فاشتد ميل ابن الفضل للدخول على الأمين وإن لم يؤذن لسواه فيفاخر أهل البلاط بدالته على صاحب الخلافة، فظل ماشيا وابن سعدون بجانبه حتى أقبل على باب القصر والحرس الشاكرية وقوف بالأسلحة، فتأدبوا عند مشاهدته، ثم خرج الحاجب لملاقاته وتلطف في الترحيب به وفي غنة صوته وملامح وجهه شبه اعتذار عن عدم إدخاله؛ فأدرك ابن الفضل غرضه فابتدره قائلا: «استأذن أمير المؤمنين في دخولي ودخول رفيقي هذا.» وأشار إلى سعدون.
فتردد الحاجب حينا ولم يجسر على التصريح بأن أمير المؤمنين لا يأذن لأحد، ثم غلب عليه الخوف فدخل على الأمين، وظل ابن الفضل في انتظاره والناس ينظرون إليه ويتوقعون أن يرد طلبه فيفشل ما أراده من التقدم عليهم جميعا. أما هو فكان يتوقع الإذن له، رعاية لمنزلة أبيه. وبعد هنيهة عاد الحاجب وهو يبتسم وقال: «ادخل إذا شئت.»
فدخل إلى مكان تخلع فيه الأحذية فخلع حذاءه، وفعل سلمان مثل فعله، وتقدم بعض الخدم فتناولوا الحذاءين ووضعوهما على أماكن معدة لذلك. ومشيا على الأبسطة المفروشة في الدهليز، وتطرقا من قاعة إلى قاعة والحاجب يمشي بين يديهما حتى وصلا إلى مجلس الأمين، وكان على بابه ستر من الديباج المطرز فتقدم الحاجب وأزاح الستر وصاح: «مولاي ابن الفضل ورفيقه بالباب.»
الأمين والفضل بن الربيع
كان الأمين جالسا في صدر القاعة على سرير من الآبنوس المنزل بالعاج بلا ترصيع ولا تذهيب؛ لأنه السرير الذي كان يجلس عليه المنصور قبل أن يغرق العباسيون في الحضارة والترف واستخدام الذهب والجوهر في آنيتهم ومجالسهم، وكانت على أرض القاعة طنافس ثمينة قليلة الزينة عليها الوسائد والكراسي. وقد ارتدى الأمين مثل ملابسه يوم المبايعة لأنه ما زال يستقبل المهنئين والمبايعين، فدخل ابن الفضل ورفيقه فرأيا بين يدي الأمين ماهان صاحب الشرطة، وقد قعد على وسادة قعود أهل الدولة بلا كبير تهيب؛ لأن الأمين لم يكن في مثل هيبة أبيه، ولا سيما مع من تعود مجالستهم من خاصته في مجالس الشراب أو الطرب، ومع أمثال ابن ماهان وغيره من ذوي شوراه الذين يحتاج إلى رأيهم أو مساعدتهم.
وكان الأمين شديد الثقة بابن ماهان والفضل بن الربيع، يستشيرهما في مهامه. فلما جاءه كتاب الفضل في ذلك الصباح ينبئه بقدومه ومعه الأحمال ومن بقي من رجال الرشيد وأنه لا يلبث أن يصل إلى بغداد ليقص عليه تفصيل ما فعله ، اهتم الأمين بذلك الكتاب وبعث إلى ابن ماهان ليطلعه عليه، وأمر بألا يدخلوا عليهما أحدا من الزوار. فجاء ابن ماهان فدفع إليه الأمين كتاب الفضل، ثم لم يكد يتم قراءته حتى جاء الحاجب يستأذن لابن الفضل ورفيقه، فسأل الأمين عن ذلك الرفيق فقال الحاجب: «هو رجل من علماء حران كأنه حاخام أو ملفان.»
فقال: «وما شأنه؟»
فعلم ابن ماهان أنه الملفان سعدون، فتبسم وقال: «أظنه الملفان سعدون الحراني. إن لهذا الرجل شأنا عظيما، وله قوة غريبة على استطلاع الغيب.» فالتفت الأمين إلى ابن ماهان وقال: «هل تعرفه؟»
قال: «إذا كان هو الملفان سعدون فقد عرفته؛ لأني اجتمعت به في جلسة ورأيت منه المعجزات.»
فهز الأمين رأسه وقال: «إني قليل الثقة بهؤلاء الدجالين.»
Página desconocida