Amin Rihani: Promotor de la Filosofía Oriental en Occidente
أمين الريحاني: ناشر فلسفة الشرق في بلاد الغرب
Géneros
مقدمة
ترجمة حياته
حفلات تكريمه
باب المختارات
المختارات الشعرية أو الشعر المنثور
خاتمة
مقدمة
ترجمة حياته
حفلات تكريمه
باب المختارات
Página desconocida
المختارات الشعرية أو الشعر المنثور
خاتمة
أمين الريحاني
أمين الريحاني
ناشر فلسفة الشرق في بلاد الغرب
تأليف
توفيق سعيد الرافعي
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
Página desconocida
وبعد، فإن الباحث في شئون العمران، والمنقب عن أسباب سعادة الإنسان، لا يكاد يمعن بصره في شيء يذكر، أو يجيل فكره في أي عمل من الأعمال الجليلة النافعة، إلا رأى فيه يدا ظاهرة للأدباء والشعراء، وأصحاب الهيمنة على المشاعر والقلوب؛ ذلك بما لهم من السعي المحمود، والقصد المشهود؛ فهم قادة الأفكار، وأمراء الأقلام.
أجل، بل هم رسل التعارف بين الأمم، وألسنة الوداد بين الشعوب، بما يؤلفون به بين القلوب من نفثات أقلامهم، وما يودعون الألباب من حكم منظومهم، ومحكم منثورهم.
ولما كان الإنسان مدنيا بطبعه، محتاجا لأخيه في شد أزره، وتقوية عضده؛ فكر في تنظيم الاجتماع والتعاون، وبث العلوم والمعارف؛ لتقوى الجامعة الإنسانية، وترسخ دعائم حضارات الأمم. فأخذت كل أمة على عاتقها القيام بشيء من هذه المنافع على قدر استعدادها، والعمل على ما يصل إليه جهدها. والمرء إذا رجع إلى تاريخ الاجتماع وجده حافلا بما للأمم الشرقية من الأيادي البيضاء على الإنسانية جمعاء، بما نشرت من معارفها، وأتقنت من صناعتها، وأكملت من مدنيتها، وأوسعت في حضارتها، وأبقت على الدهر من آثار قوتها.
نعم، قد كان أولئك الآباء والأجداد رواد حكمة، وناشري فضيلة، لا يكتفون بنشر العلم فيما بينهم، بل كان الواحد منهم إذا ظهرت له الحكمة، أو واتته المعرفة بشيء يخشى فوات نشره لتعميم فائدته؛ سابق الأجل فرسمه على الصخر والحجر، ليبقى عبرة أو تذكرة لمن شاء أن يتذكر فيفعل، ومثالا يحتذى في إكمال كل عمل.
أولئك الآباء الشرقيون أصحاب الهمم العالية، والمقامات السامية، قد جعلوا الشرق بهمتهم العلياء، وعزتهم القعساء، جنات زاهية، قطوفها دانية، بما أودعوه من بديع المدنيات، وجليل المآثر والعادات، حتى تمنى كثير من رجالات الغرب وفلاسفته أن يكون مستقبل أممهم كماضي أولئك الأمجاد:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
إذا جمعتنا يا جرير المجامع
يقول لويس جاكوليو:
آه، ما أسعدني إذا صار ماضي الهند مستقبل فرنسا!
ويقول فولتير الفيلسوف الفرنسي:
Página desconocida
قد كان للصين إسطرلابات «مراصد للفلك» قبل أن نعرف الكتابة والقراءة.
1
وقس على مدنيتي الهند والصين ما يماثلهما أو يفوقهما من المدنية البابلية والفينيقية والمصرية، وما ختم به كل مدنيات الشرق من المدنية العربية، فقد غشي سيلها الأرض الغربية فأحياها بعد موتها، فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج.
أجل، قد بعث العرب بمدنيتهم أمم الغرب من أجداثها، وسيئ مراقدها، وطول سباتها.
نعم، أخذت أمم الغرب عن العرب مدنيتها، واسترشدت بإرشادها، واهتدت بهديها؛ فسرعان ما برزت في ميادين الحضارة، وحازت قصب السبق من يد أساتذتها.
2
وهذا نتيجة جدها في العمل، وإقبالها على نافع العلم. فالشرقيون الآن على بكرة أبيهم أعق خلف لأكرم سلف؛ لما أضاعوا من تراث الآباء، وما زالوا ينحدرون من مكانتهم، وينزلون عن رفعتهم حتى غلبوا على أمرهم، وأصبحوا نهبا مقسما فيما بينها، فاستبدت بهم، ومنعتهم ثمرة جد آبائهم، وجهد أجدادهم، بما ألقت بينهم من تفريق الكلمة، وإيقاع الفتن والدسائس.
عندئذ أخذ اليأس يتسرب إلى أفئدتهم، والقنوط يحط رحاله بين ربوعهم، ويغشى مجامعهم ودور سمرهم.
لولا أن الله - جلت حكمته - قد تداركهم في حيرتهم، فأراهم بصيصا من نور الأجداد، ووميضا من برق الآمال، فأخذوا يبحثون عن ذاك التراث القديم، وينقبون عن أسباب الوصول إليه، فكان في طليعتهم أدباء الكتاب والشعراء على جاري عادتهم، فرأوا أن خير سبيل موصل إلى الغاية المنشودة إنما هو تعارف الأمم الشرقية بعضها ببعض، وإحكام الصلات بين شعوبها، وإذاعة فضلها بين رجال الغرب؛ فكان لعملهم هذا فائدة تذكر فتشكر، وآثار تعرف فلا تنكر.
وليس بدعا أن كان في مقدمة الأمم الشرقية في هذه الحلبة: الأمتان السورية والمصرية؛ فقد عرفتا حق الجوار وواجب الأخوة في اللسان، فأخذتا تتقاربان، وتضع كلتاهما يدها في يد الأخرى، حتى نطق شاعرهم بما في مكنون ضمائرهم فقال:
Página desconocida
لمصر أم لربوع الشام تنتسب
هنا العلى وهناك المجد والحسب
إلى أن قال:
هذي يدي عن بني مصر تصافحكم
فصافحوها تصافح نفسها العرب
فتعاونتا على البر والتقوى، وتصادقتا على تكريم رجال العلم والحكمة في أشخاص رجال الأدب والهمة.
وأنت إذا أبصرت ما يحصل من أبناء أحد القطرين الشقيقين، والبلدين التوءمين، من التجلة ومآدب الحفاوة والإكرام إذ نزل دار الضيافة أمير من الأمراء في القطرين، أو أديب من الأدباء في البلدين، للسياحة وترويح الخاطر؛ ملكك العجب، وعلمت همة العرب، وأيقنت أن هذا الشبل من ذاك الأسد.
فقد زار نيويورك منذ أمد غير بعيد صاحب السمو، الأمير محمد علي، فقابلته الجالية السورية في مهجرها بما يليق بمكانته السامية من التجلة والإكبار، ومن الإجلال والإعظام، وكذلك فعل المصريون مثل هذا عند زيارة الأمير شكيب أرسلان لمصر، ثم احتفل السوريون بحافظ إبراهيم، والمصريون بخليل مطران. وآخر ما شهدنا من هذا القبيل ما قامت به الجاليات السورية وكرام المصريين يوم قدم هذا القطر الفيلسوف الفذ أمين الريحاني؛ فقد كرموا العلم في شخصه، وقووا رابطة الإخاء بين السوريين والمصريين بما سارعوا إليه من الاعتراف بفضله، وتقديره حق قدره.
ولا عجب في هذا؛ فالشرقيون عامة، والسوريون والمصريون خاصة، أولى بمعرفة الريحاني وفضله، وأحق بإيفائه الشكر على عمله؛ فهو ناشر لواء أدب الشرق في الغرب، ومظهر فضل فلسفة المعري وغيره من فلاسفة الشرق أمام فلاسفة الغرب، وهو من عقد على رأسه الغربيون أكاليل المجد، ورفعوا له لواء الحمد، فقومه بهذا أولى، وعشيرته به أحق وأجدر.
فهو رجل الأدب وإتقان العمل، وفضله على العلم فضله، ومنزلته في خدمته منزلته.
Página desconocida
على أنك واجد في هذا الكتاب من سيرته، وكيفية نشأته، وبليغ حكمه، وفصيح خطبه، ورقة أسلوبه، ما يثلج له صدرك، وتقر به عينك، فيقفك على مكانة الرجل بين لداته وأترابه، ويعرفك كيف تنشأ همم الرجال، وتتكون ملكات العلم.
هذا وإننا نرى أن ما حصل في هاتيك الحفلات من أفضل مساعي التعاون التي تربط الأمم بعضها ببعض، لا سيما أن أمم الشرق في دور تكوينها الحديث، وتعارفها السياسي والأدبي، وتوثيق المعاهدات، وإحكام الصلات.
نسأل الله تعالى أن ينيلها الأمل، وينجح لها العمل. إنه حسبي وعليه المتكل.
توفيق الرافعي
القاهرة في مارس سنة 1922
ترجمة حياته
ما ذكر اسم الأمين إلا وتمثل لكل من طالع مؤلفات ذاك الفيلسوف الشرقي الذي نبتت أفكاره في لبنان، ونمت في بلاد الحرية: بلاد الغرب، ونشرت في المجلات والمؤلفات الإنكليزية والعربية. كاتب رشيق العبارة، متين التركيب، يطرب بأسلوبه كما يسكر بآرائه الفلسفية، تعرب أشعاره عن عقلية سامية، وروح رفيعة، ورجحان قوة الاستقراء، ودقة شرح أسرار الحياة وما وراء الحياة، أفرنجي الأسلوب، عصري الأفكار، راقي الخيال والوصف والابتكار، يبتكر بكتاباته وبلاغة تعبيره آراء وفلسفة اجتماعية خالعا ثوب التقليد والجاهلية القديم، ينظم الشعر الخيالي البليغ المؤثر باللغة الإنكليزية والعربية.
ومن اطلع على بنات أفكاره، ونفثات يراعه، وبديع أسلوبه، وجميل مقالاته، وغزارة مادته، وما عنده من بعد التصور وسمو الخيال، وتقرير الحقائق الفلسفية، وإيراد اختبارات روح الاجتماع بأسلوبه الشعري المنثور، ومن سمع رنة صوته الموسيقي أثناء الخطابة وإشاراته التي تأخذ بمجامع القلوب يعجب لهذا الاجتماعي الكبير، ويفتخر به؛ لأنه شرقي راق عاش بين الطبقة الراقية من الأميركيين، ونال شهرة ومكانا رفيعا، وله مكاتبات كثيرة مع كبرائهم وعلمائهم.
وإن كاتبا كبيرا وشاعرا متفننا في البحث عن أمراض الشرق، وتأخره الأدبي الاجتماعي، وفلسفة الحياة وما بأسرار الوجود، وخياليا يسبح في عالم التصورات الراقية، خليق بأن تسطر سيرة حياته ليطلع عليها الناس، وخصوصا الشرقي العربي، ويدرس نبوغه أبناء وطنه في بلاد الغرب.
أذكر شيئا من تاريخ حياته بمناسبة زيارته مصر في هذا الشهر «28 يناير سنة 1922»، واحتفال السوريين والمصريين بهذا النابغة، وتقدير روحه الكبيرة في جسمه النحيف. •••
Página desconocida
ولد أمين فارس الريحاني - أو فيلسوف الفريكة - في قرية «الفريكة» من لبنان الجميل في سنة 1876، وتعلم مبادئ اللغة العربية والإفرنسية في مدرسة صغيرة لمواطنه الكاتب الصحافي نعوم مكرزل، صاحب جريدة «الهدى»، وهاجر في العاشرة من عمره مع عمه إلى نيويورك حيث درس مبادئ اللغة الإنكليزية، ثم اشتغل بالتجارة خمس سنوات كان في أثنائها مثالا للاقتصاد وبساطة المعيشة.
وطالع تآليف كبار شعراء الإنكليز، فشغف بكتب شكسبير ورواياته، وتولد فيه ميل إلى فن التمثيل، فدخل ممثلا في شركة أميركية، وجال معها ثلاثة أشهر، ثم ترك هذا الفن الجميل لأسباب.
ودخل كلية نيويورك الفقهية، ومكث فيها سنة كان مثال الاجتهاد والذكاء، وبدأ منذ ذاك الحين بالكتابة والخطابة ونشر المقالات في الصحف الأميركية، وخطب عدة خطب بالإنكليزية في أندية ومحافل أميركية مشهورة.
واشتد عليه الضعف لإكبابه على الدرس في أثناء تحصيله في المدرسة، فأشار عليه الطبيب بترك الكلية، والرجوع إلى سوريا تغييرا للهواء، فسافر إليها عام 1898، وطالع في أثناء وجوده في بيته في لبنان نسخة من ديوان المعري، فأعجب بأفكار الشاعر الفلسفية وراقته، فمال إلى ترجمة الرباعيات إلى الإنكليزية.
ولما أنهى ترجمتها عرضها على شركة من أهم شركات طبع الكتب في أميركا، فقبلتها حالا، وبعد طبعها بدأت شهرة الريحاني، فأقام نادي الثريا الأميركي حفلة إكرام للسوري النابغة، خطب فيها خطبة نفيسة باللغة الإنكليزية، تقدم إليه بعدها رئيس النادي ووضع على رأسه إكليلا من الزهر، وسأله أن يتلو بعض الرباعيات ويسمع الحاضرين الفلسفة الشرقية والنبوغ السوري.
وكتب الريحاني في أثناء ترجمته الرباعيات مقالات كثيرة نشرها أكثر الجرائد العربية والإنكليزية، ونظم في الإنكليزية ديوانه المؤثر.
وفي عام 1904 عاد إلى سوريا، ومكث في قرية الفريكة مدة طويلة، وكتب في أكثر الجرائد العربية. وكان يكاتب المجلات الإنكليزية في أثناء عزلته التي ولدت في ذهنه فلسفة راقية. وطبع الريحانيات المشهورة في العالم العربي، التي تتجلى فيها الفلسفة الشرقية بالقالب الإفرنجي الشعري.
وطبع روايته الإنكليزية التي مثل فيها أخلاق السوري وعاداته، وشرح حالته في بلاد الغرب، تلك الرواية التي يذكرها الإنكليز بين أشهر رواياتهم: كتاب خالد.
وبعد إقامته في سوريا مدة طويلة رجع إلى نيويورك، وعاش عيشة الفلاسفة المعتزلين جائلا بين بروكلن ونيويورك وغيرهما خطيبا ومؤلفا وكاتبا في أشهر المجلات والجرائد الإنكليزية والعربية. وهو يكتب ويؤلف للذة يشعر بها، ولدافع طبيعي يحركه ليشرح فلسفة الاجتماع. وخطب عدة خطب في محافل سورية في أثناء الحرب العمومية حرك فيها عاطفة السوري وهمته لمساعدة أخيه في الوطن، وإنقاذه من أنياب الجوع، ومخالب الموت، واليد الظالمة.
أما معيشته فهي أنموذج البساطة واللطف، جمع فيها بين الرجل السوري الراقي والأميركي المتمدن، ونكب عن التبجح، وحب الظهور، واحتقار الغير، والادعاء، وعشق المال. وهو يجتهد في تطبيق أفعاله على أقواله، ولا يود تكليف غيره ما يستطيع هو أن يعمله. لا يقيد نفسه بالانخراط في سلك الجمعيات والخضوع لقوانينها. يعشق الحرية ولا يتذلل لينال غايته. مقر بضعفه، صادق بحديثه، مسامح لمن يسيء إليه، سليم النية، رقيق الكلام، بشوش الوجه.
Página desconocida
أما صفاته، فربع القامة مع ميل إلى القصر، رقيق العضل، نحيف البنية، واسع العينين، عريض الجبهة. كان منذ سنوات طويل الشعر، حليق الشاربين. أما الآن فشعر رأسه وشاربيه معتدل. وهو لا يزال في دور الشباب والنشاط. أكثر الله من نوابغنا ونفع بهم الوطن.
حفلات تكريمه
جزى الله الشدائد كل خير إذا جمعت بين القلوب، وحيت إليها إجلال غاية أدبية سامية، كما حدث في الشهر الماضي؛ إذ زار الأديب العبقري أمين الريحاني هذا القطر، فإنه قوبل فيه بسلسلة من الحفلات الشائقة، وتبارى علماؤها وشعراؤها في مدحه بخطب أنيقة نظما ونثرا، أكرم بها المصريون إخوانهم السوريين، والسوريون إخوانهم المصريين.
ولقد كان الأدباء يقابلون دائما بالحفاوة والإكرام في بلدان المشرق، ولكننا لا نعلم إن أحدا منهم لقي ما لقي الريحاني في زيارته لمصر هذه النوبة، كأن علماءها وأدباءها من مصريين ومتمصرين وجدوا في تكريم فنون الأدب فيه مهربا لنفوسهم من نزعات السياسة وأخاديعها، وسبيلا لشد أواصر الجامعة الشرقية، ومتسعا لإظهار ما تكنه ضمائرهم من الحب والإجلال لكل من رفع راية الشرقيين في البلاد الغربية.
بدأت الحفلات في منزل الدكتور يعقوب صروف، أحد أصحاب جريدة «المقطم» الغراء، ثم توالت في دار سليم أفندي سركيس، فمنزل السيدة بلسم عبد الملك، صاحبة مجلة «المرأة المصرية»، فمنزل إلياس أفندي زيادة، صاحب جريدة «المحروسة»، فدار الجامعة الأميركية، فسراي الأمراء ميشيل وحبيب وجورج لطف الله، فالكنتنتال بدعوة من طعان بك العماد، فساحة الأهرام بدعوة من الأستاذ أحمد زكي باشا.
ونحن واصفون كل حفلة على حدتها، وذاكرون ما قيل فيها من خطب وقصائد تبارى فيها الخطباء والشعراء، معتمدين في ذلك على أخبار الجرائد السيارة وما وصل إلينا علمه من بعض خطباء هذه الحفلات وشعرائها.
هذا ويجمل بنا قبل أن نذكر شيئا عن هذه الحفلات، أن نسطر - مع الفخر - بأن أول من اقترح تكريم الفيلسوف الريحاني، وإقامة حفلات لذلك، هو الأستاذ محمد لطفي جمعة المحامي؛ فقد نشر في «مقطم» يوم الأربعاء غرة فبراير 1922 الكلمة الآتية:
واجب الترحيب بكاتب
قرأت بمزيد السرور خبر قدوم الشاعر الناثر والمفكر الفيلسوف، أمين ريحاني، إلى هذا القطر منذ أيام.
وأذكر أنه زار مصر في سنة 1905 - أي منذ سبع عشرة سنة - إذ كانت النهضة القومية في مهدها، فلم ير من حياة الشعب الذي يتطلع لاستعادة حريته ما يكفي لتكوين عقيدته في مستقبل هذه البلاد. وكان الأستاذ ريحاني إذ ذاك في ريعان شبابه، ولم ينجز من مؤلفاته الجليلة إلا رباعيات المعري وفصولا من كتاب خالد.
Página desconocida
وقد مضى على تلك الزيارة نحو عقدين من السنين، قطع فيهما الشاعر الشرقي والمفكر الغربي مراحل بعيدة المدى في ساحة العلم والأدب، فألف الريحانيات التي دلت على علو كعبه في لغته الأصلية علوا لا يدانيه إلا اقتداره على اللغة الإنجليزية.
وقد خلد في تلك الصحف وادي الفريكة الذي نشأ فيه وترعرع؛ إذ وصفه في كتابه أجمل وصف، وحببه إلى من لم يزوروه ولم يعرفوا جماله. وكفى هذا الوادي فخرا أنه أنجب نابغة مثل ريحاني.
وقد زارنا للمرة الثانية ومصر كالقدر الغالية تحمسا وتطلعا نحو العلى، ونحو مستقبل تتمتع فيه بحقوقها المهضومة.
زار مصر للمرة الثانية، وقد بلغت نهضتنا أشدها، وصار فتى أمس رجل اليوم، والأمنية التي كانت تتردد في نفوسنا أوشكت أن تكون حقيقة واقعة، وسيتاح له أن يرى بعينيه ويسمع بأذنيه ما لم ير ولم يسمع في الزيارة السابقة؛ فأمامه شعب ناهض مثله كالنسر العظيم الذي أخذ الكرى بمعاقد أجفانه حينا، ثم بدأ نور الفجر يسطع، فبدأ النسر يفتح عينيه، ويحرك جناحيه، ويهز ريشه؛ ليسقط عنه آخر أثر من آثار الفتور والنوم العميق. ها هو النسر، أيها الكاتب الشرقي القادم من الغرب، ينظر إلى الشمس؛ لأنه يريد أن يتبوأ مكانه منها.
إن هذا النسر، أيها الشاعر، يبدو لك قويا وفتيا، ولكن إذا أنعمت النظر في رأسه وعينيه رأيت أنها تحمل آثار الحياة منذ آلاف السنين، ولكن ريشه لم يتغير لونه ولم يلحقه شيب؛ لأن الشيب علامة الشيخوخة والضعف. وهذا النسر مع عمره الطويل الغارق في بحار السنين الغابرة لا يزال صبيا وقادرا على النهوض لينشر جناحيه العظيمين، ثم يطير إلى حيث تطير النسور، ويحلق في سماء الحرية الصافية الأديم.
إن هذا النسر، أيها الشاعر الجليل، يحييك ويطلب منك أن تنظم له أنشودة جميلة تطربه وتساعده على النهوض. إن مصر العظيمة الجديدة القديمة، الجديدة الخالدة، تطلب من كل شاعر أن يغنيها صوتا يقوي من عزمها، أو ينشد حكمة تفت في عضد خصومها.
مصر ترحب بالشاعر اللبناني الذي غزا الغرب بقلمه، وجدد مجد العرب بشعره، وأحيا موات الأرض بخطبه وكتبه في وطنه، وتطلب إليه ألا يبقى في ضيافتها صامتا، وألا يتكلم بصوت خافت؛ لأن اليوم يوم المناصرة عن عقيدة وإيمان.
فهل يجيب شاعر الشرق هذا النداء؟
وإنني بهذه المناسبة أقترح على الكتاب والشعراء والأدباء في مصر أن يرحبوا بحضرة الشاعر الناثر الترحيب الذي يليق بمقامه العظيم في الشرق والغرب.
فصادف هذا الاقتراح هوى في نفوس الأدباء والشعراء، وارتياحا لدى ذوي الفضل والعرفان؛ ومن ثم ابتدأت تقام حفلات التكريم للأستاذ الريحاني، فكان أول الحفلات حفلة الدكتور يعقوب صروف. (1) الحفلة الأولى في منزل الدكتور يعقوب صروف
Página desconocida
دعا عصر يوم الخميس، الموافق 2 فبراير سنة 1922، حضرة الدكتور العلامة يعقوب صروف - من أصحاب «المقتطف» و«المقطم» - جمهورا من فضلاء مصر ورافعي لواء الأدب العربي فيها إلى حفلة شاي أعدها في منزله، بشارع عماد الدين؛ للترحيب بحضرة صديقهم الكاتب الشهير أمين أفندي ريحاني، فلبى المدعوون دعوته، وفي مقدمتهم حضرات أصحاب السعادة والعزة: إسماعيل صبري باشا، وأحمد تيمور باشا، وأحمد شوقي بك، وأحمد زكي باشا، وسعيد شقير باشا، والدكتور صيبعة، والآنسة مي، وخليل مطران بك، وعبد الحليم أفندي المصري، ونعوم شقير بك، والأستاذ محمد لطفي جمعة، وأسعد أفندي خليل داغر، والدكتور وديع بك برباري، وأنطون أفندي جميل، والدكتور شخاشيري.
فاستقبلهم رب الدار وعائلته الكريمة بالتكريم، وبعدما شربوا الشاي وتناولوا الحلوى، وقف حضرة الدكتور صروف وألقى كلمة شكر للمدعوين، وترحيب بالمحتفل به، نوه فيها بخدمته للأدب الشرقي في الشرق والغرب، وأطنب في براعته باللغة الإنكليزية التي نافس فيها أبناءها المجيدين، وتلاه حضرة الشاعر المجيد أسعد أفندي خليل داغر، فألقى أبياتا بليغة صفق لها السامعون واستعادوها.
وعقبه حضرة الشاعر البليغ عبد الحليم أفندي المصري، فتلا أبياتا جزلة وقعت أجمل وقع في النفوس، وأطربت سامعيها، فصفقوا لها مرارا، ثم نهض حضرة الأستاذ الفاضل محمد لطفي جمعة، فخطب خطبة نفيسة دلت على علو كعبه في الإنشاء والخطابة، وبلاغة التعبير، فقوطعت بالتصفيق والاستحسان، ووقف حضرة أمين أفندي ريحاني، فشكر الجميع بعبارات رقيقة دلت على شدة حبه للشرق، واعتباره كل بلد من بلدانه وطنا له، وكل شرقي مواطنا، فصفق السامعون كثيرا.
وظل الحاضرون بعد ذلك يتبادلون أطايب الحديث، ثم ودعوا حضرة صاحب الدعوة، وحضرة قرينته الفاضلة، وسائر أهل بيتهما، شاكرين ما لقوا من كرم الضيافة، وما دخل قلوبهم من السرور في هذه الحفلة الأدبية الشرقية. (1-1) قصيدة الشاعر المجيد «أسعد أفندي خليل داغر»
لك يا أمين على اللسان
1
وأهلها
فضل يحدث عنه كل لسان
محصت جوهر شعرها وسبكته
في غيرها في قالب الإتقان
Página desconocida
وملكت ناصية القريض وصغت في
كلتيهما منه عقود جمان
وأريت أهل الغرب أن الشرق لم
يبرح يذر أشعة العرفان
بلسانهم أحرزت تجلية على
فرسانهم في حومة الميدان
ولقد سمعت الروض عنك محدثا
نفسي بأفصح لهجة وبيان
ويقول: «إن أمين زهري نثره»
فتقول نفسي: «شعره ريحاني»
Página desconocida
والله يحفظ ضيفنا ومضيفنا
في غبطة ومسرة وأمان (1-2) خطبة الأستاذ لطفي جمعة المحامي
منذ عشرين سنة، تقريبا، لقيت أمين الريحاني لأول مرة، وكان إذ ذاك في مقتبل العمر، في الفترة الفنية من حياته «بريوت استيك»، متخلقا بأخلاق الكاتب الإنكليزي الشهير «أسكارويلد»، من حيث تنسيق الشعر وتصفيفه وانسداله على كتفيه، وحلق الشاربين واللحية، وكان يدخن الشبك على الطريقة الأمريكية، فلما رأيته كان يبدو في وجهه التشكك في كل شيء، في حياة الفكر والعقل والدين، وكان مثله كمثل السائح الذي لم يهتد بعد إلى الطريق.
وكان قد كتب الفصول الأولى من «كتاب خالد»، فقرأ لي بعضها، فأعجبت بما جاء على لسانه من وصف أحوال صديقه شكيب، ثم شرح لي مشروعه في تأليف رواية تمثيلية باللغة الإنكليزية يكون بطلها الإمام علي، وكلمني عن تأثير صوت المؤذن في ذهنه، فعجبت من ذلك الذي هجر الشرق وسافر إلى أقصى بلاد الغرب، وأكثرها ازدحاما واهتماما بالشئون الغربية، ومع ذلك فهو لم ينس أدق الإحساسات الشرقية.
إن الذين قرءوا كتب الأستاذ الريحاني في مصر قليلون، ولكن هذا لا يقلل من قدرها؛ فقد كتب في النقش والتصوير مقالات تعد من أجمل وأبلغ ما كتبه الناقدون. ولا غرابة؛ فإن الأستاذ الريحاني اختار لمشاركته في الحياة نفسا امتازت بإدراك أسرار الجمال وتكوينها، ونقلها إلى عالم المادة بفضل الألوان.
عرفت أمينا وهو لا يحسن اللغة العربية تكلما، فضلا عن كتابتها؛ لطول الشقة بينه وبين وطنه الأصلي، وقدمت له نسخة من أول كتاب ألفته، فنظر فيه ثم قال لي: سأضع أنا أيضا كتبا باللغة العربية. ولم يكن أمين ممن يعدون ويخلفون، أو يعزمون فيترددون؛ فإنه بعد بضع سنين قضاها زاهدا منقطعا عن الناس في صومعته بوادي الفريكة أخرج للعالم العربي كتابا من أجل الكتب، ألا وهو الريحانيات - الذي طبع منه جزءان وباق تحت الطبع مثلهما - فأثبت بكتابه هذا أنه قد بر بوعده، وأتقن لغة القرآن إتقانا يسمح له بالتحرير، فيجاري أكبر الكتاب أسلوبا وسلاسة وسلامة منطق.
أما عن الأفعال فحدث ما شئت؛ فهو مبتكر ومخترع. إن في مصر الآن مئات من أغنياء الأمريكان السائحين نراهم في الطريق، ونمر بهم غير مكترثين - وقد يكون بينهم ملك الحديد أو الفولاذ أو الذهب - ولكنا نكترث ونهتم لرجل قد لا يملك فولاذا ولا حديدا ولا ذهبا؛ لأنه وإن كان لم يمنح قوة المال، فقد منحته الطبيعة قوة امتلاك العقول.
رأيت الريحاني في تلك السنة مع شوقي بك، وكلاهما قصير صغير البدن، ولا غرابة؛ فقد امتاز النوابغ بصغر الأجسام، وكبر العقول.
نعوم بك شقير مقاطعا: نريد أن نعلم هل هذه الصفة قاصرة على الرجال أم تشمل النساء أيضا؟
الخطيب مستمرا: لقد وضعني نعوم بك شقير في موقف حرج، وها أنا أرى السيدات ينظرون إلي مترقبات ذلك الجواب الذي فيه فصل الخطاب.
Página desconocida
حقا، له الحق أن يقاطعني؛ لأنه رجل عظيم وطويل القامة أيضا، فهو يطالب بحقوق طوال النجاد.
فجوابي له: إن هذا الوصف وإن كان قاصرا على الرجال، فإنه لا يشمل النساء؛ لأن النساء عظيمات، طويلات كن أو قصيرات، فليس لنبوغهن شرط ولا قيد.
أعود إلى صديقي المحتفل به وأقول: إنما يكرم لأجل فكره وعقله، لا لأجل سبب آخر. وهذا دليل على أن الشرق - ولا سيما مصر - دائما تتعطش لتقدير النبوغ والاحتفال به؛ فرجل واحد عظيم قدير على إصلاح أمته. (2) الحفلة الثانية في منزل سليم أفندي سركيس
كان بعد ظهر السبت «4 فبراير سنة 1922» موعد حفلة الشاي التي أقامها حضرة الكاتب المعروف سليم سركيس أفندي، في منزله بمصر الجديدة؛ إكراما للكاتب الكبير أمين الريحاني أفندي، نزيل أميركا وضيف مصر الآن. وقد كانت الحفلة - كسائر حفلات سركيس - مجلى الأنس والظرف، ومظهر الذوق السليم، والأدب الصحيح، كما كان صاحبها على مألوف عادته خير صلة للتعارف بين أدباء مصر والشام وأميركا؛ فجمع في منزله حول المحتفل به طائفة كبيرة من أدباء القطرين ووجهائهما، نذكر منهما: الأميرين ميشيل وحبيب لطف الله، وأحمد زكي باشا، ومحمد المويلحي بك، وأمين واصف بك، ونعوم شقير بك، وأحمد حافظ عوض بك، وداود بركات أفندي، والأستاذ لطفي جمعة، وخليل مطران أفندي، وأيوب كميد أفندي، وأنطون الجميل أفندي، وسقراط بك سبيرو، وأميل زيدان أفندي، وطعان بك العماد، وإسكندر مكاريوس أفندي، وسليم حداد أفندي، وسليم المشعلاني أفندي، وإلياس عيسادي أفندي، وبعض السيدات.
وبعد أن أخذ رسم الحاضرين الفوتوغرافي، انتقل المدعوون لتناول الشاي في قاعة الطعام، وقد أثقلت موائدها بألطف أنواع الحلواء والأثمار والأزهار، وكان للخطباء جولة تشهد لهم بطول الباع في ضروب البلاغة وشئون الاجتماع، فافتتح الحفلة صاحب الدار بكلام شهي طلي رحب فيه بالضيف الكريم، وبالمدعوين الأفاضل، وتلاه الأستاذ لطفي جمعة المحامي، فتكلم عن الريحاني وبداية عهده به يوم كان يتلمس الطريق إلى المثال الأعلى، وقد لقيه اليوم وقد وجد ذلك الطريق، وسار فيه شوطا بعيدا في أشد البلاد تزاحما على الحياة، وأفاض الخطيب في وصف الداء القتال الذي يقضي على مواهب الشرقيين؛ وهو عدم قدر مواهب الرجال قدرها في شرقنا.
2
وخطب كذلك الشاعر الكبير خليل مطران، فأظهر ما للريحاني من الفضل بنقله إلى الغرب آداب الشرق، وتعريفه الأنجلوسكسون بفضائل الإسلام - وإن لم يكن مسلما - فحق للشرق أجمع أن يشكره على خدمته الجلى.
ودعي حضرة داود بركات أفندي إلى الكلام، فقال للريحاني: إن التاج الذي عقدته على جبهتك بأعمالك لم يتم؛ فالذي عملت لا يذكر بالنسبة إلى ما بقي عليك عمله، فإن مصر ولبنان والشام وسائر أقطار الشرق عرضة اليوم للمطامع المختلفة، فكن أنت في الغرب محاميا مدافعا عن الشرق حتى تفي بدينك للشرق الذي أنبتك.
وكان لسعادة العالم أحمد زكي باشا كلمة ضافية في الثناء على ضيف مصر الذي أذاع فضل الآداب الشرقية في الغرب، واستطرد إلى ذكر العرب ومفاخر الإسلام مستشهدا بالأدلة التاريخية والحجج العمرانية.
فقام أمين الريحاني أفندي وشكر أصدقاءه وإخوانه على احتفائهم به.
Página desconocida
وانصرف الحاضرون وهم يشكرون لسركيس أفندي، ولحضرة قرينته الفاضلة، وكريماته الأديبات ما لقوه في دارهم من الإكرام والحفاوة وحسن الضيافة. (2-1) خطبة سليم أفندي سركيس
الأصدقاء في «بورصة» الحياة هم النقد الحقيقي، وإنما الفقير من لا أصدقاء له، ثم إن الله جعل الأقارب كالجلد من جسد الإنسان لا سبيل إلى نزعه، أحسن أو أساء. وأما الأصدقاء، فإنهم كالثياب نحرص على الحسن منها، ونخلع الرث البالي. ولحسن حظي، كان أمين الريحاني صديقا لي منذ أكثر من 20 سنة، فتحول الآن إلى قريب؛ لأنني لم أجد في صداقته الطويلة ما يستوجب نزع ذلك الثوب القشيب، بل كان من سلامة تلك الصداقة، وارتقاء هذا الصديق في مراتب النبوغ، أنني صرت أفتخر بأنني - في مصر وسورية وأميركا نفسها - كنت ولا أزال أول صديق للريحاني الشاب، وأول صديق للريحاني الرجل، وأول صديق للفيلسوف الذي نحتفل به الآن، كما احتفلت به أميركا. فعلى الرحب والسعة أيها الصديق. (2-2) خطبة داود أفندي بركات «رئيس تحرير الأهرام»
يطلب مني حضرة الداعي الكريم سليم أفندي سركيس أن أقول كلمة في هذا الاجتماع الأدبي الشائق، الذي نحتفي فيه بأديب من أدبائنا الذين يحكمون الآن روابط الشرق بالغرب، ويخرجون من كنوز المدنية العربية جواهر يحلون بها جيد الآداب والعلوم.
ولو لم يكن علي لسركيس أفندي دين كبير لا مندوحة من وفائه بما يرضيه - وهذا الدين تشريفي بالاجتماع بكم، وبالاستفادة من حكمكم ودرر أقوالكم - لمكثت صامتا أسمع وأتعلم، ولمكثت في مخبئي أتغطى عن العيون والأنظار بظل السكوت؛ فإن لم أستطع أن أؤدي لسركيس أفندي ما يعادل دينه، فتلك جنايته على نفسه وعلي أيضا، ومن الحب ما يؤذي المحبين.
يقول لكم سركيس أفندي: إنكم تحبون بلا شك أن تسمعوا ذلك الذي يخاطبكم كل يوم من على قمة «الأهرام»، ولكن هذا الذي يخاطبكم كل يوم ما جرؤ أن يستخدم كلمة «أنا» لاعتقاده بضآلتها؛ فهو يغرقها ويواريها في ذلك الخضم الواسع الذي نعبر عنه نحن - الصحافيين - بكلمة «نحن»، فترون فيها الباحثين والمحدثين والمرشدين جمة؛ فإن كان القول حقا، فهو راجع إلى ما اقتبس من المجموع، وإلا فإنا نتقي بها مغبة الزلل.
والآن، أوجه الكلام إلى أخينا أمين الريحاني لأقول له: إنك قد سمعت من الخطباء والأدباء كلمات المديح والإطناب بعلمك وعملك، فاسمح لأخ يجل عملك كثيرا أن يقول لك: إنك إذا كنت قد ضفرت لنفسك تاجا من الأدب، فإن في هذا التاج دررا يقدرها العلماء والأدباء حق قدرها، ولكنك لا تزال في سن الشباب، ولا يزال في ذلك التاج مكان لدرر أخرى قد تكون أغلى وأثمن مما رأينا فأعجبنا.
فاعمل وجد لتتم تاجك وإكليلك، وتذكر أن عليك دينا آخر لا مندوحة لك عن وفائه، ذلك الدين هو وفاؤك لوطنك، وخدمة هذا الوطن الذي أنبتك؛ فقد تذكر الوادي والجبل والسنديانة والنبع والعين، فتذكر - كما نحن نذكر - أن من هناك استمدينا مطلع الحياة، وأن الأرض بما رحبت وبما تجلى فيها من عظمة لا تحول عيوننا ولا قلوبنا عما انفتحت عليه العيون للنظر، والقلوب للشعور والإحساس.
أفلا تسمع أيها الأخ صوت لبنان بكل كلمة نقولها؟
ألا تلمح من ذكراه هدير النهر، وخرير الماء، وحفيف الشجر، ولمع البرق، وقصف الرعد، وجلالة الطبيعة، وجمال الإخاء والحنو والعطف من كل شيء، ومن كل إنسان؟
إن وادي الفريكة أنبتتك، فهي وما ناوحها من الآكام والجبال، وجاورها من الأودية، أم رءوم لا يرضيها إلا أن تكون الابن البار.
Página desconocida
ذلك وطنك الصغير، ولك ولنا الوطن الكبير، وهو الشرق، وفي غرة هذا الشرق وجبينه مصر التي تقف منه كالمنارة؛ فإن أضاءت أرسلت نورها إلى الشرق كله شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا. وهذه المطامع تتجاذبها وتتجاذب الشرق كله؛ فارفع صوتك، ولنقل جميعا عند رفع الصوت بالحق كلمة الطحان الألماني - الذي طمع الملك فردريك بطاحونه ليوسع بها حديقة قصره: لا أعطيك وفي برلين قضاة.
ففي العالم أحرار ومنصفون يسمعون صوتنا إذا كان هذا الصوت هو صوت الحق إلخ إلخ. •••
وقد تخلف عن حضور هذه الحفلة الشائقة من المدعوين: الأستاذ الشيخ عبد المحسن الكاظمي، الشاعر المطبوع؛ فأرسل معتذرا بالأبيات الآتية:
إليك سركيس عذر المدنف العاني
عذر المطرق في سر وإعلان
ليت الضنى تاركي أو ليت لي جلدا
يعينني فأؤدي فرض إخواني
حي الأمين وحي كل محتفل
يرى الأمين وطرفاه قريران
بعثت روحي إليكم حين أقعدني
Página desconocida
عن القيام بذاك الفرض جثماني
قالوا سلا والصحاب الغر في طرب
وكيف أسلو أمينا وهو ريحاني
لبنان جادت علينا بابن بجدتها
وكم للبنان من فضل وإحسان
عسى تعود الليالي والهزار فمي
والروض روضي والأغصان أغصاني
إني لأحسد قوما ينعمون به
إن الضنى أبدا يسعى لحرماني (2-3) خطبة أمين أفندي الريحاني
لا أذكر يوما في حياتي الفكرية، يا سادتي، قدمت فيه الانتساب الديني على الانتساب الوطني. لا أقول ذلك فخرا ولا اعتذارا، إنما هي الحقيقة في مبدئي وسلوكي. وقد أكون مخطئا في تقديمي الوطن على الدين، ولكنني متيقن أن حجة بعد الموت لأكبر حجة، أما حجة الحياة - وهي حجتي - فهي عقلية أدبية تاريخية فلسفية، فإذا كان العقل والأدب، والتاريخ والفلسفة تضلل الناس، فإنا إذن من الضالين في هذه الدنيا، ومن المغضوب عليهم في الآخرة.
Página desconocida
ولكني وإياكم في دائرة واحدة، وإن تعددت طبقاتها، وعلي كما عليكم مسئولية واحدة، وإن تعددت أسبابها، فالأدب الحق إنما هو دين هذا الزمان، والأدباء الحقيقيون هم كهنته وأئمته.
وبما أن الأدباء المصريين والسوريين هم الحلقة التي تصل الشرق بالغرب؛ فالمسئولية عليهم أشد منها على سواهم، ولا بد من هذا الاتصال، يا سادتي؛ لأن عوامل التضامن اليوم، اقتصادية كانت أو علمية، أشد منها في كل زمان، ولا تستطيع أمة أن تستغني تماما عن بقية الأمم.
أما الصلة القوية الدائمة، الصلة الذهبية الصافية، فلا ينبغي أن تكون سياسية ولا دينية، بل أدبية علمية فلسفية، واقتصادية أيضا؛ فمن مدنية الغرب تجيئنا مثلا العلوم الكونية الحديثة، وإلى مدنية الغرب نتقدم نحن الشرقيين بالحي السليم الدائم من علومنا الروحية. وإن في مثل هذا التبادل الرقي الحقيقي، بل فيه تصل الأمم إلى أعلى درجات التمدين.
ومن جهة خصوصية، أرى أن على الأدباء السوريين مسئولية كبيرة تجاه الكمالات العقلية والاجتماعية. والحق يقال: إن أدبنا يظل ناقصا إذا كان لا يمزج بشيء من الأدب الإسلامي، والعكس بالعكس؛ فإن الآداب الإسلامية العربية لا تستمر حية نامية، عزيزة راقية، إلا إذا امتزجت بشيء من الآداب الإفرنجية. وفي هذا الامتزاج، يا سادتي، كنه الحياة الجديدة التي ستكفل للأمم الشرقية استقلالها التام، وترفع شأنها بين الأمم المتمدنة. (3) الحفلة الثالثة في منزل برسوم أفندي روفائيل وحضرة السيدة قرينته صاحبة مجلة المرأة المصرية
أقام بعد ظهر الاثنين «6 فبراير سنة 1922» حضرة الأديب برسوم أفندي روفائيل، وحضرة السيدة قرينته، بلسم عبد الملك، الكاتبة الشهيرة وصاحبة مجلة «المرأة المصرية»، حفلة شاي، في منزلهما بشارع العزيز بشبرا؛ تكريما لحضرة الكاتب الفاضل أمين أفندي الريحاني، فلبى دعوتهما فريق من رجال الفضل والأدب، وحملة الأقلام وأرباب الصحف العربية.
ولما كمل عقد المدعوين دعوا إلى تناول الشاي، فجلسوا إلى مائدة مزينة بالأزهار والرياحين، وعليها ما لذ وطاب، فأكلوا هنيئا، وشربوا مريئا. ونهض حضرة الدكتور منصور فهمي، وخاطب حضرة المحتفل به بكلمات طيبة، ثم وقف رب الدار وألقى كلمة بليغة خاطب المحتفل به، وأبان ما له من الأيادي البيضاء في خدمة العلم والأدب؛ فقوبلت بالتصفيق.
وعقبه حضرة الأستاذ الريحاني أفندي، وبعد أن شكر الداعين والمدعوين تكلم عن المرأة وما لها من التأثير الحسن في تربية أولادها، مما لا يلقن في المدارس ولا يجمع في كتاب، وشرح كيف أن الطفل في الحقيقة هو مربي الأم؛ فقوبلت أقواله بالإعجاب. ثم انتقل المدعوون إلى قاعة الاستقبال وجلسوا يتجاذبون أطراف الأحاديث - والحديث شجون - وانصرفوا وهم يثنون على حضرة برسوم أفندي والسيدة قرينته؛ لما لقوه من الترحيب والتكريم. (3-1) خطبة برسوم أفندي روفائيل
أستاذي الريحاني
إلى روحك الطيبة التي سطعت شمسها فيما وراء البحار في الدنيا الجديدة، وأرسلت أشعتها المحيية إلى وطنها الأول في الشرق، فبعثت روح الرجاء، وحركت العواطف النائمة من مراقد الغفلة، نرفع تحية عاطرة خالصة، ونرحب بك ترحيب الشرقي بأخيه الشرقي، وأنت في وطنك الثاني «مصر» بين إخوان تجمعهم وإياك صلات الأدب وصلات الوطن أيضا.
فقد كانت مصر وسوريا أختين في حياتهما الطويلة، وطالما اجتمعتا وتفرقتا واحتملتا آلام الشقاء، ومازالت توجد بينهما اللغة والعواطف والتذكارات التاريخية التي لا تمحى.
Página desconocida
إنك أرسلت «الريحانيات» - وهو حسنات الآداب في هذا الزمان - كتابا أوحى به إليك روح الفلسفة القديمة، الذي لبث يرفرف فوق وديان لبنان من القرون الغابرة، يبحث عمن يودع في روحه نور الحكمة القديمة ، ويفيض على نفسه روح الخلود، حتى رأى ذات يوم فتى ممتلئا حياة وقوة، ورأى فيه مخايل المجد العلمي والفلسفي للشرق، فهبط إليه، وأسر لقلبه سر الحكمة.
لقد كان الفتى يداعب العصافير المزقزقة «في وادي الفريكة»، «ويهتف لها»: أي طيوري الصغيرة، لو تعلمين ما في قلبي من العاطفة لما فرت أسرابك خيفة مني. إنني لا أحب الأذى، إنني أريد أن ينتشر السلام والإخاء والحب بين الناس، وأريد أن تعيش الطيور أيضا بسلام.
فما أسمى روحك وعواطفك يا أمين!
أتعرفون، أيها السادة، من هو ذلك الفتى؟ إنه فيلسوف وادي الفريكة، هو موضع احتفائنا وتكريمنا اليوم، هو الفيلسوف الكاتب الشرقي المتواضع صاحب التآليف القيمة باللغتين العربية والإنجليزية، وهو خير ممثل للنبوغ الشرقي في العالمين الأميركي والأوروبي: «أمين الريحاني».
سادتي:
ضاق وطن الريحاني بروحه الكبيرة، ولم يجد في وطنه منفسحا لمداها الواسع، فوثب بها وثبة إلى ما وراء البحار، وهناك بين أبناء سوريا الأمجاد أهل النجدة، أخذ يملأ الصحف والمجتمعات والأندية بما أودعه فيه الروح من الحكمة والفلسفة، وحمل لواء لغة الضاد، وأخذ يسير في طليعة مواكبها في تلك البلاد الأعجمية، حتى عشق فيها القلوب، وحبب فيها النفوس.
أيها السادة:
إن أمين الريحاني علم من أعلام الشرق الذين وضعوا بجهادهم الشريف الصامت أساس مدنيتنا وتضامننا الحديث، فحيوا في نفسه الكبيرة الطاهرة هيكل الفلسفة المقدس، حيوا السلام والفضيلة.
وإني لأنتهز هذه الفرصة لأقدم إليه، وإلى مقامكم الكريم، تحيات السيدة عقيلتي، وتحياتي على تنازلكم بقبول دعوتنا، وتشريف دارنا، كما أننا نتمنى لفيلسوفنا العظيم طيب الإقامة تحت سماء النيل الصافية، وعلى شاطئه السندسي. والسلام. (3-2) خطبة أمين أفندي الريحاني
في تطور المرأة الغربية محاسن لا تنكر، أريد أن أشير الآن إلى واحدة منها، بل إلى ما أظنه أهمها؛ وهو علم التربية.
Página desconocida
فالتربية الحقة عندهن مبنية على الآية: إن أبناءنا أصدقاءنا؛ أي إن السيادة الأبوية لا تتجاوز حد العقل والحكمة، وتنحصر كلها في مصلحة البنين.
وهذا النوع من التربية لا يلقن في المدارس، ولا في الكنائس، ولا في الاجتماعات العلمية، وليست أصوله محصورة في بطون الكتب، ولا في صدور الحكماء؛ إنما هو قائم بمراقبة الأولاد، ودرس أخلاقهم وأذواقهم وأمزجتهم وأطوارهم وميولهم، وتكييف التربية عليها، فالأولاد أنفسهم يعلمون الأمهات التربية.
أجل، إن الأمهات العاقلات الحكيمات يتعلمن كثيرا من بنيهن، فينفعنهم فيما يتعلمن عملا، مثال ذلك: إذا سأل الولد سؤالا، وكانت الأم تجهل الجواب، فلا ترد ابنها خائبا، ولا تضحك عليه بجواب كاذب، بل تبحث عن الموضوع، فتستفيد هي أولا وتفيد، وإذا كسر الولد لعبة تعلمه أمه إصلاحها، وإذا أضاع شيئا تحرمه من مثله إلى أن يقتصد من مصروفه اليومي ثمنه.
كذلك تعلمه البناء لا التخريب، تعلمه المسئولية ونتائج الإهمال، تعلمه الشجاعة والصبر وشظف العيش، تعلمه الاعتماد على النفس، تعلمه الإرادة والثبات والإقدام، تعلمه حب الوطن قبل كل شيء، وتعلمه فوق ذلك حرية القول وحرية العمل.
أجل سادتي، إن هنالك حرية أكبر من حرية المرأة وأعز، وهي الحرية التي توجدها المرأة في بنيها، وإن حب العلم نغرسه في قلوب البنات خير من العلوم والفنون نكرسها كرها في عقولهن، فإذا رغبت الفتاة بالعلم علمت نفسها المفيد لها كزوجة وكأم، وانتفعت عملا بعلمها، وإذا كانت لا تحب العلم، فعشرون سنة في المدارس لا تعلمها شيئا.
كانت ولم تزل التربية من واجبات المرأة، ولكن التربية الحديثة من حسنات تطورها، وغرس حب العلم في قلوب البنات - خاصة - من أهم قواعد التربية.
لا أريد بالعلم العلوم العالية أو الفنون السامية، بل المعرفة العقلية بأمور الحياة، بل التعود على البحث والاستقراء والتفكير والمراقبة، وكل هذه تؤدي بنا إلى العلم بالأمور والأشياء علما نستفيد به ولا ننساه، وشيء تخبره بنفسك ويرسخ في ذهنك خير من أشياء تتعلمها في الكتب، فإذا اقتدت المرأة الشرقية بالمرأة الغربية في ذلك فقط، نستغني عن العلوم الفلسفية والرياضية والسياسية كلها. (4) الحفلة الرابعة في منزل إلياس أفندي زيادة صاحب جريدة المحروسة
دعا في مساء اليوم «الجمعة 10 فبراير سنة 1922» إلياس أفندي زيادة، صاحب جريدة «المحروسة»، جمهورا من الفضلاء والكتاب والشعراء إلى حفلة شاي أقامها في منزله، بشارع المغربي؛ للاجتماع بحضرة الكاتب الشهير أمين أفندي الريحاني، والاشتراك في تكريمه، فأقبل المدعوون في الموعد المعين، وكانوا يقابلون بالترحيب، فكانت حفلة شرقية توافرت فيها أسباب السرور والصفاء. وبعدما استقر بهم المقام، وتبادلوا التحيات، وتجاذبوا أطراف الحديث، أديرت عليهم الحلوى والشاي من «بوفيه» فاخر.
ثم وقفت حضرة الكاتبة الشهيرة، الآنسة «مي»، كريمة صاحب الدعوة، فخطبت خطبة بليغة أجادت فيها ما شاءت الإجادة، فوصفت المحتفل به في شعره ونثره، وخدمته للشرق والأدب الشرقي، وصفا شمل «وادي الفريكة» الذي خلده بشعره ونثره، فأعجب السامعون بحسن بيانها، وثبات جنانها، ومقدرتها على إبراز المعاني السامية في قوالب البلاغة العربية التي تأخذ بمجامع القلوب، فكانوا يصفقون لها استحسانا، ويكررون عليها الثناء.
وألقى حضرة الشاعر البليغ أسعد أفندي خليل داغر أبياتا رقيقة في مدح الريحاني والآنسة مي، جمعت بين رقة العاطفة ومتانة التركيب. وتوالى الخطباء؛ وهم حضرات الأفاضل: أحمد حافظ عوض بك، والدكتور منصور فهمي، وداود أفندي بركات، والدكتور فارس نمر، فتكلموا بموضوع الحفلة، وأفاضوا في نهضة الشرق، وتضامن شعوبه، منوهين بخدمة الريحاني للشرق؛ بنشر لواء آدابهم في عالم الغرب، وتمنوا أن يكثر الله من أمثاله لخير الجميع، فقوبلت أقوالهم بالاستحسان والتصفيق.
Página desconocida
وكان مسك الختام كلمة رقيقة للمحتفل به، أشاد فيها بفضل الكاتبة الشهيرة مي على الأدب الشرقي، وشكر الجميع على ما يلقى من الحفاوة والترحيب، وبسط الكلام في نهضة الشرق وما يجدر بأبنائه في دور النهضة الحاضرة، فوقعت أقواله موقع الاستحسان والاعتبار.
وعاد المجتمعون إلى التحدث فيما كان موضوع خطب الخطباء، وأصحاب الدعوة يبالغون في تكريمهم، ثم خرجوا مودعين رب البيت، وحضرة قرينته الفاضلة، وكريمته النابغة، شاكرين ما لقوا من الكرم والإكرام، متمنين أن تكثر مثل هذه الاجتماعات لتوثيق عرى الألفة بين أدباء الشرق، وتنشيط النهضة الشرقية. (4-1) خطبة الآنسة مي
أيها السادة:
من رقيق العادات أن القوم إذا نزل عليهم عزيز جاءوا بأصغرهم سنا وشأنا يهدي إلى الضيف الأزهار، ويلقي بين يديه كلمات الترحيب، كأنهم بذلك يقولون للزائر: إننا نقدر قدومك تقديرا يعجز دون وصفه الكبير فينا، وإنما نقدم لك الطفل اعترافا بهذا العجز، ودلالة على أن الكبير عندنا والصغير سواء في الشعور بالاغتباط والامتنان.
وعلى هذه العادة جرى أبواي فقدماني - أنا أصغر أعضاء البيت - لأشكر لكم تشريفنا بحضوركم، ولأرحب بكم بالكلمة العربية البسيطة التي لا يزيدها الاستعمال إلا عذوبة وجمالا: أهلا وسهلا. لقد جئتم أهلا، وأرجوكم أن تتناسوا طول السلم؛ ليتسنى لي أن أضيف: ووطئتم سهلا.
ولكن لا بأس بالصعوبة أحيانا، وأكاد أقول: إن قيمة الأعمال تقدر بالتغلب على المصاعب، ولا بأس بشيء من التعب للاحتفاء بمن هو بالاحتفاء حقيق. ليس غرضي هنا التنويه بأمين أفندي، والإشادة بذكره - وهو أمر ما فتئ يقوم به رجالنا الأفاضل من مصريين وسوريين منذ أن حل مترجم المعري بوادي النيل - غير أني ما ذكرت الريحاني إلا ذكرت أنه كان جليسي يوم كنت أتلقن اللغة العربية على نفسي، أتلقنها على حبي لهذه اللغة التي أباهي بأني لم أدرسها على أستاذ. كان جليسي في «الريحانيات»، وقد كانت «الريحانيات» من الكتب الخمسة أو الستة التي عرفتني باتجاه الفكر العربي الحديث في صيغتي الشعر والنثر.
استهل الجزء الأول من «الريحانيات» بمقال وصف فيه مسقط رأسه «وادي الفريكة»، ذلك الوادي الذي أحبه، وتغنى بمحاسنه، راسما منه الصخور والأشجار والمرتفعات والمنحدرات والألوان والأصوات، مصورا ما أحاط به من الجبال المتعانقة عناقا أبديا تحت رعاية الأفق المخيم عليها، مستحضرا منه المياه المتدفقة، والرياح العاصفة، والشمس المشرقة، والكوكب المتلألئ.
يا لجمال روح الريحاني في مقال «وادي الفريكة»! قال «رسكن»: «إن جمال المشاهد الطبيعية كثيرا ما يقوم بما مر عليها أو وقع فيها من حوادث تاريخية أو فردية.» كذلك تشبعت عندي جميع صفحات الكتاب بحياة من «وادي الفريكة»، وصرت كلما قرأت فصلا خلته مكتوبا في ذلك الكهف، أو تحت تلك الشجرة، أو عند ذلك الغدير.
وأرى الريحاني سائرا في معاطف الوادي تحت سيول الأمطار، هائما بالطبيعة في انفعالها وغضبها، طربا لتساقط الأوراق، متسائلا عمن فتح تلك الطريق الصغيرة بين الأشواك والأدغال، ومطلقا عليه اسم «بطل الوادي »، ثم يقف متفهما معنى السكينة بعد العاصفة، متنشقا بنسمة واحدة خليط أنفاس الوادي.
صرت أحسب «وادي الفريكة» هيكلا يأوي إليه الريحاني ليتأمل ويبحث ويفكر - والفكر صلاة الفيلسوف، على رأيه - حتى إذا ما كشر المجتمع عن أنيابه ليؤلمه وينسيه لحظة الجمال والحقيقة والصلاح، حتى إذا ما أوجعته الصغائر وأمضته الجراح، سأل الوادي تعزية، ودوزن قيثارته مناديا ربة ذلك الهيكل الطبيعي قائلا: داويني ربة الوادي داويني، اغسلي جرحي وضمدي كلومي، أعيدي إلي ما سلبتني الآلام من مجد الحياة الشعرية، وأزيلي عن أجفاني كآبة الأجيال. داويني ربة الوادي داويني، ربة الإنشاد أصلحيني.
Página desconocida