المأمون
كان المأمون في خراسان حينما مات أبوه الرشيد، فلما بلغه ما فعله الفضل بن الربيع من نقض بيعته والعودة بالأموال من طوس إلى بغداد، جمع أصحابه من الفرس في مرو - وكبيرهم يومئذ الفضل بن سهل - واستشارهم، فأشار أكثرهم عليه بأن يدرك ابن الربيع وأصحابه «بجريدة» فيردهم. ولكن الفضل بن سهل حذره من أن يترك خراسان وقال له: «إن فعلت ذلك جعلوك هدية لأخيك، والرأي أن تكتب إليهم كتابا وتوجه رسولا يذكرهم بالبيعة ويسألهم الوفاء.»
فعمل المأمون برأيه ولم يجد في ذلك نفعا أول الأمر؛ فقلق وخاف العاقبة، ولكن الفضل أخذ يطمئنه وقال له: «أنت نازل في أخوالك، وبيعتك في أعناقهم؛ فاصبر وأنا أضمن لك الخلافة.» وأشار عليه بأن يلزم التقوى؛ لأن العامة لا تحكم بشيء حكمها بالدين. وكان المأمون عاقلا حكيما لطيفا وديعا رقيق الجانب يحب العلم، وقد تفرغ له لما أقام بخراسان وفيها جماعة من العلماء، فكان يقضي نهاره في مجالستهم ومباحثتهم حتى اطلع على علوم القدماء ، ولا سيما الفلسفة. وكان ربعة في الرجال، أبيض جميلا، طويل اللحية خفيف الشعر، ضيق ما بين الحاجبين، في خده خال أسود، وفي عينيه ذكاء ولطف اشتهر بهما حتى ضرب به المثل، وقد تربى على مذهب الشيعة وأحبهم؛ لأنه شب في حجر البرامكة ثم الفضل بن سهل.
ولبث المأمون في خراسان ينتظر ما يكون من أخيه الأمين، حتى جاءه منه يوما وفد يكلفه أن يبايع لموسى بن الأمين ويقدم اسمه في الخطبة، ويدعوه إلى بغداد بحجة أنه قد استوحش لبعده؛ فارتاب المأمون وبعث إلى الفضل يستشيره في الأمر، فجاءه هذا إلى قصر الإمارة وخلا إليه في مجلس خاص لم يحضره إلا خواص الأمراء وفي مقدمتهم أخوه الحسن.
فقال المأمون: «جاءنا من أخينا وفد يطلبون إلي أن أقدم ابنه موسى علي ويدعونني أن أذهب إليه.» فقال الفضل: «أما تقديم ابنه ففيه نكث للبيعة، والله على الباغي. وأما خروجك من خراسان فإن عزمت عليه فأنت صاحب الأمر، ولكنك تفقد كل أمل في الدفاع عنك. وليس هذا قولي فقط، بل هو قول الخراسانيين جميعا. وهذا هشام كبير وجهاء خراسان فليسأله مولاي.»
وبعث المأمون إلى هشام، فلما جاءه واستشاره قال: «إنما بايعناك على ألا تخرج من خراسان؛ فإذا خرجت منها فلا بيعة لك في أعناقنا. ومتى هممت بالمسير تعلقت بك بيميني، فإذا قطعت تعلقت بيساري، فإذا قطعت تعلقت بلساني، فإذا ضربت عنقي كنت قد أديت ما علي!»
فلما سمع المأمون قوله تشجع، والتفت إلى الفضل فقال له: «ذلك ما يراه كل الخراسانيين وهم أخوالك.» ثم أشار عليه بإسقاط اسم الأمين من الخطبة والطراز، وقطع البريد عنه؛ ففعل وولاه الوزارة في حالي الحرب والسلم وسماه ذا الرياستين.
وفيما هم في مجلسهم دخل الغلام يستأذن لبهزاد الطبيب، فسأل المأمون عنه فقال الفضل: «هو طبيب قصركم في بغداد.» فتذكره وقال: «يدخل.»
فدخل بهزاد وحيا، فأشار إليه المأمون بالجلوس فجلس، ثم سأله المأمون: «كيف فارقت بغداد؟» فقال: «فارقتها وهي تندب أهل الصلاح، على أن أهل أمير المؤمنين والحمد لله في خير وعافية، ولكن ...» وسكت.
فقال المأمون «ولكن ماذا؟»
Página desconocida