فلما سمعت ميمونة اقتراح جدتها أشرق وجهها ارتياحا لهذا الرأي؛ لأنه عبر عن إحساسها، كأنها نابت عنها في قول ما لا تستطيع هي التصريح به.
أما سلمان فإنما وعد بالبحث عن بهزاد حياء من دنانير؛ لأنه كان يرغب في الرجوع إلى ابن الفضل قياما بوعده ليغتنم فرصة ذلك الانقلاب عسى أن ينفعه فيما هو فيه. على أنه كان لا يرى موجبا للقلق لغياب مولاه لعلمه بكثرة شواغله. فاستأنف الكلام وقال: «ها أنا ذا ذاهب للبحث عن الطبيب والاتكال على الله.» وخرج.
ميمونة وابن الفضل
خرج سلمان من القصر المأموني بعد أن بدل ثيابه، وركب بغلته وسار إلى قصر الفضل بن الربيع. والقصر يومئذ في الرصافة بالجانب الشرقي من بغداد يشرف على سوق الميدان، وكان في الأصل إقطاعا أقطعه الرشيد لعباد بن الخصيب، فصار كله للفضل بن الربيع يقيم به مع أهله، وهو على مسافة بعيدة من القصر المأموني وإن كان كلاهما على الجانب الشرقي من بغداد. فقطع سلمان المخرم حتى دخل طريق الميدان، وهو يبتدئ من سوق الثلاثاء وينتهي بالشماسية ويعرف هناك بطريق الخضير. وكانت تحمل إليه المصنوعات الصينية وغيرها من الأواني الثمينة وتباع فيه.
فلما وصل إلى باب القصر عند الغروب، وجد ابن الفضل في انتظاره وقد أوصى الحرس بأن يدخلوه إليه، فلم يمهله الحارس حتى يترجل بل سارع إليه فابتدره قائلا: «الملفان سعدون؟» فقال: «نعم.»
قال: «إن مولانا في انتظارك ... اتبعني.»
فترجل سلمان ومشى في طريق الحديقة يضرب الأرض بعكازه ويتباطأ في مشيته مطرقا متمتما كأنه يتلو آية أو يقرأ تعويذة، وأسرع حارس آخر فسبقهما وأنبأ ابن الفضل بقدومه. فقطعا البستان حتى وصلا إلى باب القصر الداخلي فإذا بابن الفضل قد خرج لملاقاته والترحيب به، وصافحه ومشى بجانبه حتى اتصلا من الدهليز إلى قاعة استطرقا منها إلى غرفة لا يدخلها غير ابن الفضل وبعض خاصته، وفيها سرير بجانبه كرسيان، وفي أرضها بساط ثمين، وفي إحدى زواياها منارة عليها عدة شموع أناروها فجلس ابن الفضل على السرير ودعا سلمان إلى الجلوس على كرسي بجانبه قائلا: «مرحبا بالملفان سعدون.»
فجلس سلمان وما زال يتمتم وقد ألصق ذراعه بجنبه كأنه يتأبط شيئا يحرص عليه، فلما استقر به الجلوس أخرج من تحت إبطه منديلا من الحرير فيه كتاب هو درج من الرق قديم العهد تخرق من بعض جوانبه، وتمهل في حل الصرة وأخرج الدرج مبالغة في الحرص عليه، ووضعه في حجره فبانت من خلال الخروق كتابة بحرف لا يقرؤه الإنس ولا الجان. ثم رفع رأسه كأنه فرغ من القراءة أو التعزيم، ومسح وجهه من جبهته إلى لحيته، والتفت إلى ابن الفضل وأخذ يثني عليه لحسن وفادته فأجابه: «لقد أتيت أهلا ونزلت سهلا.» وبش له يستأنس به استعدادا لما ينوي كشفه له من أسرار.
فابتسم الملفان وقال: «لقد بالغت في إكرامي أيها الوزير.»
فغلب على وهمه أن الملفان إنما يدعوه وزيرا لما تبين له من علم الغيب في مستقبله، لكنه تجاهل وأحب أن يحقق ظنه فقال: «إنك تدعوني وزيرا والوزير أبي.»
Página desconocida