحتين. - كلوا معنا لقمة حتى يصير بيننا وبينكم خبز وملح. - أكلنا من خيركم. ثم نهض المير وهو يقول: نتفرج على الدير بهذه الفرصة. الجفت أمانة عندكم.
فقال الشدياق سركيس: محفوظة.
ومشى المير معه الرجلان، وما ابتعدوا قليلا حتى قال الشدياق سركيس لرجاله: أنا علي بالمير، وأنتم عليكم بالاثنين. بو ناصيف أنت تدفر
19
الطويل من رجاله بغتة فيستريح في النهر ... وأنتم كتفوا
20
الشب وخذوا سلاحه. وأنت يا طنوس، صوب جفت المير إلى صدره متهددا إذا مانع أو عارض. إياك أن تطلق النار مهما حدث.
فتعجب الرجل كيف لا يطلق النار وفتح فمه، فقال له الشدياق: هس هس هذا شغلي.
وقبل أن يبلغوا المرامي
21
كان الشدياق سركيس دليل المير في ذلك المتحف الطبيعي. دله على المغاور وسمها له بأسمائها. وعلى وعلى ... وبعد هنيهة أعطى الإشارة لرجاله، فكان «الطويل» يتدحرج من علو مئتي متر، وكان الشب مكتوف اليدين بحبل «المشحرة»، وكان الأمير قاسم فاتحا فمه مندلق
22
الشفة السفلى، فصاح به الشدياق سركيس: سلم تسلم.
فصاح الأمير قاسم: سلمت يا سيدي.
وقال الشدياق سركيس: وأنت سلمت. نحن يا مير لا نغدر بأحد، نحن لسنا أمراء لنقتل الناس بالقهوة كما يفعل والدك. نحن لا نؤمن الناس ونغدر بهم. هات خنجرك.
فهز المير قاسم برأسه، بينما كانت يده تخرج خنجره من حزامه.
وبينا كان بعض رجال المير يصعدون في النهر، رأوا «الطويل»، وقد صبغت دماؤه حصى النهر البيضاء.
فقال لهم، وهو يلفظ روحه: المير ... فوق ... في المغارة ...
فتعالى صفير الاستغاثة كعزيف الجن، وكانت الكهوف تردد الصدى الذي تقشعر له الأبدان.
أما مرافقو الأمير فصوبوا بنادقهم من الجبل المناوح ليرموا الكهف، فصاح بهم الشدياق سركيس: إياكم ثم إياكم. المير لا يزال حيا. إن اعتديتم اعتدينا، ورميناه إليكم لتأخذوه ميتا. يا سيدنا المير، أعطهم صوتك. قل لهم ماذا تريد.
فصاح المير قاسم: اتركوني. ارجعوا.
قال ارجعوا وأشار بيده إلى المجهول، ففهموا أن عليهم أن يستمدوا من جبيل قوة تستطيع مقاومة العصابة، فعاد فريق منهم إلى جبيل بعدما كان الخبر سبقهم إلى الأسكلة،
23
فالتقوا بعسكر النجدة في غرفين،
24
فانضموا إليهم وعادوا جميعا إلا واحدا جد في السير إلى بتدين حاملا إلى المير الكبير ذاك النبأ المشئوم.
أما المير قاسم فقعد على حائط المرمى المهدم.
كان واجما ولكنه رابط الجأش، يفكر بالحكم وعواقبه الوخيمة
25
ونهايته المروعة.
أليس هو الآن مع الموت على موعد؟ ما عليه لو مات، ولكنها موتة لئيمة، أمير وابن المير بشير الذي دوخ البلاد والأقاليم المجاورة تأسره عصابة! هذا كثير. وإذا بلغ الخبر والدي فماذا يقول عني؟ إنه لا يهمه موتي، فالموت عند الوالد أرخص من الفجل! ولكنها سمعة رديئة ولطخة لا تمحى.
وأفاق الأمير من غيبوبة هذا التفكير على صوت الشدياق سركيس يدعوه إلى المسير، فمشى معه حتى بلغا متكأ أمام المغارة الكبيرة وهناك أجلسه، وما كان أشد دهشة المير حين رأى رجالا عديدين يخرجون من بطن ذاك الكهف البعيد المدى شاكي السلاح كالقنافذ،
26
فقال لهم: أنا أعزل، والأعزل لا يحتاج إلى هذا الجمهور.
فقام الشدياق سركيس إلى جفت المير وقدمه إليه قائلا: هذا جفتك يا سيدنا، تفضل. وهذا خنجرك.
فأبى الأمير قاسم أن يسترد سلاحه، وأراد أن يطول الأخذ والرد، ولكن الشدياق سركيس أراد أن يقصر مسافة المحاورة فقال له: يا سيدنا المير، أنا عرفتك وأنت لم تعرفني، والدك يطلب رأسي، وإني أشكره على جعله سعره غاليا جدا. أما أنا فلا أطلب رأسك، إن رأسك يبقى لك ملكا خالصا صحيحا شرعيا لا ينازعك فيه منازع. نحن قطاع طرق كما تسمينا سعادتك، ولكن في العصابات وقطاع الطرق أناسا ضميرهم حي، لا يأكلون مال اليتيم والأرملة، ولا يبلصون
27
الفقراء ليظلوا متحكمين برقاب العباد.
نحن نعاهدك على حفظ دمك، وعلى صون كرامتك، والأيام هي التي تحكم بيننا. تفضل اذهب حرا طليقا لا يمسك أحد.
فتعجب الأمير من ذلك، ولكنه لم يهم بشيء. تحير في وجهه الارتباك العنيف، وكما يعمل كل من يقع في معضلة
28
سوداء قاتمة المداخل والمخارج هكذا فعل هو، فلم يبد ولم يعد ...
فقال له الشدياق سركيس: اذهب قلت لك. لا غدر ولا خديعة. أقسم لك بشرف «الفلاحين» الذين لا يغدرون ولا يدسون
29
ولا يكيدون،
30
إنك حر طليق لا يمسك أحد منا، ولا أقول من رجالي؛ لأننا لا زعيم فينا، كلنا واحد. تعاهدنا أمام هذا المذبح العاري المهجور على مقاومة الاستبداد المزدوج. كنا في حكم إقطاعي دنيوي هو حكم والدك، وصرنا اليوم تحت حكم إقطاعي ديني هو سلطة البطرك الحبيشي: أسند لي حتى أحملك ... والحاكمان المستبدان ابنا ضيعة واحدة ... حرم البطرك البلاد كلها ليرضي سعادة الوالد، ولكننا نحن لا يصعب علينا أن نتخلص.
ورأى الأمير يتحلحل بحذر، ينظر إلى رجليه نظرة، وإلى رجال العصابة ثنتين، فقال له الشدياق: قلت لك هذا جفتك. هذا خنجرك. امش، وافعل بعد ذلك ما بدا لك. اشنقنا ، خوزقنا، إن وقعنا في يدك . نحن نريد أن نعلمك درسا مفيدا ولا نريد أن نقتلك، نريد أن نعلمك ونعلم والدك أن الشعب «شيء» وأن إرادته هي الغالبة. لا يد غير يد الشعب، مثلما ذهب فخر الدين يذهب والدك ويبقى شعب لبنان في بيوته، وكما ذهب بنو حماده عن بلاد جبيل تذهب أنت. بلاد جبيل باقية إلى الأبد. أما المير قاسم فغيمة سارحة. نفخة هواء تبددها. نحن ننتظر الرياح حتى تطيب ... وإذا ذهب الشدياق سركيس تخلق لكم الأيام ألف سركيس. الشعب نبع قوي، والعائلة الحاكمة نزازة
31
اطبخوا للشدياق سركيس أحمض
32
ما عندكم. قم قلت لك.
وإذ لم يذهب المير قال سركيس لعصابته: شباب سلاحكم. فوقفوا واستعدوا ... فقال الشدياق للمير: رح قلت لك. - وماذا يصير إذا بقيت؟ - نحن لا نبقى.
قال هذا وأخذ جفت المير وهو يقول: لو كنت واثقا من أنك لا تطعن في القفا
33
لتركت لك جفتك، ولكن لا بأس هذا تذكار منك ...
ثم قلبه وقرأ ما كتب عليه بالحرف اللاتيني وقال: فبركة ممتازة. هذا يبقى عندي لأذكرك به. أما الخنجر فيبقى لك؛ لأنك لا تستطيع أن تستعمله متى بعدنا عنك. خاطرك يا مير. اسأل عنا خاطر الوالد، وقل له: الشدياق سركيس لا يخرج من لبنان كما خرجت أنت، ولا يستعين بأحد من الغرباء على أميره كما استعنت أنت. الشدياق سركيس لا يخون عمه ولا يقتله، كما فعلت أنت، ولا يعمي ولا يقطع الأيدي والألسنة ولا يشوه خلقة الله. قل له: الشدياق سركيس يظل يحاربك في لبنان، ومن يصبر إلى المنتهى يخلص، كما قال آخر شهداء قهوتكم المطران يوسف اسطفان في آخر وعظة.
شباب! تهيئوا. إن تجارتنا بالفحم ربت لنا أعظم ثروة. خاطرك يا سيدنا.
وكان الأمير صامتا كالصخر الجالس عليها.
ظل قاعدا ينظر إليهم وهم يتمشون في الجبل متجهين نحو الشرق كأنهم الأفاعي التي لا تزلق.
وبقي الأمير في مجلسه نحو نصف ساعة صامتا معقود اللسان، كأنه زكريا
34
حين خرج من الهيكل. وبعد ذلك الصمت الطويل قام وهو يقول ما لم يفهم.
مشى المير وقد أنسته الكارثة الفتى المشدود كتافا، فصاح هذا به: نسيتني يا سيدي؟
فتنهد المير، ثم سار نحوه متعثرا بأذيال عباءته، وفك كتافه وسارا معا، حتى إذا مرا «بالطويل» المضرج بدمائه على حصى النهر البيضاء، ترحما عليه ...
وكان بعض رجال الأمير كامنين ينتظرون ختام الرواية، فنهضوا من مجاثمهم، وساروا معه.
وراء نهر غلبون
35
التقى الأمير ورجاله بفصيلة قادمة لنجدته، فأمرها سعادته بالرجوع وكتمان الخبر، وخصوصا التفاصيل. ولكن السهم كان قد نفذ، والرسول المتجه إلى بتدين، عرين النمر اللبناني الشرس، قد يكون قطع نصف الطريق، فعض الأمير قاسم على جرحه، وبلغ جبيل منهوكا تعبا، فلزم قاعته خجلا من رجاله.
حاول كثيرا أن ينام ولكن النوم طار، ولا قرار على زأر من الأسد ...
هواجس1 المير بشير
شهر آب موسم صيد الحجل في لبنان. وفي آخر هذا الشهر كان الأمير بشير يخرج إلى ضواحي بتدين في موكب ملوكي للصيد.
يمشي تحف به بطانة فيها الشاعر والكاتب، والطبيب والمشترع،
2
وتلتف حوله وحواليه حاشية تجر أذيالها، فريق يحمل البنادق والجفوتة، وآخرون على كتف كل واحد منهم صقر أو باز.
3
تصرخ تلك الجوارح على زنودهم مصفقة بأجنحتها طربا وحنينا إلى المعركة العتيدة،
4
وكانت تلك الصرصرة
5
أشهى لقلب الأمير من أنات الناي والعود؛ لأنه أشبه خلقا بتلك الكواسر.
كان الأمير أكثر هوى لصيد الباز، وأشد ميلا إلى منازلة الطير للطير، وإن كان يعجب بالسلاح الذي استحضره من أوروبا، أو صنعه عند أشهر القيون
6
اللبنانيين.
ولما بلغوا «القاطع»
7
تفرق هواة الصيد، وأطلقت الصقور والبئزان، فملأت الفضاء صراخا، وكانت تلك الطيور تطرب وتنتخي
8
حين تسمع دوي البارود تردده تلك الأودية. والصوت إذا مشى بين مطاوي الجبال وتعاريجها كبر وتضخم وطال.
تذكر الأمير في ذلك النهار صقره «كاسب» الذي انتقل من هذه الدنيا الفانية حديثا ... فعز عليه فقده.
أحب سعادته هذا الصقر العبقري فصنع له عند أحد أبناء نفاع، في بيت شباب، تمثالا نحاسيا قبل موته، ودشنه في حفلة كبرى واضعا إياه في وسط الدار الداخلية ، على حافة البركة الكبيرة في القصر . وقد جعلوا الماء يتدفق من منقاره كأنه الفضة البيضاء سائلة ...
كان الأمير، في ذلك النهار، فرحا مرحا على غير عادته، ولكن امتعاضة عابرة كانت تمر في خاطره حين يتذكر الفقيد العظيم - كاسب - فتجره تلك الذكرى إلى التفكير بمصير إمارته بعده.
استعرض أولاده الثلاثة ليرى بينهم من يقوم مقامه في الغد البعيد فما وجد، فرفع رأسه وهو يقول: هيهات. ولدي قاسم أدعر
9
لا يعرف كيف يدخل ويخرج، وابني خليل قائد حرب، يصلح للتدمير لا للتدبير، وشقيقهما أمين سياسي لا ينقصه الرأي الأصيل ولكنه غير شجاع.
كان الأمير يقلب أموره على جميع وجوهها، فيرى أنه قد استراح من جميع خصومه، وأمن شر دسائسهم بعد أن ربح وقعة المختارة، وقتل سميه الذي كان يقض مضجعه بائتماره به.
كان الشيخ بشير نصيره أولا، ثم صار قذى
10
في عينه، وشجى
11
في حلقه.
وطال التفكير فتذكر كلمة خصمه الجنبلاطي: «البلاد لا تسع بشيرين.» وتذكر كيف أجابه هو: «المكعوم يرحل.»
أجل، إن الشيخ بشيرا الجنبلاطي قد رحل رحلة لا رجعة بعدها، وها هو الأمير بشير يفتكر الآن بمن يخلفه فلا يجده بين أولاده.
وبينا كانت أفكار الأمير تتداعى
12
فتجره معها من مكان إلى مكان، ومن شيء وضيع لا يؤبه له
13
إلى أمور خطيرة كولاية عهده ومصير إمارته، بعد أن استراح من جميع أعدائه، إذا بصياح الرجال يعلو، وإذا بأحد بزاة المير «الأسابر»،
14
يحلق، وهو يصارع في الجو طيرا خطيرا، أكبر منه وأقوى.
شرع الصيادون يطلقون بنادقهم في الفضاء تشجيعا لطائرهم، وإثارة له، فاستكف المير محددا النظر في الفضاء، وإن كان له من ضخامة حاجبيه رفرف كثيف يرد عين الشمس.
وبعد صراع عنيف في الجو، إذا بأسبرة كان قد سماها الأمير «ميمونة»، تقبل على سيدها وبين مخالبها طائر أكبر منها، ثم استقرت على كتف العبد مهيار المختص بحملها وخدمتها، تحدق إلى سعادة المير بإعجاب ودلال.
فتنهد المسكين زال عنه الكابوس،
15
وقال وهو لا يزال تحت تأثير فكرة مصير الإمارة: لا نقطع الأمل ...
سمع المعلم بطرس ما قاله سيده ، فعرف أن سعادته كان يفكر في مشكلة عظيمة الشأن، فسأل مولاه: أي أمل يا سيدنا؟
فانتبه المير وقال: كنت ظننت أنه لا يقوم بين البازات خلفا لكاسب، وها إن «ميمونة» ظهرت وبرزت، فلنسمها بعد اليوم «ظافرة». قربها إلي يا مهيار.
فتقدم مهيار وجثا أمام مولاه، فأخذ المير يدغدغ
16
رأس ظافرة ويداعب برفق ريش جناحيها كما يداعب عاشق شعر حبيبة تيمته.
17
وظل يدغدغها وقتا طويلا، وظلت تتمسح بصدره حتى غيبت رأسها تحت لحيته العامرة، فابتسم وهو يبعدها.
وسمعت حس حجال فانطلقت كالسهم، ثم رجعت بعد حين إلى أميرها بحجل عتيق، فعن له أن يسميها اسما أجمل، قد يكون فيه شيء من حفظ العهد، فقال للمعلم بطرس: سميناها «كاسبة» ... فما رأيك؟
فأدرك بطرس حالا قصد مولاه، فأجاب: رأي الأمير أمير الآراء. في الاسم الجديد رعي عهد، وذكرى وفية للفقيد الغالي «كاسب».
ومر ابن آوى في الوادي فأطلق بعض رجال الحاشية بواريدهم وجفوتتهم فأردوه، فامتعض الأمير وقال: لا الأمير ولا رجاله يصطادون ثعالب ... •••
كان التوفيق حليف الأمير في هذا اليوم، وانجلت غمراته
18
عن صيد كثير، حتى قال الأمير إنه اليوم الأغر
19
من أيام صيده. وعند المساء عاد الموكب إلى بتدين.
وبعد الاستحمام كان العشاء، ثم سهرة طويلة.
قعد المير على طراحته في صدر قاعة العمود، حيث اعتاد أن يجلس بعد الرجعة من المعارك غانما.
لبس ليلتها أحب ثيابه إليه، تلك التي كان يلبسها حين يقابل زواره الكبار: غنباز أبيض، وزنار كشميري،
20
شك فيه خنجره الذهبي المرصع، فبرزت قبضته من بين فلقتي
21
لحيته. وقدم له الغليون «الشبوق»، فأخذ ماسورته، وانبسطت أسارير وجهه، فخففت وطأة حاجبه الثقيل، ولانت شوكة شاربيه، وتلك كانت عادته: فلا يكلم إلا حين يبتسم ...
قال بطرس كرامه: ما يأمر مولانا؟ فلأمر ما ظهرت لنا بهذا الثوب على خلاف العادة.
فابتسم الأمير وقال: كأنك قاعد في فكري. لا فرق يا معلم بطرس بين ربح يوم صيد وربح معركة. الظفر حلو، ولو في أحقر الأمور، والغلبة أحلى ولو كانت على أجبن الطيور: الحجل .
وكان الحراس المختلفو الألوان والأجناس في مراكزهم يصغون ويسمعون.
وبعد أن سكت المير هنيهة قال: أين كاسبة؟ من حقها أن تحضر مجلسنا هذا.
وجاء بها مهيار فوضعها في أقصى السماطين،
22
فأومأ الأمير إليه أن قربها، ثم قال لها: مقعدك حدي.
ومد يده إليها يدغدغ رأسها وهو يقول، بينا تشغل فكره قضية أخرى: عافاك ... ربحت معركة اليوم.
ثم قال للحاشية الجالسة بين يديه في السماطين: تأملوا هذا أشرس طير، ومع ذلك لان. هذا أفتك طير أمنا شره وغدره. تمر يدي على رأسه باطمئنان أكاد لا أحصل عليه حين أمرها على خد أحد أبنائي. الطيور الكاسرة آلفتنا، أما أصدقاؤنا فهم دائما لنا بالمرصاد
23 ... - نعم؛ لأننا نعرف أعداءنا ونتقيهم. الرئاسة يا معلم بطرس تخلق لنا أصدقاء موقتين، وأعداء دائمين.
وسكت الأمير ولم يشبع الموضوع بحثا، غير أنه لم يزد على ما قال شيئا.
كان يمر كفه على ظهر كاسبة ويمتص غليونه، ثم ينفخ الدخان فيخرج من فمه متغلغلا بين شاربيه ولحيته. والتفت فرأى بطرس كرامة يتطاول كعادته حين يحضره شيء من الشعر، فقال له: عندك شيء؟ فأجاب المعلم: نعم، إن أمرت.
فقال الأمير: لعله في كاسبة، ونظر إليها نظرة عطف.
وقال المعلم: وفي كاسبة، وأنشد:
لله أسبرة
24
غراء قد جعلت
أحداقها
25
من يواقيت ومرجان
26
براقة الجيد
27
من فرناسها خرجت
28
تتيه في بردتي
29
حسن وإحسان
لها من الصبح صدر مشرق، وكذا
من الظلام قبيل الفجر جنحان
شهباء
30
ماضية المنسار
31
راحتها
مخضوبة
32
بدم من آل حجلان
فأبدى الأمير استحسانه بقوله: أوم ... وأتم المعلم بطرس:
لا زال صاحبها المولى البشير تضي
سعوده برفيع العز والشان
33
ولا تزال له العلياء خادمة
ما صادح
34
الورق
35
غنى فوق أفنان
36
لم يهتز المير اهتزازته المعهودة حين كان يسمع المديح، ورفع نظره إلى الأبيات المكتوبة على جدران القاعة، فقرأ بصوت عال:
خولتني
37
يا إلهي خير تسمية
38
فكنت فيك بشيرا. أنت لي عضد
39
يا رب أمنن بعفو منك لي كرما
واغفر جنايات عبد منك يرتعد
وجد بخاتمة يا رب يعقبها
ذاك النعيم السعيد الثابت الوطد
فأسر بطرس كرامة إلى الشيخ أمين الجندي: نفس سيدنا غير طيبة الليلة.
فسمع الأمير وقال: إن ذكرنا الله لا تكون نفسنا طيبة؟ بلى يا معلم بطرس. أتمنى على ربي ألا يحلني من ديار آخرته دارا أقل رونقا من قاعة العمود. من يذكر منكم حديثا شريفا في هذا المعنى؟
فأخذوا يعصرون يوافيخهم
40
فما أدركه أحد. فقال الأمير: أنا أذكره: «بيت الرجل جنته الدنيا». فنحن ما تجبرنا ولا تكبرنا إذا بنينا مثل هذا البيت ...
ثم أنشد قوله ببيت الدين:
سرى النسيم ببيت الدين ذكرني
حديث من كنت أهوى والزمان صبا
وقد شفى كبدي الحرى
41
بروضتها
جري «الصفاء» الذي في سفحها انسكبا
هدى لنا نسمات من نوافحه
مبسامها
42
فأزال الهم والكربا
وبث عرف الأقاحي
43
والخزام
44
ضحى
وادي الجنان فأحيا قلبي الوصبا
45
كيف رأيت يا معلم بطرس، أليست نفسي طيبة؟ ألا تكون نفسه طيبة من يقول شعرا كشعرائه؟ ... تمر على المرء ساعات لا يدري كيف يتخلص من سودائها، ثم تنقضي ولا يدري كيف انفرجت تلك الأزمة.
وتحلحل ونفض رماد غليونه فتقدم الخادم لرفعه من الحضرة، وتلك كانت علامة ارفضاض المجلس الأميري والانصراف.
وبعد دقائق معدودات كان قصر الأمير صامتا مظلما لا يرى النور إلا من نوافذه التي يدخلها ضوء القمر.
لا ضوء في ذلك القصر العظيم إلا ما يرسله قنديل معلق في البهو، فهذا وحده كان يضاء طول الليل.
وترك الأمير قاعة العمود واتجه نحو الشرفة التي يطل منها على الوادي ودير القمر وبعقلين، فكان يمشي بلا شعور كالراقص، فكأن المياه المرتفعة من الفسقيات،
46
والتي تخر من السبيل
47
في دار الحريم كانت تصفق له.
كان القمر بدرا في تلك الليلة، فوجه قمر أيلول نقي اللون وإن كان مخددا،
48
يراه الناظر إليه بعينه المجردة فيحسبه قطعة من فضة سائلة.
فهمهم المير وقال: هذه جنة تجري فيها ومن تحتها الأنهار. اللهم أعضنا عنها مثلها.
ولما وقف على شفير الشرفة، ألقى بنظرة على الوادي العميق القائم على كتفه القصر.
رأى أشجار التوت فخالها صفوف عسكر عارضة الرماح، مصطفة فوق جدران كأنها مدرج، جدران شيدتها يد الفلاح اللبناني وعنه ورثها الأمير.
رأى ذلك المشهد الجميل فأعجبته نفسه وشعبه حتى تخيل قضبان التوت رماحا تصون الإمارة.
وكان موسم الحرير في تلك السنة مقبلا جدا، وقد قبض الأمير من محصوله ما ملأ الصندوق، فاستبشر بالموسم المقبل، ولكنه تذكر ما طلبه منه باشا عكا، فمر في خاطره المثل القائل: لا تستكثر أولادك على عزرائيل، ولا مالك على ظالم.
انتفض صدره في تلك اللحظة، وخرجت الزفرة من أنفه علامة استهزاء لم يدر الأمير أهي له أم عليه، إلا أنه اطمأن أخيرا إلى استطاعته تأدية ثمن «الخلعة» مهما أغلاها الباشا.
وكان الوادي يزداد رهبة كلما مال القمر صوب بعقلين، فتمثل لعينيه وادي يوشافاط حيث ينتظر أن يقف للدينونة.
ونظر إلى الحور والسرو والشربين، فحسب تلك الأشجار عمالقة تريد منازلته، ورفع عينيه إلى الجبال المناوحة فخال الأشجار المنتصبة على قممها الشامخة جيوشا متأهبة.
وقفز فكره إلى موقع قصره الاستراتيجي، فأعجبه وقال: من أين يأتينا العدو ولا نراه؟ أمن الوادي، والسبيل كالدرج اللولبي؟ أمن الدير ودون ذلك أهوال؟ أمن بعقلين، وعيون الحراس ساهرة لا تنام؟ إننا لا نؤخذ ما دام الله معنا.
وما ذكر رضا الله عنه حتى لاحت ضحاياه.
مروا أمامه في تلك الدقيقة الرهيبة كجنود معركة منهزمين، أو جنود سلموا وألقوا سلاحهم، فتعجب من أين تجيء هذه الأفكار السوداء. وأراد أن يخبئها تحت لحافه، فهرع إلى مخدعه، فما غمضت عينه حتى رأى في نومه حية رقطاء تنساب نحو «كاسبة»، فاستل خنجره وضرب، فإذا بالطعنة تصيب رأسها فماتت ...
استيقظ مغموما، فترك فراشه، ولبس غنبازه، وخرج غير متزنر ولا شاكا خنجرا.
أراد أن يعود إلى الشرفة حيث كانت تطيب له الجلسة ليلة الأرق، فما توسط ساحة دار الحريم حتى رأى نفسه مندفعا للعود أدراجه، فانكفأ،
49
وإذا به يخرج إلى صحن الدار حيث النافورة
50
الكبرى.
وقف هناك حيث ظن أنه يتغلب على هواجسه بخرير الماء، ولكنه لم يفلح.
حدق النظر إلى دائرة واجهة القصر الكبرى، فرأى «المعمولة»
51
والأقراص كأنها تدور، ثم رأى النقوش التي تشبه الدانتلا
52
تحمر أمام عينيه، ففركهما، ولكن كل شيء ظل على حاله.
تفرس بما حفر على عمودي بوابة الدار البرانية
53
الرخامية، فخال تلك الخطوط المجدولة أفاعي متعانقة ... والتفت إلى غنبازه فرأى عليه نقطا حمراء تتسع دوائرها كلما أمعن في تأملها.
لم يصدق ما كان يتراءى له، وأيقن أن لا شيء مما توهم، فشدد عزمه وفرك عينيه مرارا فتغير المشهد.
رأى حجارة واجهة القصرة البيضاء قد استحالت إلى حمرة حجارة عكار التي نقلها فخر الدين وبنى بها قلعة دير القمر حين قهر ابن سيفا، فصاح الأمير: الله، ماذا بنا الليلة! صار بطل المزة وسانور أضعف الناس. ما هذه الأوهام!
ومشى نحو الشرفة حيث كان أولا، فرأى رجلا يشخر وينخر.
54
صاعدا نحو القصر في الطريق اللولبي.
كان الرجل يطحر ويزحر
55
في تلك العقبة.
كان يمشي ثم يقف، فرابه
56
أمره. رآه يتقدم في طريق القصر، بلا وجل، فقال: هذا حامل خبر مستعجل.
وأخذ يخمن ويحسب ويظن، فما أصاب في واحد من ظنونه.
وحين دنا الرجل من القصر، وكاد أن يختفي في أروقة
57
أقبيته، قبض عليه الخفير، وأجله إلى الصباح، فصاح الرجل: علي أن أقابل سعادته الآن.
فقال الخفير: لا تنس أن الليل ناصف. ثم التفت إلى القمر وقال: أكثر أكثر. الساعة الخامسة - زواليه - تقريبا. ما صبح إلا فتح. من يتجاسر على دق باب سعادته في هذه الساعة؟
فقال الرجل: ما العمل، يا أخي، أنا قعدان حسن شهاب. اسمح لي بالدخول، وأنا المسئول. - لا، لا، لا. لا قعدان ولا قيمان، وإذا غضب سعادته فمن يرد لي رأسي إلى محله؟ لا، لا، لا.
فسمع صوت من الشرفة يقول: خالد، اسمح له، وتعال أنت معه. فعرف الخفير خالد أنه صوت سيده المير فتعجب.
ومشى الخفير خالد مع الرجل، فإذا بالأمير قاعد ينتظره في قاعة دار الحريم. نهض له حين عرفه، وقبل كتفه حين سلم، ثم التفت بالخفير التفاتة معناها : انصرف.
وروى قعدان لعمه المير بشير ما حل بالمير قاسم، وكيف وقع في يد عصابة بلاد جبيل. فأسكت الأمير هنيهة هذا الخبر، ثم قال لقعدان: قل للحارس الخارجي يحضر.
وقال له حين أقبل: المعلم بطرس.
وجاء المعلم بطرس، فكانت بين المير ومستشاره مداولة طويلة انتهت مع الصبح.
وقبل شروق الشمس كانت خيالة المير تطأ بحوافر خيلها ساحة دير القمر.
وظل غضب الأمير يشتد فيتوعد ويتهدد.
وقعت عينه على بيت ابنه قاسم، فحرق
58
على أسنانه وتمنى لو كان قاسم فيه ليهده
59
على رأسه.
أما بطرس كرامه فكان يتضرع إليه ملتمسا كتم الخبر، فالخيالة ذاهبة، ومن عادتها أن تذهب، فلا يحسن أن تدري «المناصب»
60
بالأمر فتشمت بالأمير.
فصاح الأمير: وماذا يورثني هذا التنبل غير الشماتة؟ قاسم مهما علمناه لا يتعلم. أكبر مصائبي هي في أولادي. نسيت حين سألتني أمس عن كلمة قلتها في الصيد. كنت أستعرض أولادي ثلاثتهم، فما وجدت فيهم واحدا يستطيع أن يخلفني. صح فينا القول المأثور: النجيب ... النجيب ... نسيت المثل، كمله أنت.
فقال المعلم بطرس: النجيب لا ينجب. وهذا لا يصح فيك إن شاء الله.
فقال الأمير: بلى صح يا بطرس. - أنت غضبان الآن يا سيدي، ومتى ذهب الغضب تعرف أن مثل هذا قد يحدث. المهم أن ندركه قبل أن يصاب بأذى.
فانتفض الأمير وقال: وجه الآن رسالة إلى قائد الخيالة، قل له يأمرك المير أن تضرب، وتقتل، وتنهب، وتحرق كل بيت، وكل قرية تعرف أن العصابة دخلتها. لا بد من الإتيان برأس الشدياق سركيس مهما كلف الأمر. هذا الكلب يأسر ابن المير بشير؟ يا خجلتي عند الباشا إذا بلغه الخبر! بلاد جبيل شوكة في عيني، ولا بد من قلع هذه الشوكة.
فقال بطرس: إن حزب سعادتك قوي في بلاد جبيل.
فصاح المير: لا تصدق! هذا كلام كذابين يهمهم بياض الوجه، يهمهم الاستغلال، ومتى دارت الدوائر على المير كان هؤلاء أول من يطبل ويزمر للراكب. النار تحت الرماد يا معلم، نسمة هواء تشعلها. بلاد عنيدة، تحب المير يوسف وأولاده . هؤلاء حزب المير يوسف وأولاد باز . - ولكنهم صاروا كلهم تحت التراب. - وحبهم ما زال في القلوب ... أنا المخطي. جعلت من أولاد باز شهداء تقدسهم العامة. آه من العوام ... إنهم دائما أعداء الجالس على الكرسي، يتذكرون الرائح، وينسون جميع خطاياه. - لا تضطرب يا مولاي. كل شيء هادئ. هذا حادث بسيط، فالأعداء الكبار راحوا.
فنفر المير وقال: حادث بسيط! لصوص يقبضون على حاكمهم، وتقول حادث بسيط؟ الله! كيف يكون الحادث المركب يا بطرس، إذا كان هذا بسيطا؟ لا تهونها.
وفي تلك الدقيقة أدخل صاحب الإذن على الأمير رجلا يحمل رسالة فيها أن المير قاسم قد نجا، وهو الآن في سرايته بجبيل، وقد سير رجاله وراء العصابة وهم الآن يتعقبون آثارها.
فقال بطرس كرامه: أتأمر يا مولاي بإرجاع الخيالة؟ - لا، لا، لا. فليعملوا كما قلت، وليقبضوا على كل من ليس على «الغرض».
61
فليذبحوا مواشيهم، وينكلوا
62
بهم، ولا يخرجوا من بيوتهم حتى يأتوهم برجال العصابة. ليأخذوا الأب بجريرة
63
الابن، والزوجة بذنب رجلها، وغير هذا لا يطوع بلاد جبيل هذه البلاد العنيدة ... آه من هذه البلاد. حاولوا الثورة علي مرات، وكانت أعدائي حولي وحوالي في كل مكان، وغلبتهم، أما الآن، وقد استرحت من الجميع، فما بقي علي إلا هؤلاء، فلنتبع رأس الحية الذنب!
اكتب يا بطرس لقاسم، وقل له: إذا لم تأت برأس الشدياق سركيس فلست أهلا أن تدعى شهابيا، ولا تكون ابن المير بشير إن عجزت.
أصلح غلطتك بالانتقام من بلاد جبيل، أريد أن أرى من شرفة بتدين دخان بلاد جبيل يتصاعد فوق أرز جبل جاج، أريد أن أرى جبيل تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله.
وظل كبس البيوت والتثقيل على الناس في بلاد جبيل أشهرا، ففرضت الغرامات على القرى، وكانت فرصة سانحة للوشايات والتشفيات، فانتقم الأخ من أخيه، والجار من جاره.
وظل الأمير ينتظر قدوم رأس الشدياق سركيس وتقتيل أبطال عصابته، والخيالة عاجزون عن ذلك مع عظم جورهم وشدة فتكهم وقسوتهم.
شفى هذا التنكيل نفس الأمير بشير، ولكنه لم يبرئ سقمها؛ فحين جاء ابنه قاسم إلى بتدين بعد أشهر، لم يسمح له بالدخول عليه.
جوقة النور
من تأمل قصور بتدين الأربعة رأى قصر الأمير الكبير قائما على شفير،
1
وقبالته على الشفير الآخر قصر ابنه المير قاسم، وبين القصرين أرض منبسطة مجوقة تكون شكل الهلال الخصيب مصغرا.
وإذا رفع الناظر بصره إلى ذرى بتدين، رأى في أعلاها قصرين آخرين، أحدهما يعرف بالمقصف،
2
بناه الأمير لبنته سعدى، وفيه كان يصيف، وبنى قبالته قصرا آخر لولده أمين، وموقع هذين القصرين الطبيعي كموقع القصرين الأولين.
أما قصر ابنه الثالث، المير خليل، فمنتصب فوق القصر الأكبر كأنه حارس له.
وقف الأمير قاسم في بوابة قصره القائم على طرف الهلال الآخر، يحدق إلى قصر والده العظيم، وفي صدره من نار الحنق والغيظ ما يحرق بلادا.
نظر إلى القصر الأميري فخاله جدارا واحدا لا نافذة فيه، على كثرة شرفاته ونوافذه، وأبوابه وأروقته.
ولا عجب في ذلك؛ فغضب الأمير بشير إذا حمي يعمي ويصم.
وأخيرا صمم المير قاسم على أن يقتحم القصر؛ وليكن بعد ذلك ما شاء والده، ثم مشى على غير هدى وبلا وعي حتى دخل دار الكتبة.
دخلها كأنه كان في غيبوبة ولم يستفق منها إلا حين قال: يا معلم بطرس، الوالد لا يذكر إلا الساعة التي هو فيها ... نسي «عامية لحفد» ... فأول ثورة شعبية علينا كانت في بلاد جبيل. هذه البلاد نبع كل شر. وضعني والدي في أصعب مقاطعة ومع ذلك يلومني.
وكان المعلم بطرس يسمع وهو يرمل
3
ما خطه على قصاصة ورق ليوجهها إلى إقطاعي لم يؤد كل ما عليه من المال الأميري، ونبهه فيها إلى ابتداء قطف الشرانق في الساحل، وأن عليه تسديد البقية الباقية عن الأرزاق والأعناق
4 ... فالأكياس الخمسة المطلوبة من العام الماضي يجب تسديدها قبل مطلوب هذا العام، وأن الباشا لا يترك للأمير قرشا واحدا من مطلوبه، فكيف يمكن سعادته أن يترك لكم؟ ... وإذا بان عجزكم عن دفع المفروض على مقاطعتكم، اضطر سعادة المخدوم المعظم إلى إجراء ما لا يسركم.
ولما نشفت الورقة نشرها المعلم بطرس على عيني المير قاسم وهو يقول: اقرأ يا سيدنا المير. الله يساعد والدك ويعينه. والدك لا يستريح دقيقة. للباشا كل يوم مطلب جديد. اليوم يطلب جزية فوق المال الأميري، وغدا يطلب مالين وجزيتين. لا ندري كيف نوفق بين مطالب الباشا وطمعه، وبين رحمة الشعب ومصارفات الإمارة. أبوك ملك يا سيدنا المير. مصروف «الدار» كبير، فعلينا أن نساعده بدربتنا وحنكتنا.
فصاح المير قاسم: دائما تذكرون لي الدربة والحنكة كأني ولد طائش ... رضا المتغضب صعب، وبلاد جبيل لا تحبنا لترضى وتنقاد وتعاون، بلاد تبغضنا، والبرهان هو أن أول ثورة علينا اشتعلت فيها، وعصابة الشدياق سركيس هي بنت تلك العامية.
فتبسم المعلم بطرس كمن يريد أن يقول شيئا ثم عدل عنه، وأدرك ذلك المير قاسم، فقال له: قل لا تخبئ شيئا. المطمور تكسر السكة
5
يا معلم بطرس. احك لا تستح.
فقال المعلم: ألا تغضب؟ - لا، لا، قل وهل أقدر أن أغضب؟ فأنتم من غير شيء تقولون إني أهوج، غير مرن. - سمعتك تذكر عامية لحفد مرتين. ومن كان هناك حين ثار الأهالي؟
فأطرق الأمير قاسم، وأدرك أن المعلم بطرس يغمزه؛ لأنه هو الذي كان في لحفد يحصل المال الأميري حين أعلن الأهالي العصيان، غير أنه ما تلكأ بل أجاب. طيب، أنا الذي كنت في بلاد جبيل حين ثارت عامية لحفد، ولكن من كان في أنطلياس؟ عامية أنطلياس قبل عامية لحفد، رجال العاميتين هم هم ... المرض في الكرسي لا في شراسة المير قاسم! ثم تمتم: الآباء يأكلون الحصرم ...
فأتم المعلم بطرس: والأبناء يضرسون. ما لنا ونبش القبور، الآن خضعت البلاد طولا وعرضا، فكيف ترى بلاد جبيل؟ هل تغيرت؟ - أؤكد لك أنها تغيرت. - والسبب؟ - السبب! الأحوال غيرتها. كانوا يظنون أن والدي يستعين على إخضاعهم بالدروز، وأنه مسيحي في الظاهر، أما بعد أن أخلص البطرك الحبيشي للوالد، فشعب بلاد جبيل المتعصب لمارونيته اعتقد أن المير من ملته ... - وما رأيك في عصابة الشدياق، أليست مارونية؟ أين هي اليوم؟ لا يطيب عيش الأمير إلا بعد أن يقتلعها من جذورها.
فهز المير قاسم كتفيه ومط شفتيه وقال: لا أعرف الحقيقة ... ولكني أعرف أنها ليست في مقاطعتي، وهذا ثابت عندي.
فضحك المعلم بطرس ضحكة أغاظت المير قاسم، ولكنه ازدردها وانطوى عليها.
كان فصل الخطاب سعلة سعلها المير بشير، فهرول المعلم بطرس حاملا إليه ما كتب ليوقعه سعادته.
وبعد دقائق عاد المعلم من عند المولى وقال لابنه المير قاسم: سعادة الوالد أمر بذهابك حالا إلى جبيل، والابتداء بالتحصيل؛ لأن موسم الحرير ابتدأ، والسماسرة بدأت تبعث بالشرانق إلى الكراخين.
6
فهرع المير قاسم ليسلم على والده، فالتقى به في باحة دار الحريم فقبل يده وانصرف.
لا سلام ولا كلام. •••
كان من عادة المير، قبل «قطف الشرانق»، أن يزور قبر زوجته الأولى الست شمس، متذكرا ما لها عليه من أفضال، فبمالها اشترى بتدين كلها، وبمالها توطدت له إمارة لبنان؛ ولهذا دفنها في طرف حديقة القصر، أقام لها قبرا فخما، وعلى الطريقة الإسلامية، ولكن ليس على أسطوانيته شيء مما تعود المسلمون أن يحفروه من آيات كريمة.
ما وقف المير حيال القبر حتى تذكر ما دار بينه وبينها من حديث منذ عشرات السنين، حين ذهب من قبل عمه المير يوسف «ليصفي» مالها.
كان بعد الطعام يصب لها حتى تغسل يديها، وكان الماء سخنا، فصاحت به مداعبة: حرقتني.
فأجاب المير بشير: وأنت حرقت قلبي ...
وفي جلسة حبية عقبت ذلك العشاء السري، قالت له الكلمة التاريخية التي ينقلها لنا التقليد: فليكن أولها بشير وآخرها بشير - مشيرة بذلك إلى اسم زوجها الأول.
تذكر المير تلك الكلمة حين وقف حيال قبرها، فصاح بمرارة وامتعاض: آه يا شمس! أولها بشير، وآخرها ابنك قاسم ... نسيت كم قلت لك إن ابنك هذا لا ينفع، وما كنت تصدقيني ... قاسم يخلق المشكلة من غامض عين الله.
وبعد إطراقة قليلة قال فيها كلاما لم يفهم، مشى بين الدلب والسرو والحور حتى بلغ الشرفة المطلة على جبال الباروك، فنظر إلى ذلك الوادي المندلق
7
من رأس الجرد إلى كعب الساحل، وبعد تأمل قليل رجع على عقبيه .
سار غير واع تقريبا، وما أفاق من حلم يقظته هذا حتى رأى نفسه في «الشرفة» ينظر إلى ذلك الوادي الممتد من معاصر الشوف حتى البحر، واد عريض مفلطح
8
فلا هو واد ولا هو بطحاء.
9
وطاب لسعادته أن يدخن أركيلة ويشرب قهوة، ولكن صدره انقبض إذ رأى الوادي حليقا قد أرعيت فيه مناجل القز ففقد خضرته.
ذهبت تلك الخضرة طعاما سائغا لدودة القز.
ما كاد يشجيه
10
فقد تلك الروعة، حتى أطربه رنين أجراس البغال، وثرثرة المكارين
11
الذين يتحدثون عن إقبال موسم الحرير في البلاد.
ضحك الأمير واستبشر بسهولة الجباية ورد غضب الباشا. ترجى أن لا يزعج الفلاح بالمطالبة هذا العام، والأمير بشير في اعتنائه بعقاراته، كان مثلا صالحا للفلاح اللبناني.
وفي صباح الغد ركب حصانه الأدهم
12
ليشرف على قطف شرانق مواسمه الخاصة، يرافقه مدربه المعلم بطرس وجمهرة من العسكر والحاشية.
كان يرى في طريقه العطارين
13
يحملون الأقمشة وغيرها من لوازم أهل القرى ليبيعوهم ما يحتاجون إليه منها، إما مقايضة أو بالمال.
وسمع من هؤلاء بائعا ينادي: معنا حلاوة، راسين براس يا حلاوة. أي رطل حلاوة بإقة شرانق.
فقال الأمير في قلبه: مسكين الفلاح، جميع الناس تحتال على شرانقه ... ما كان يذوق الحلاوة لولا الشرانق. يظل من الحول إلى الحول على التين، وهذا يوم الحلاوة ... ولكن من أين، نحن وهو كما يقول المثل: نأكل حلاوته وأمه تقبره.
ورأى على مصطبة
14
صاحب دكان يحاسب فلاحا استدان منه طول السنة على رجاء الموسم، فهز الأمير رأسه وقال: صدق من قال موسم الحرير ممزق الكمبيالات والدفاتر. فلو كان الخيالة يسبقون أصحاب الدكاكين كنا استرحنا، ولكن جباتنا لا يأتون إلا بعد أن يستوفي التجار ديونهم.
ولما وصل كفرنبرخ رأى تحت سنديانتها جوقة نور معهم دب وسعدان يرقصونهما، فما أبصروا الأمير وخيالته حتى جمدوا وسكتوا احتراما وإجلالا.
تهيبوا الموكب الأميري فبهتوا ... ولم يقطب الأمير وجهه ولم يعقد حاجبيه، فأدرك المعلم بطرس أن حركات رقصهم، وطبلهم وزمرهم، وألعاب قردهم ودبهم تروق لصاحب السعادة، فغمز النوري الأكبر، فهب ذاك مثل النسيم وصاح: على شان سعادته .
فانتفخت القربة في فم أحد رجال الجوقة، وانتفخ معها خداه وبطنه، فضحكت الحاشية، وانبسط وجه الأمير.
وعاونه الزمار والدف المخشخش، ثم رج الطبل؛ فترجل الأمير لأنه كان يحب المطربات البلدية، وخصوصا الضخم من أصواتها، كما كان يهتز للشعر. ولما رأت جوقة النور أن سعادته مرتاح إلى حركاتهم استخفهم
15
الطرب، فكان «دبهم» أخف من الطير. يقولون له: امش مشية العجوز، فينحني على عصاه ويكاد يدب، ويقولون له: امش مشية الصبايا، فيتغندر ويتخطر مثل بنت خمسة عشر، هازا المحرمة وفي رقبته فوطة.
ويسألونه: كيف عجن الصبايا؟ فيقعي
16
ويأتي بتلك الحركات. ويطلبون منه أن يمشي مشية الناطور فيفعل.
أما السعدان فكان يأتي في الخفة ضروبا، ويجيب عما يطرح عليه من الأسئلة بنباهة وذكاء.
قال له صاحبه: أين قيمة سيدنا المير؟ فوضع يديه الثنتين على رأسه بكل تجلة واحترام، ولولا القليل أنشده قصيدة. وقالوا له: أين قيمة المعلم بطرس؟ فوضع يدا واحدة على رأسه.
تعجب المعلم بطرس كيف يعرف شيخهم اسمه، ولكن الشك فارقه؛ لأنه يعلم أن أبناء الخالة - النور - يعرفون الأسماء ...
وقدموا لقردهم طربوشا صغيرا ليلبسه على شان المير ففعل، وسألوه أن يلبسه على ذكر الجزار، فقذف به في الهواء نافرا مشمئزا ...
فارتاح المير إلى هذا الذكاء.
ثم ذكروا له اسم أحد مناصب الدولة بالبلاد الذي لم يحسن استقبال «جوقتهم» ولم يعطهم شيئا، فأعلن السعدان نفوره وغضبه، فضربه مرقصه وقال له: حط يدك على راسك. فأبى السعدان وامتنع ...
فتركه وسأله: أين قيمة فلان؟ - وهو من «مناصب البلاد» وقد توارى من وجههم وما أعطتهم داره شيئا - فوضع السعدان يده على قفاه ... فابتسم المير وقهقهت الخيالة والمعلم.
وذكروا للسعدان اسم رجل غير حائز على رضا المير، فرمى السعدان بالطربوش.
كان المير يضحك لكل هذا. ولما أبدى سعادته هذا السرور استأذنه زعيم الجوقة بالرقص، فرخص له، فأحدث منه أشكالا وألوانا.
كان يطلق رجليه في الهواء ويمشي على يديه، ثم ينام على الأرض ويرفع ساقيه طاويا ركبتيه على خنجرين يكحل بهما عينيه.
وأخيرا صعد أحدهم على سطح بيت وأدار وجهه نحو الأرض، ثم انحدر من فوق إلى تحت متمسكا بالجدار بيديه وفخذيه، والأمير يزداد إعجابا بهذه الرشاقة.
وبعد ساعة تقريبا أمر لهم الأمير بما أمر، فتقدم منه شيخهم داعيا له بطول العمر، وسأله إن كان يرخص لهم بحفلة تفوق هذه «الدار»، فابتسم الأمير ولم يجب، ولكن المعلم بطرس أومأ أن نعم. فتشجع رئيس الجوفة وقال: عبد سعادتك يكشف البخت،
17
ويضرب المندل، ويعرف الماضي والحاضر والمستقبل، أنا يا سيدي نوري ابن نوري ابن نوري
18 ... هذا العلم وراثة عندنا، والسر محفوظ في سليلتنا، فإن أمرت وراق لك صرف ساعة رضا، أطلعناك على الأسرار التي تريد أن تعرفها. ندلك على كل شيء تريده من ضائع، ومن عاص، ومن طائع، أنا الشيخ إسماعيل ابن شيخ النور الأكبر، فإذا أمرتني أريتك كل ما تريد أن تراه.
سمع الأمير، ولكنه لم يصدق كل ما قيل، غير أنه نوى في تلك الساعة أن يصرف نهاره تسلية، ولا بأس أن يكون مع النور.
وتقدم نفر من خيالة المير وسألهم عن «الكواشين» - جمع كوشان، وهو الوصل بالمال الذي يترتب على النوري أن يدفعه في البلاد التي يمر بها - فرأى معهم الوصولات المطلوبة موقعة من مأمور جبيل، أي مقاطعة المير قاسم. فقال لهم الخيال: إذن زرتم المير قاسم؟
فأجاب شيخ النور: ورقصنا له وأكرمنا ... ثم التفت إلى السعدان وهز له الخناق صائحا به: أين قيمة المير قاسم؟ فرفع السعدان يده إلى رأسه. •••
وعاد الأمير إلى القصر عصر ذلك النهار طيب النفس، وقعد يتحدث في المساء مع المعلم بطرس والكتاب، فكان التعجب شاملا مجلس الأمير.
تعجبوا جميعا كيف يتعلم الحيوان ويعمل أحيانا ما لا يستطيع أن يقوم به الإنسان العاقل أحيانا. ثم جرى حديث السحر وغيره من ضروب الشعوذة، فأخذ هذا يؤكد وذاك ينفي.
سردت أخبار فيها الغرائب والعجائب حتى استطردوا إلى قصة الراهبة هندية التي كانوا يزعمون أنها كانت تركب تيسا، وتذهب إلى الهند ليلا وتعود في الصباح.
فضحك المير وقال : سموها هندية لأجل هذه الخرافة ...
فقال الشاعر أمين الجندي، وكان مع السامرين في تلك الليلة: رأيت صاحب المندل بعيني ونسخت تعازيمه،
19
وحفظتها عن ظهر قلبي، وجربتها بعد أن استعنت بآراء ابن خلدون فما نجحت، وإليكم الحكاية:
كنا في حمص شبابا، وأردنا أن نكتشف قاتلا، فلجأنا إلى صاحب المندل فأجاب طلبنا، وكانت الجلسة.
ألقى البخور في النار وغطى رأسه بكوفية بيضاء رقيقة جدا، ثم جاء بخاتم وكتب على ورقة ناصعة البياض بقلم غزار وحبر أسود أربع كلمات: «هاروت ماروت، يأجوج مأجوج». ثم كتب أيضا هذا الدعاء الذي وضعه ضمن الخاتم: «أقسمت عليكم يا أولاد بيرواح الموكلين ببني آدم، بحق الاسم الأعظم الذي قال للسموات والأرض: ائتيا طوعا أو كرها. قالتا: أتينا طائعين. أجيبوا طلبي مسرعين. بحق النقش الذي على خاتم سليمان.» ثم أخذ يعزمم بما يأتي: «سقموش سقموش، الياخ الياخ، جاوب يا أحمر، وأنت يا أبيض. انزلوا في هذا المندل - وكان وضع طستا أمامه فيه ماء - واكشفوا الحجاب بينكم وبين الناظرين. بحق سبوح قدوس رب الملائكة والروح، وبالحق نزل إنه من سليمان. ائتوني مسلمين طائعين لأسماء رب العالمين. الوحا الوحا، العجل العجل.»
واستمر يتلو هذه التعزيمة نحو نصف ساعة أو أكثر، فاختفى اللون الأسود وحل محله اللون الأبيض ... ثم رأينا الرجل الذي طلبناه وعرفنا أين يقيم.
فقال بطرس كرامه: هل وصلتم إليه، وقبضتم عليه؟
فقال أمين الجندي: ما جربنا ولا سعينا.
فتمتم الأمير: إذن ... ما ترقينا
20
شيئا.
وكان الأمير قد عزم أن يطلب من شيخ النور الذي يدعي معرفة السحر أن يرشده إلى مقر الشدياق سركيس، فسمع كل هذه الأحاديث ببال طويل، ولما رأى أنهم لم يفيدوه شيئا، كب رماد غليونه، فانصرفوا.
ولما تمدد سعادته على فراشه، رأى - وهو بين الغافي والواعي - أنه في سهل طويل، أرضه حمراء كثيرة الحجال، وكان معه في الصيد ولده قاسم، فرمى أول مرة، ثم ثنى وثلث فلم يصب شيئا. فقال له المير: هات جفتك، من يقول إنك ابن الأمير بشير؟
وتناول الجفت ورمى فأصاب الحجل ، ولكن الحجل لم يمت بل سقط إلى الأرض وكرج نحو المير واختبأ تحت ذيل عباءته.
تعجب المير من ذلك، فصاح بالحاشية: القطوه، امسكوه! ففر الحجل فرة، فإذا به في حضن الأمير.
وانتفض الأمير، فإذا بهذا الحجل يستحيل أفعى، فخاف منها ولكنه أسرع فقبض عليها، فكانت القبضة على عنقها.
وما بلغ الأمير في حلمه هذه الغاية حتى رأى في نومه أيضا أنه يفسر هذا الحلم فيقول: الحية امرأة، وبما أننا قبضنا عليها فقد أمنا شرها، ولكن هذه الحية عادت حجلا كما رأى أولا، فدفعه الأمير إلى حاجبه باسم، وأمره بالاعتناء به والحذر منه في وقت معا.
ثم اتجه الحلم اتجاها آخر، فرأى الأمير أنه في قصره، وأن جدارا منه تداعى
21
وكاد يسقط عليه، فانتبه من شدة الفزع، فرأى أن شيئا من هذا لم يحدث، فحمد الله على أنه حلم، ونام حتى الصبح ولم يعد يرى شيئا.
حيلة الشدياق سركيس
وبعد بضعة أيام رأى الأمير رؤى مزعجة لم يتذكر منها غير القليل، فعادت به الذكرى إلى حلمه المزعج، فأمر نجابه
1
علي حبق أن يطير إلى دير القمر ويأتيه براهب كنيستلة - كنيسة التلة - ليئول
2
له الأحلام التي تزعجه ولا تذهب من فكره ...
وبينا كان الراهب يتبحر في تلك الرؤى، عاصرا يافوخه ليفسر حلم الأمير، إذا بالحاجب يدخل ليقول لسعادة المير: الشاعر الذي أمرت أن يتشرف بالمثول بين يديك ينتظر في الخارج.
فصر المير أنامل يسراه علامة الانتظار، فخرج الحاجب، وفتح الراهب فاه وقال: ستظهر لك أسرار قضية تشغل بالك، ويقع في يدك عدو لا يستهان به، وتخرج من هذه المعضلة
3
مرتاح البال.
فقال المير: والحيط الذي أبصرت في المنام أنه عاب ...
فأطرق الراهب وقال: أبعد الله عن سعادتك كل عيب. الأحلام تفسر، غالبا، بالمقلوب. سترفع سراي بتدين فوق كل سراي. ثم افتكر هنيهة، وهز رأسه وقال: إن شاء الله. مؤكد.
فقال الأمير: إن شاء الله، عسى أن يستجاب دعاك.
وأومأ بعدئذ إلى الحاجب، فدخل الشاعر وانصرف الراهب.
حيا الشاعر صاحب السرير واضعا يده على جبهته، ثم أنزلها إلى صدره ، وانحنى منطويا كالعرجون،
4
ثم وقف منتصبا في القاعة كالعمود.
كان الشاعر مفرط الطول، أبيض اللون، تدل سيماه على أنه ليس من الجنس الأسمر، واسع الحدقتين،
5
أنف طويل مروس، معقوف كأنه منقاد نسر، ملتح ولكنه كوسج
6
تكاد تظهر جلدة وجهه من تحت شعره، وقد ناهز الخمسين من العمر.
وبينا كان واقفا حد العمود صامتا كأنه عمود آخر، كان المير يتفرس به.
تذكر أن هذا الوجه غير غريب عن ذاكرته، وراح يقول في قلبه: أين رأيته يا ربي!
وأخيرا طرد تلك الفكرة وقال في نفسه: الناس تتشابه.
وبدون تفكير سأل الشاعر: أنت من قبرص؟ - نعم يا صاحب السعادة. - شاعر عربي من قبرص؟ - نعم يا سيدي، أنا لبناني الأصل، هاجرنا هاربين من وجه الجزار. طلب الجزار والدي ثم أهدر دمه، فخاف وفر إلى قبرص. - وعجز الجزار عن القبض عليه في قبرص! - نعم يا سيدنا؛ لأن ليس له دهاء المير بشير؛ ولأن والدي ما قتل بطركا كأولاد أبي كشك.
فسر الأمير بهذا الإطراء وقال: يظهر أنك تعرف في تاريخ لبنان. قل لي متى جئت من قبرص؟ - يسألني الأمير متى جئت من قبرص وهو الذي لا تخفى عليه خافية في بلاده. لا شك أن رجالك عرفوا بي حين وضعت رجلي على الشط. - ولماذا أتيت لبنان؟ - لأن الشعر ينفق عند أميره، فهو يجدد عهد خلفاء العرب وأمرائهم، ومحيي الشعر والشعراء.
فراق ثناؤه للأمير، فأطرق وقال في قلبه: هذا رجل يتغدانا قبل أن نتعشاه. ثم ألقى عليه نظرة من نظراته المفترسة وقال: منذ كم أنت في لبنان؟ - منذ أكثر من نصف سنة. - طيب أسمعنا الآن، على أن نتم حديثنا فيما بعد.
فأنشد الشاعر قصيدة عصماء، جاء فيها على كل حوادث المير بشير من وقعة المزة وسانور إلى شر عينداره.
أخرجها بصورة شعرية رائعة، صور الأمير أسدا رابضا على كتف الوادي، يحمي لبنان جبروته
7
وسطوته، وأنه عصامي أصيل سبق الجياد القارحة
8
يوم كان مهرا، وسيظل حائزا قصب السبق ...
فاستحسن الأمير قصيدته كل الاستحسان، وسمح له بتقبيل أنامله، وأمره بالجلوس حده على الصفة.
9
وبينا كان الأمير يسأل الشاعر عن أحوال قبرص وموقعها، وحكم الإنكليز فيها، دخل الحاجب يعلن وصول بناء طلياني استقدمه المير لصنع فسقية
10
قائمة على الأسود كما في قصر الحمراء. فقال الأمير: الشدياق حنا غائب الآن فمن يترجم لنا؟
فضرب الشاعر صدره وقال: عبدك، إن أمرت.
فقال الأمير للحاجب: أدخل الطلياني.
وبعد انصراف الطلياني من الحضرة سأل المير الشاعر أين تعلم الطليانية، فأجاب: في عين ورقة يا سيدي، أنا ماروني.
فقال الأمير مظهرا اطلاعه وروايته للشعر:
كن كيف شئت فإن الله ذو كرم
وما عليك إذا أذنبت من بأس
إلا اثنتين فلا تقربهما أبدا
الشرك
11
بالله والإضرار بالناس
ودخل في تلك اللحظة المعلم بطرس، فقال الأمير: كيف رأيت الشاعر القبرصي؟ يظهر أن قبرص تنجب شعراء أيضا ...
فابتسم الشاعر، وأجاب المعلم بطرس: لو لم يكن يستأهل الوقوف في قاعة أمير الشرق ما استأذنت له.
وفي أثناء هذا الحديث ارتفع صوت زامر يرافقه غناء جوقة:
يا طيري وغطي يا حمامه
وانزلي بدار السلامه
جيبيلي من حبي علامه
سيكاره وبصة ناره
وإذا بصوت الخفير الجهوري يملأ الميدان زاجرا
12
الجوقة، فينقطع كل حس.
ويطل الحاجب من القاعة فيقول: جوقة نور، معهم دب وسعدان.
فقال المير: جاءوا بوقتهم.
ثم خرج وقعد في شرفة تطل على الساحة آذنا لجوقة النور بتمثيل دورهم.
لم يبال المير كثيرا بما أعده القراد
13
ومرقص الدب من حركات ومشاهد رآها في كفرنبرخ. كان يفكر بأشياء كثيرة منها أنه لم ير مع الجوقة شخصا لفت نظره حين رآهم في كفرنبرخ. وبكلمة نزلت في ذهنه، كلمة قالها الشاعر: أنا ماروني ... تلميذ عين ورقة. إذن هذا يعرف الشدياق سركيس، فهما من جيل واحد تقريبا، فلماذا لا يغريه كما أغرى حسن علي حتى قتل أخاه بألف قرش ووظيفة؟
ورأى نائب شيخ جوقة النور أن ألعابهم المعادة لم ترق لسعادته في القصر كما راقت له تحت سنديانة كفرنبرخ، فوقف وقال: دستور من صاحب الإذن والدستور.
وأومأ إلى أحد رجال عصابته فصعد إلى رأس القصر، ونزل على زاوية قاعة العمود نزول الأفعى، فكان المتفرجون يقشعرون ويصرخون حينما يختل توازنه بعض الشيء، وما صار على الأرض حتى قفز وانتصب أمام الأمير ساجدا له، فاستحسن لباقته ولياقته.
وتقدم ثان، فوقف على حافة البركة وجمز،
14
فإذا هو على الحافة الثانية منتصبا كالرمح. سجد الرجل للمير حيث ثبت، ثم أعاد الجمزة بالمقلوب، فعاد إلى حيث كان أولا، ولم يول الأمير ظهره، فضج النظارة إعجابا.
ثم تقدم ثالث ووقف لصق جدار القصر العالي ورمى جريدة،
15
فإذا بها تحلق فوق البوابة وتقع وراء الجدار، فأعجبت المير فروسيته.
ثم أعد كرسيان بينهما مسافة ذراعين تقريبا، فتقدم أحد الجوقة وأسند رأسه إلى واحد، ورجليه إلى الآخر، ووقف على بطنه وصدره وفخذيه خمسة رجال ولم يلتو، فصفق المشاهدون له طويلا.
استطاب الأمير ذلك منهم، ولكنه عده تحديا لرجاله، وعلى كل فالنور لم يدعوا الفروسية كما ادعى «الدالاتي»، ولم يتحدوا أحدا تحدي «المصارعجي»، فأمر بإعطائهم، وإكرامهم، وإضافتهم إلى ما طاب لهم البقاء.
فدعوا للأمير دعاء حارا جدا طرب له حتى اهتز، ونسي تحديهم في ضرب الجريدة والقفز، والتسلق من عل إلى أسفل.
وعاد الأمير إلى القاعة آمرا الشاعر أن يتبعه. ولما دخلا جلس الأمير في الزاوية على طراحته الدمقسية،
16
وبرقت عيناه حين مشط بأصابعه لحيته التي وخطها
17
الشيب، ولاحت من بين فلقتيها
18
قبضة خنجره كأنها رأس أفعى.
أمر الشاعر بالدنو منه، وأقفل الباب، فأطرق الشاعر وتكتف.
قال له المير: قلت لي أنك تلميذ عين ورقة. - نعم يا مولاي، أنا تلميذ عين ورقة. - على رئاسة من؟ - على رئاسة ... رئاسة ... اسمه على رأس لساني. صار مطرانا بعد مدة. يا ربي تذكرني. تذكرت. الخوري يوسف اسطفان؟
فعبس الأمير لحظة لهذه الذكرى ثم قال: هل عرفت شخصا اسمه الشدياق سركيس شاهين؟ - وكيف ... سركيس شاهين ... هذا جبيلي. كان رفيقي في الصف، وكنا مثل الإخوة. - اجتمعت به بعد المدرسة؟ - منذ سنة تقريبا كان في قبرص، وقالوا لي إنه رجع إلى لبنان. - إذن تعرفه إذا فتشت عليه؟ - معلوم. - إلى أي صف وصلتم في المدرسة؟ - درسنا كل العلوم واللغات: فلسفة، لاهوت،
19
عربي، سرياني، لاتيني، طلياني. - اسمع إذن ما أقول لك: أنت شاعر جئتنا مادحا فأكرمناك، وفوق ذلك الإكرام أنا أكلفك بمهمة، إذا قمت بها لك مني مئة ربع ذهب فندقلي. نعم فندقلي. ووظيفة في القصر. تكون من كتابي. - اؤمر يا مولانا. - تفتش على الشدياق سركيس وترشد خيالتي عليه. هم يمشون خلفك، لا تخرج أنت من قرية حتى يدخلوها هم، وهكذا يظلون على مقربة منك. - وماذا يصير إذا دللتهم عليه؟ - تقبض المبلغ وتقعد على كرسي وظيفتك. - اسمح لي أن أسأل.
فأومأ الأمير برأسه أن اسأل.
فقال الشاعر: وماذا تعمل به الخيالة؟ - يأتوني برأسه؛ لأنه أزعجني جدا.
شد سعادته على كلمة جدا، فتبسم الشاعر وقال: أوف ... النهار يعرف من أوله ... هذا اللعين كان في المدرسة مزعجا، ولكن ذكي جدا يا مولاي، يصلح خادما لأفكار سعادتك. - لا، لا، لا. - بلى إن أمرت. فأنا أعرف الشدياق سركيس، داهية يا سيدنا، حاضر القلب، لا يهاب الموت. إن عاهد وفى. عرفناه، ومع ذلك من يدري. اسمع كلامي ولا تصدقني. الإنسان قد يتغير.
وقرقر
20
بطن الشاعر فشد عليه، أما الأمير فتظاهر أنه لم يسمع شيئا، ونفخ نفخة تذري بيدرا كما يقولون، فاضطرب الشاعر.
التفت فرأى سيف الأمير نائما حده على «الديوان»
21
فخاف، وخصوصا حينما انتفضت لحيته العامرة كدنيا مطامعه وآماله بالسيادة.
حسب الشاعر تلك اللحية مقصبة هبت عليها عاصفة حين تمايلت ... وانتظر جواب الأمير والأمير ساكت. ودام ذلك دقيقة خالها الشاعر شهرا، فقال الأمير: إذن تعرفه حق المعرفة، وهذا رأيك فيه. - أمني يا مولاي، لأصرح برأيي بكل وضوح. - أمنتك.
فظل الشاعر صامتا، فصاح الأمير: أيش
22
بك! ما قلت لك أمنتك!
فقال الشاعر: طبعا سعادتك تعرف البطرك الحالي، الحبيشي، اسأله عن الشدياق سركيس فهو يعرفه، فإن لم يستحسن ما عرضت لسعادتك من رأي فأنا في قبضة يدك، أبقى رهينة عندك حتى يجيئك الجواب ... وإن استثقلت وجودي، أغب وأرجع. - بل تبقى عندي في كل حال ، فأنا محتاج إليك، لك عندي شغل يا شدياق، أنت شدياق لأنك تعلمت في عين ورقة.
فاضطرب الشاعر، وحنا رأسه مفكرا. ورأى الأمير ذلك فقال: وإن لم يعجبك قصرنا ففتش عن أحسن.
وأراد الشاعر أن يطري، فقال الأمير: لا مجال لكثرة الحكي. تقدر أن تجي براس الشدياق سركيس أو الإرشاد إلى عصابته، ولك المال والوظيفة!
فأجاب الشاعر: وظيفة فقط. ونفتش عن الشدياق، ولعل الله يبختنا
23
به. أمني يا مولاي حتى أبدي لك رأيي بوضوح. - قلت لك أمنتك ... كم مرة نؤمنك ... احك ما عندك. - أعطني عهدك وزمتك وجوارك. - أعطيتك. أنت في زمة المير بشير، وعهده ووجهه.
فضحك الشاعر وقال: أتجرأ أن أحكي؟ - قل، قلت لك.
فأجاب الشاعر بخضوع يمازجه الخوف: أريد يا مولانا عهد بو سعدى لا عهد الأمير بشير.
فقطب المالطي حاجبيه، فأحس الشاعر بشيء كأنه الماء الفاتر يجري تحته ... ثم انبسط وجه الأسد اللبناني فعادت روح جليسه إليه.
ولما أفرخ روعه
24
فقال له: لماذا تطلب مني عهد بو سعدى؟ ألا تقنع بعهد المير بشير؟
فأومأ الشاعر بعينيه: أن لا.
فضبط الأمير من نفسه ما لم يتعود ضبطه ... كان يهمه رأس الشدياق سركيس، فطايب الشاعر وقال: لماذا؟
فقال الشاعر: في لبنان يا سيدي أكثر من بشير، أما بو سعدى فليس له في الدنيا سمي ولا نظير. - هذي ليست حجة.
فقال الشاعر في نفسه: الموتة واحدة. ثم تشدد وقال للمير: أمني يا سيدي لأوضح أكثر.
ففرغ صبر الأمير، ولكنه تذكر حاجته إلى رأس الشدياق سركيس، فأبدى الحلم والأناة
25
وقال للشاعر: أمنتك. احك.
فقال الشاعر بلهجة من لا يهمه الموت: أبو سعدى حليم لأنه أب، أما المير بشير فربيب الجزار. فإن أمرت أعطيتني عهد بو سعدى الذي يحل قضية الشدياق فتراه بين يديك.
فقطب الأمير وقال: لك عهد بو سعدى.
وكان الأمير لا يحنث
26
قط متى تكلم كأبي سعدى.
فقال الشاعر: اتفقنا، إذن، على أن يجيء الشدياق سركيس مسلما، ولا خوف على حياته. - نعم ... - أمرك يا سيدي.
وكانت في تلك الآونة تطفو على شفتي الشاعر كلمات، ثم لا يجرؤ على إطلاقها من وكرها، فأدرك المير ذلك فقال له: صارحنا، قل ولا تخف شيئا.
فقال الشاعر: أما عليه خطر من القهوجي؟ ... وإذا حمي غضبك فمن يردك؟ - عهدي. - والمطران يوسف اسطفان كيف مات؟
فقطب الأمير وجهه وقال: ما عاهدته. مطران غدار. جعلته قاضيا للنصارى، فخانني وماشى الثورة. - ألا يصيب الشدياق ما أصاب أبناء باز؟ ألا يحل به ما حل بأبناء المير يوسف؟
فانتفض الأمير وقال: معلم ذمتي،
27
لم يوبخني على دفني الأعداء أحياء وإعمائي الناس ... أوع هاه ... لا تتماد. لا توقظ غضب المير بشير ... اتركه نائما. - أنت عاهدتني، ورخصت لي فأرجو ألا يسوءك كلامي. - إذن خذ الجواب. أنا ما قتلت واحدا عاهدته، وأولاد باز وأبناء عمي المير يوسف بقايا دولة ذهبت، كانوا خطرا علي، ومن لا يتقي الخطر؟ لو لم أفعل بهم ما فعلت لفعلوا هم ذلك بي. أعميت أبناء عمي طبقا للتقاليد والعرف؛ وقتلت سواهم قتلا لأنهم ليسوا من العائلة المالكة. إن ما تسمونه أنتم فظاعة بربرية هو تقليد وعرف. أفهمت؟
فأجاب الشاعر: فهمت، نعم فهمت.
فقال المير: إذن قصر حديثك، واسع بإحضار الشدياق سركيس.
فأجاب الشاعر باسما: أقول له إن المير أعطاك عهد بو سعدى.
فأومأ برأسه أن نعم.
فقال الشاعر: وإذا لم يصدقني. - هذا شغلك. يظهر أنك قدير.
فقال الشاعر: وإذا لم يحضر مطيعا جئناك برأسه وقبضنا المبلغ وتوظفنا. وإذا صدق وجاء فلا خوف عليه، أليس كذلك؟ - حقيقة إنك وقح؛ كأنك تساوم العطار
28
ولست تحدث الأمير ...
ركبناك خلفنا فمددت يدك إلى الخرج.
29
خاطبت المير بلهجة ما خاطبه بها أحد بعد. قلت لك هات الشدياق سركيس، وعليك وعليه، وعلى عصابته أمان الله وعهد بو سعدى. إن كلامك معي لا يخرج إلا من رأس داهية،
30
فمن أنت يا إنسان!
وبسرعة خاطفة التف الشاعر بذيل عباءة المير وصاح: أنا الشدياق سركيس وجوقة النور عصابتي.
فأجفل
31
الأمير كمن رأى حده أفعى، ثم ما عتم أن صرخ به: قم عني. الله يخيبك! صح فينا قول المثل: الدارس غلب الفارس.
عين كفاع 1948-1953
Página desconocida