فأطرق بهزاد ثم قال: «ليست الغلبة للكثرة وإنما هي للشجاعة والصبر.»
قالت: «مع أن الغلبة للشجاعة، ولكن كيف يقف أربعة آلاف في وجه خمسين ألفا؟ وعلمت أيضا أن طاهرا خرج بجنده القليل من مدينة الري وعسكر على خمسة فراسخ منها، ولو بقي في المدينة لكان له في حصونها ما يعصمه من الهزيمة.»
قال: «قد أحسن ابن الحسين؛ لأنه يخاف أهل الري إذا انهزم مثل خوفه جنود الأمين، وإذا أحسن الرأي بادر إلى الحرب قبل أن تعرف قلة جنده.»
فقالت: «يلوح لي أنه عازم على ذلك، وكنت أحسب عمله خطأ فلم أصدق الخبر؛ وذلك أن بعض أصحابه قال له: «إن جندك القليل قد هابوا هذا الجيش الكثير، فلو أخرت القتال إلى أن يعجم أصحابك عودهم، ويعرفوا وجه المأخذ من قتالهم.» فقال: «إني لا أوتى من قلة تجربة وحزم. إن أصحابي قليل والقوم عظيم سوادهم كثير عددهم، فإن أخرت القتال اطلعوا على قلتنا واستمالوا من معي برغبة ورهبة فيخذلني أهل الصبر والحفاظ، ولكني ألف الرجال بالرجال وأقحم الخيل على الخيل وأعتمد على الطاعة والوفاء وأصبر صبر محتسب للخير حريص على الفوز بالشهادة، فإن نصرنا الله فذلك الذي نريده ونرجوه، وإن تكن الأخرى فلست بأول من قاتل وقتل، وما عند الله أجزل وأفضل ...»
فأعجب بهزاد ببسالة طاهر وحزمه وأحب أن ينهي الحديث فقال: «كنت أود لولا العجلة أن أرى أم حبيبة فأهديها سلامي.» وودعها ومضى.
ساحة الحرب
سار بهزاد على فرسه وقد التف بالعباءة وتلثم بالكوفية وتقلد الخنجر تحت العباءة بجانب السيف، ومر بالري في الضحى فعلم من أحاديث القوم أن طاهرا ينوي المبادرة إلى القتال قبل أن يطلع عدوه على قلة رجاله. وما لبث أن سمع قرع الطبول للحرب وقد علت الضوضاء وتصاعد الغبار، فصعد إلى أكمة أشرف منها على سهل، فرأى الجيشان يتأهبان للقتال والفرق بينهما كبير، فأوجس خيفة على جند طاهر، وصمم على ألا يبرح المكان حتى يرى النصر لجند المأمون ولو كلفه ذلك حياته.
وكان ابن ماهان قد عبأ جنده ميمنة وميسرة وقلبا، وعبأ عشر رايات مع كل راية مائة رجل، وقدمها راية راية، وجعل بين كل رايتين غلوة سهم، وأمر أمراءها إذا قاتلت الراية الأولى وطال قتالها أن يتقدموا برايتهم ليحلوا محلها حتى تستريح. ثم وقف بنفسه يشرف على القتال.
أما طاهر فإنه عبأ أصحابه كراديس، كل كردوس كتيبة بصفوفها، وجعل كردوسه في الوسط، ومشى بجنده على هذا النظام وهو يحرضهم على الثبات والصبر. ولحظ بهزاد أن جماعة من رجال طاهر فروا إلى ابن ماهان فشق ذلك عليه، ولكنه ما لبث أن علم أن ابن ماهان - بدلا من أن يكرم أولئك الفارين ليرغب غيرهم في المسير إليه - أمر بجلدهم وإهانتهم وتعذيبهم مما أغضب الباقين عليه. وظل بهزاد واقفا وعيناه شائعتان وقلبه يخفق رغبة في الاشتراك في تلك المعركة ولكنه لبث يترقب الفرصة السانحة.
وبينا هو هكذا إذا بطاهر بن الحسين قد خرج من جنده على فرسه حتى أشرف على جند ابن ماهان وبيده رمح أشرعه، وفي رأس الرمح رق علم أنه صورة بيعة المأمون. فوقف طاهر بين الصفين وطلب الأمان من ابن ماهان حتى يتكلم، فلما أمنه رفع الرمح بيده والبيعة معلقة به وقال: «ألا تتقي الله عز وجل؟ إن هذه البيعة قد أخذتها أنت بنفسك؛ فاتق الله فقد بلغت باب قبرك.»
Página desconocida